ثقافة «التعايش الديني» تعيد سورية إلى الخريطة السياحية

4000 موقع أثري روحي فوق الأرض والكثير تحتها

TT

من يذهب إلى سورية اليوم، لا بد أن يلفته العدد الكبير من السياح الذين يزورون، بشكل أساسي، المواقع الدينية التي أحيطت برعاية رسمية خاصة، وتمت تهيئتها، لتكون في صدارة المشهد. أمر لم يكن شائعا قبل سنوات قليلة، فما الذي يحدث في سورية؟ ولماذا التركيز الآن وليس قبلا على تراث الديانات المختلفة التي تعايشت هناك، ولا تزال. تحقيق يلقي بالضوء على سياسة لها دلالاتها العميقة.

في ساحة كبيرة تلتف حول مزار أثري صغير، تجمع آلاف الزوار ليلة العشرين من يوليو (تموز) الماضي للاحتفال بعيد «مار الياس» أو «مير الحي» بحسب التعبير الشعبي، في منطقة القصير التابعة لمحافظة حمص (200 كم شمال غربي دمشق)، والواقعة على الحدود مع لبنان قريبا من الهرمل ونهر العاصي. «مير الحي» المعروف بالنبي إيليا، المولود ما بين عامي 875 ـ 853 ق.م، يحظى بمكانة خاصة لدى أبناء المنطقة من جميع الطوائف. فهو أحد الأنبياء الوارد ذكرهم في الكتب المقدسة. ومنذ زمن طويل، تحولت مناسبة استذكار قصته السنوية إلى احتفالية شعبية، تعكس حالة التعايش الديني والاجتماعي التي تتميز بها منطقة القصير بتركيبتها الاجتماعية شديدة التنوع، وبتداخلها الجغرافي مع لبنان. حيث نجد قرى سورية يسكنها لبنانيون، ولبنانيين يقصدون المدينة للتبضع، وممارسة نشاطاتهم وأعمالهم اليومية، أو زيارة الأماكن المقدسة. ولعل يوم عشرين يوليو من كل عام يمثل نموذجا حيا ومكثفا لهذا التنوع والتداخل، نشاهد فيه لبنانيين مسيحيين يأتون إلى «مير الحي» بقصد تعميد أبنائهم في المزار، وآخرين من طوائف أخرى يقصدونه للتبرك على أمل تحقق الأماني الصعبة كالشفاء من مرض أو عودة غائب، إلخ.

رغم الخصائص السياحية التي تتميز بها هذه المنطقة الغنية بالماء والخضرة، لوقوعها على مقربة من منابع نهر العاصي والبالغ عدد سكانها حوالي 120 ألف نسمة، فإنها لا تزال بعيدة عن المشاريع السياحية والتنموية سواء الحكومية أو القطاع الخاص. وهو أمر لافت في بلد أخذ يدرك أهمية السياحة الدينية، وما يحتويه في أرجائه من كنوز تغطي جنوبه حتى شماله؛ من أضرحة ومزارات ومساجد وكنائس وكنس ومعابد تاريخية تنتمي لأكثر من عشرين حضارة تعاقبت على أرض سورية منذ أكثر من أربعة آلاف عام، خلفت وراءها ما تتباهى به الدعاية الرسمية والشعبية اليوم كحالة تلقائية، عفوية، موجودة بحكم الموقع الجغرافي والواقع التاريخي. وهو أمر لم يتحول إلى واحد من المكونات الأساسية للدعاية السياسية السورية إلا في وقت متأخر، وتحديدا بعد أحداث 11 سبتمبر (أيلول)، وهبوب رياح التطرف على المنطقة العربية، ليبلغ التأكيد على وجود (التعايش) درجة الفجاجة بعد الاحتلال الأميركي للعراق وتهديد سورية بالتفتيت، في رد فعل عكسي يقاوم دعوات التنابذ الطائفية المتسللة عبر الدعاية السياسية المضادة.

