ممارسة عربية لنمط الرواية الفرنسية الجديدة

«السيدة من تل أبيب» لربعي المدهون

السيدة من تل أبيب ـ المؤلف: ربعي المدهون ـ الناشر: المؤسسة العربية للدراسات والنشر بيروت ـ لبنان
TT

إذا وضعت جانبا قالبها المعاصر، يمكنك قراءة رواية ربعي المدهون الجديدة «السيدة من تل أبيب»، كإحدى حكايات ألف ليلة وليلة. ثمة راو مراوغ لا يعتمد عليه، كثيرا ما يصر، وبمكر في أغلب الأحيان، على أن يضعنا على الطريق الخطأ. فهو يروي لنا حكاية حول الحب والفراق، لنجد أنفسنا أمام حكايات أخرى متداخلة في إطار السرد الأوسع، مثل دمى الماتريوشكا الروسية المتعددة. ومن دون أن نعرف ذلك في البداية، يأخذنا الكاتب عبر رحلة في عالم خيالي، تشعر شهرزاد خلالها بأنها في بيتها.

ظاهريا، تدور القصة حول مؤلف فلسطيني مغترب (وليد دهمان)، يعيش حاليا في بريطانيا، يحكي قصة مغترب فلسطيني آخر (عادل البشيتي)، يعمل محاسبا حيث يقيم في فرانكفورت في ألمانيا، لكنه يعود إلى غزة باحثا عن فتاة أحبها قبل 30 عاما. خلال تلك العقود الثلاثة تتزوج المحبوبة من قريب لها، فيما يتزوج المحاسب المتيم من امرأة ألمانية، ويعيش في الغرب حياة رجل ينتمي إلى الطبقة الوسطى. بعد عقد من الزواج، يخسر العاشقان السابقان شريكيهما. المرأة الغزاوية تصبح أرملة بعد أن قتل قناص إسرائيلي زوجها، والمحاسب المحروم يعيش تجربة الطلاق الأوروبي الغربي القاسية.

يشتغل الروائي وليد دهمان على حكاية الحب والفراق هذه، التي تبدو عادية في ظاهرها، فيرى فيها إجمالا، مشهدا من مشاهد مسرح الظلال الصيني. وربما لهذا السبب وضع لروايته التي يفترض أنه يكتبها، عنوان «أرض الظلال». ولكي يضفي على روايته صبغة واقعية، يقرر وليد أن يخطو بنفسه داخل عالم الظلال، فيقوم برحلته الخاصة إلى غزة بعد أن أمضى قرابة أربعة عقود في المهجر. تقود هذه الخطوة إلى تحول رائع في الأدوار بين وليد الروائي وبطل قصته عادل. وفي طريقه إلى غزة يلتقي وليد ممثلة إسرائيلية (دانا أهوفا) نعرف منها أن لديها سرا يتعلق بابن زعيم عربي بارز. وهكذا نجد أنفسنا فجأة في مسار روائي ثالث ينقلنا من الخيال إلى الواقع. وفي غزة، تدب الحياة في ما كان ظلالا. وربما أراد الكاتب بذلك التعبير مجازيا عن حلم الفلسطينيين بالعودة إلى وطنهم ذات يوم، وترك حياة المنفى الوهمية التي يعيشونها.

بعيدا عن سرد حكاية بطل قصته، ينجح الروائي في قيادة بطله نحو حياته المفقودة. وبكلمات أخرى، لا يكتفي الروائي بالكتابة عما يحتمل أن يكون واقعا، بل يصنع واقعا.

يعود وليد إلى لندن وقد بدا أنه أكمل مهمته، فيتلقى مكالمة هاتفية من الممثلة الإسرائيلية دانا تطلب مقابلته، وتعده بأن تكشف خلالها «السر الذي لديها». تنفتح شهيتنا، ونبدأ في ترقب هذه المقابلة، لكنها لا تقع أبدا إذ يختفي الروائي وهو في طريقه إلى المقابلة.

في أحد مستوياتها، يمكن قراءة رواية المدهون الجديدة، كممارسة عربية لنمط الرواية الجديدة الفرنسي الذي كان رائجا في ستينات القرن الماضي. ويذكر اللعب الذي يمارسه المدهون بمفهوم الزمن، القارئ بالفرنسي ميشيل بوتور. بينما تذكرنا الأجواء الغريبة التي يتفاعل فيها الواقعي والمتخيل بأفضل أعمال ألان روب غرييه. بيد أن أسلوب الرواية التي تنطوي على حنين مر للوطن، ولعبها الدائم على فكرة الضياع والعودة، يظهرانها بصورة بعيدة عن تلك البرودة التي اتسمت بها الرواية الجديدة في فرنسا الستينات.

من بين أبرز سمات رواية المدهون، على الأقل بالنسبة للقارئ، نجاحه في إظهار أن الفلسطينيين والإسرائيليين ـ سواء أحبوا ذلك أم لا ـ يقتسمون حاليا أرضا واحدة، في ما يفترض أنه واقعهم الوجودي الخاص المتبادل.

من خلال اعتماده رواية داخل الرواية، وتوسيع إطار الأحداث لتمتد عبر قارتين، وتدور في العديد من الدول، وسع المدهون من أفقه بما يتجاوز حدود إسرائيل ـ فلسطين، والكفاح المرير الذي سطر بالدم والدموع التاريخ المعاصر ذا الصلة. كما قام بنقل القارئ إلى ما وراء السرد المانوي، حيث الفلسطيني هو الضحية والإسرائيلي هو المعتدي. أليس ممكنا أن يكون الطرفان ضحيتين لقوى أكبر، في تاريخ نجد نحن البشر العاديين صعوبة في تعريفه؟.. أو ماذا لو كان كل منهما مؤلفا لمأساته الخاصة؟.. ربما لا يجد قراء كثيرون ضرورة في أن يشغلوا أنفسهم بهذه التأملات السياسية و/ أو الفلسفية، فسوف يكونون سعداء بمتابعة حكاية تروى بشكل جيد، وبسرد جذاب بقدر ما هو مثير.

جاءت رواية المدهون الجديدة أقصر، ولكنها أكثر كثافة من روايته السيرية «طعم الفراق» التي نشرت قبل ثمانية أعوام. وتظهر رواية «السيدة من تل أبيب» المدهون، وهو الآن في منتصف الستينات من عمره، في ذروة قدراته الروائية.

«السيدة من تل أبيب» رواية مليئة بالطرف والمواقف المبكية، وقراءتها ممتعة أيضا.