الترجمة من العبرية إلى لغة الضاد تغضب المصريين

اتهامات لفاروق حسني بتليين موقفه من إسرائيل لاقتناص منصب اليونسكو

TT

أثارت الترجمة من العبرية إلى العربية، باستمرار، حساسية كبيرة في مصر والعالم العربي. وجاء إعلان «المركز القومي للترجمة» في مصر، مؤخرا، عن نيته ترجمة كتابين عبريين إلى العربية، عبر لغة وسيطة، ليعمق الشرخ، ويطرح المزيد من الاعتراضات. هذا الإعلان اعتبره البعض خرقا لقرار وزارة الثقافة المصرية بعدم التطبيع ورفض الترجمة من العبرية، فيما اتهم آخرون وزير الثقافة فاروق حسني بتقديم تنازلات للحصول على مقعد المدير العام لمنظمة اليونسكو. فهل دخلت مصر عصر التطبيع الثقافي بالفعل، أم هي زوبعة في فنجان؟

كلما كان «محمد نعيم» يقرأ سطرا في كتاب يحكي السيرة الذاتية لحياة الرئيس الإسرائيلي، شيمعون بيريس، كان يقف طويلا، ليدون الملاحظات ويقارن الوقائع ببعضها، خاصة الجزء الذي يروي تفاصيل ولادة المشروع النووي الإسرائيلي ورحلة بيريس إلى فرنسا ولقاءاته مع المسؤولين هناك، وكيفية حصوله على الأسرار والمساعدة التقنية، التي مثلت بذرة إنشاء المفاعل الأول بصحراء النقب. لم يكن خافيا عليه كإعلامي مصري، أهمية ما حواه هذا المؤلف العبري، بالنسبة للمتخصصين العرب الساعين إلى معرفة الاستراتيجيات العسكرية للمشروع الصهيوني منذ بداياته. توجه محمد من فوره إلى «قسم اللغة العبرية» بالمركز القومي للترجمة ليودعهم الكتاب الذي حصل عليه بطرقه الخاصة، كي يفحصه القائمون على العمل هناك، ويصدرون له الإذن بالترجمة. لكن نعيم، كغيره من دارسي اللغة العبرية التواقين لصدور مؤلف يحمل أسماءهم كمترجمين، انتظر أياما ثم شهورا، دون أن يتلقى ردا من المركز. وبعد أن تعب من كثرة السؤال، أسرّ له أحدهم بأن هذا النشاط بالذات لا يضطلع به المركز على نحو فعلي. وهو باختصار مجرد لافتة، «على بلاطة» حسبما درج على لسان المصريين.

* دراسة بلا هدف

* كليات الآداب بكافة الجامعات المصرية دون استثناء تزخر بأقسام لدراسة اللغة العبرية، بما فيها جامعة الأزهر الإسلامية العريقة. ولكن أيا من خريجي تلك الكليات لا يتمكن من شق طريقه في الترجمة بذات السهولة التي يفعلها دارسو اللغات الأخرى، بسبب لافتة أخرى ترفعها وزارة الثقافة المصرية ترفض «التطبيع الثقافي مع إسرائيل»، ولكنها، بعكس لافتة القسم العبري بالمركز القومي للترجمة، فاعلة وذات تأثير على أرض الواقع، وليست مجرد شعار.

وتعتبر وزارة الثقافة التعامل مع الجانب الإسرائيلي ماديا، من خلال شراء حقوق الطبع والترجمة، تطبيعا لا ينبغي المضي فيه قدما إلا بحدوث تقدم على أرض الواقع في عملية السلام، حسبما أوضح الدكتور حسن علي، الذي أشرف لسنوات على البرنامج العبري، وترأس شبكة الإذاعات الموجهة باتحاد الإذاعة والتلفزيون المصري. وقال الدكتور حسن علي: «يكفي ما أمامنا من صحف ومواقع على الإنترنت ومحطات تلفزيونية لمعرفة مواقف إسرائيل والتطورات التي تعتري المجتمع هناك». وأضاف: «حتى هذا كله، ننتقي منه في إعلامنا ما يخصنا ويخدم مواقفنا. فهذا كاتب ينتقد سياسة الاستيطان وذاك آخر ينصح حكومته بقبول حلول السلام. هذا ما نأخذه فقط من إعلامهم».

* تعاقدات جديدة

* لكن أخيرا، أعلن المركز نفسه (المصري للترجمة) أنه يتجه للتعاقد مع دار نشر أوروبية لترجمة مؤلَّفَين للكاتبين الإسرائيليين عاموس عوز، وديفيد غروسمان، إلى اللغة العربية. جابر عصفور مدير المشروع أعرب عن أمله في أن يتم ذلك التعاقد مع الناشرين الفرنسيين أو البريطانيين قبل بداية يوليو (تموز) القادم، مستدركا: «ولكن هذا سيتم من غير المرور بالناشرين الإسرائيليين».

وتعد هذه هي ثاني محاولة من جانب «المركز المصري» لترجمة كتابات عبرية عبر لغة وسيطة بعد إصدار المركز نفسه، في التسعينات، كتابا عبريا عن اللغة الإنجليزية، وترجمته عنها إلى العربية، وهو بعنوان «قصص اليهود».

«لا يمكن النظر إلى هذه الاستراتيجية المثيرة إلا كونها إحياء للمنطق المعروف: ودنك منين يا جحا»، الذي يشير إلى أذنه اليمنى بيده اليسرى بدلا من استخدام اليد الأقرب، على حد وصف الدكتور عماد جاد، رئيس تحرير سلسلة «مختارات إسرائيلية» التي تصدر عن مؤسسة الأهرام، متضمنة فصولا من كتب إسرائيلية تهم القارئ العربي المتخصص في الشأن الإسرائيلي. جاد أشار إلى أن الترجمة عبر لغة وسيطة، مجرد محاولة سياسية لإمساك العصا من المنتصف. فوزير الثقافة يختار طريقا مستحيلة بين إرضاء الإسرائيليين وعدم إغضاب الإسلاميين.

ويرى عدد من المثقفين العرب أن حرمان المتخصص العربي من الاطلاع على الأعمال العبرية، يعد بمثابة معاقبة العرب لذاتهم، خاصة أنهم ينبغي أن يعرفوا حقيقة هذا الكيان الإسرائيلي القابع وسط عالمهم. «فكم من العرب يعرف مثلا أن إسرائيل تصدِّر لحلف شمال الأطلسي أجهزة رؤية ليلية؟»، كما يتساءل جاد.

* الخيط السياسي الرفيع

* الترجمة مصطلح يرادف مفهوم المعرفة ويضاهيه. و«ليس من المعقول التشدق بموضوع معارضة التطبيع مع إسرائيل كذريعة لحرمان الشغوفين بتلقي المعرفة»؛ هكذا يوضح جاد، ويضيف: «معظم الناشرين الإسرائيليين لديهم استعداد لترجمة ما طبعوه، إلى العربية، دون أي مقابل مالي. وبالتالي لا داعي للتخوف من مسألة التعامل المادي مع الناشرين».

وقال جاد: إن الأمر لا علاقة له بالثقافة وتتبع حق القارئ في المعرفة. فقد بدأ سياسيا بمحاولة طمأنة نواب إسلاميين في البرلمان من خلال تصريحات أدلى بها وزير الثقافة المصري، وأثارت جدلا سياسيا كبيرا، حينما تعهد بإحراق أي مؤلَّف إسرائيلي، إن وجد في مكتبات الوزارة. وها هو الوزير ينتهي، من خلال حملته لاقتناص مقعد اليونسكو، إلى التسامح ورفع بعض القيود عن الترجمة من العبرية، وإن كان ذلك من خلال لغة وسيطة.

المشكلة أن الترجمة عبر لغة ثالثة، تفقد النص الأصلي الكثير من مضامينه. فلكل لغة عبقريتها الخاصة، وحينما يتم النقل من لغة إلى أخرى يغيب عن هذا النَّص عدد من خصائصه، فما بالنا بالنقل من لغة منقولة أصلا. وإذا كان الأمر يتعلق باللغة العبرية على وجه الخصوص، فإن الترجمة إلى العربية تكون أكثر دقة مما لو تمت الترجمة إلى إحدى اللغات الغربية، حسبما يقول جاد، فكلاهما لغة سامية من أم واحدة. وبالتالي فالمترجم العربي يكون في الأغلب أكثر كفاءة في مدى استيعابه للنص العبري من نظيره في بريطانيا أو فرنسا.

* مقاطعة ثقافية

* وكان المشروع القومي للترجمة، بمصر، قد أصدر خمسة كتب نقلا عن اللغة العبرية من بين إصداراته الأولى، قبل أن يتحول المشروع إلى مركز، وتنتقل تبعيته لوزارة الثقافة. ولم يصدر عن المركز أي كتاب ألفه إسرائيلي أبدا، بعد طبع كل من «العلاقات بين المتدينين والعلمانيين في إسرائيل» و«تاريخ يهود مصر في الفترة العثمانية» و«تاريخ نقد العهد القديم من العصور القديمة إلى العصر الحديث» و«شخصية العربي في المسرح الإسرائيلي» وأخيرا كتاب «العربي في الأدب الإسرائيلي».

كل هذا توقف «لرفض الوسط الثقافي في مصر أي تطبيع للعلاقات مع إسرائيل. فلا يمكن لوزارة الثقافة التعامل مباشرة مع الناشرين الإسرائيليين لأن هذا يثير عاصفة من الاحتجاجات في مصر والعالم العربي»، كما أعلن جابر عصفور، مدير المركز القومي للترجمة في تصريحات له مؤخرا. وعلى الجانب الآخر قالت بيني شاروني الملحقة الثقافية بالسفارة الإسرائيلية بالقاهرة: «لا يوجد تعاون على الإطلاق مع الجانب المصري. نشعر بالأسف لرفض الروائي المصري علاء الأسواني عروضا من ناشرين إسرائيليين لترجمة أهم أعماله (عمارة يعقوبيان) إلى العبرية». بينما تُرجمت كافة أعمال الأديب المصري، الذي حاز جائزة نوبل، نجيب محفوظ، في إسرائيل.

إسرائيل، من جانبها، تتابع باهتمام بالغ كل ما تبثه عنها وسائل الإعلام العربية، وليس هذا بغريب، من وجهة نظر الدكتور حسن علي، الذي شغل أيضا منصب وكيل وزارة الإعلام المصرية في السابق. وهو يقول من واقع تجربته إن إسرائيل متلهفة للتعاون في كافة المجالات مع مصر، والمجالان «الأكاديمي» و«الثقافي» يأتيان على رأس أولوياتها، ولكن ـ يتابع حسن علي ـ «هذه ورقة، لا نفرط فيها هكذا دون ثمن. فلا بد للجانب الإسرائيلي من أن يبدي حسن نواياه تجاهنا كعرب، وأن يسعى جادا على طريق حل القضية الفلسطينية، وأن يتوقف عن أعماله الاستفزازية»، بحسب الدكتور علي الذي يشدد على تأييده لموقف الحكومة المصرية في عدم التعامل مع إسرائيليين في هذا الجانب.

* معلومات مشبوهة

* وفي مصر، هناك دوما تشكيك وتأويل سياسي لأية حكاية منقولة عن اللغة العبرية، فقط لأنها وردت بتلك اللغة التي يعدها البعض «مشبوهة»، حتى وإن كانت تتحدث عما يقع داخل إسرائيل. هذا الهاجس، سرعان ما يزول إذا جاء ذات المضمون من وكالات غربية باللغة الإنجليزية. وكثيرا ما تترجم الكتابات العبرية وخاصة ذات الأهمية الاستراتيجية، إلى اللغة العربية ولكن في نطاق محدود للمتخصصين. ولا يُسمح بتداول تلك الكتابات على نطاق واسع، لأن هناك شعورا سائدا بأن القارئ العربي «ضعيف» و«سريع التأثر» أمام ما يقرؤه، كما يروي «الإعلامي نعيم»، شاكيا من التدخل الذي يغيِّر أحيانا من مضامين ما يكتب، نقلا عن العبرية قبل نشرها في بعض الصحف المصرية.

بيد أن هذا الاعتقاد لا يستند إلى دراسة إحصائية. ليس لأن القارئ العربي محصن ضد ما عُرف في وقت من الأوقات بـ«الغزو الثقافي»، ولكن لأنه لا يقرأ أصلا، حسبما يصدمنا الدكتور جاد، مدللا على ما يذهب إليه بكون النسخة الواحدة من الإصدار الذي يشرف عليه «مختارات إسرائيلية»، تكلفتها ثلاثة أضعاف الثمن الذي تُباع به في الأسواق. ولكن، على الرغم مما فيها من كتابات قيمة، فإن أرقام التوزيع لا تتناسب مع شعب تعداده 80 مليون مصري. ويتساءل جاد مستنكرا: لماذا هذه الرهبة إذن؟