فالوحدة الوطنية تهددت ليس فقط في سورية ولكن في المنطقة العربية، مما أدى إلى استنهاض «ثقافة التعايش» عنوانا عريضا، أعيد اكتشاف قيمته كمفهوم لتدعيم الخطاب السياسي بشقيه الداخلي والخارجي، وللاستثمار السياسي والسياحي، من خلال إحياء السياحة الدينية. خاصة أن سورية تستلقي على عدد هائل من الآثار الدينية، يتجاوز عددها أربعة آلاف موقع فوق الأرض، أما تحتها فهناك الكثير يُنتظر الكشف عنه، ويمكن القول إنها بمجملها رصيد خام لم يستثمر منه إلا جزء صغير جدا. وقد نفض الغبار عن حلقة وصل حضاري تفيد في الحوار مع الآخر، في وقت اشتدت فيه الضغوط السياسة والحصار ما بين عامي 2003 ـ 2008، بدا خلالها الاهتمام بالسياحة الدينية وثقافة التعايش، مثل بحث التاجر المفلس في دفاتره القديمة، مع فارق أن سورية لم تكن تاجرا مفلسا، وإنما ثريا مخضرما، ليس بين يديه سيولة نقدية وإنما ثروة حضارية بحاجة للاستثمار.

وعلى هذا تم في أغسطس(آب) من عام 2004 الطلب من مديرية الأوقاف، إعداد دراسة متكاملة حول تفعيل دور السياحة الدينية، فتشكلت لجنة مشتركة بين مديرية السياحة ودائرة آثار دمشق ومديرية المدينة القديمة لإعداد الدراسات اللازمة لإعادة ترميم وتوظيف الأضرحة والمقامات والجوامع الأثرية. ولوحظ في السنوات الأخيرة دخول الأماكن الدينية الإسلامية والمسيحية في برامج زيارات القادمين إلى دمشق من السياسيين. فعدا ما درج عليه الزوار الإيرانيون من الحج إلى مقام السيدة زينب، جنوبي دمشق ومقام السيدة رقية المجاور للجامع الأموي وسط دمشق القديمة، قام عدد من الوفود الأميركية، من أعضاء الكونغرس بزيارة عدد من الكنائس الأثرية، كالموجودة في مدينتي صيدنايا ومعلولا التي تعود للعصور الرومانية والبيزنطية والآرامية. وما من ضيف كبير كرئيس دولة أو ملك إلا ويزور الجامع الأموي الكبير كأكمل وأقدم آبدة إسلامية ما زالت محافظة على أصولها منذ عصر مُنْشِئها أيام الخليفة الوليد بن عبد الملك 705 ـ 715م. ويضم المسجد ضريح يوحنا المعمدان، والموقع الذي وضع فيه رأس الحسين. كما يتضمن جدول الزيارات سوق الحميدية وكنائس المدينة القديمة مثل كنيسة القديس حنانيا والقديس بولس. ولعل زيارة البابا الراحل يوحنا بولس إلى سورية بهدف السير على خطا بولس الرسول كانت المناسبة الأبرز التي كشف خلالها دوليا عن المواقع التاريخية التي شهدت انطلاقة الديانة المسيحية إلى العالم، هذا ناهيك عن المواقع الإسلامية المعروفة التي انطلقت منها الدولة الإسلامية لنشر رسالة الإسلام في العالم. وهي مواقع تستقطب سنويا آلاف الزوار، وشكلت عبر عقود طويلة، واحدة من أهم الموارد السياحية، لا سيما مراقد بعض آل البيت والصحابة والأولياء الصالحين، وشهدت إقبالا متزيدا من قبل الحجيج الشيعة منذ حرب الخليج الأولى، مع صعوبة الحج إلى النجف الأشرف. فيما كان وما زال الجامع الأموي قبلة السياح من كل الجنسيات والأديان لقيمته التاريخية والثقافية والدينية. أما المستجد في العقد الأخير ولا سيما بعد زيارة البابا يوحنا بولس الثاني إلى سورية عام 2002، فهو تشجيع السياحة الدينية إلى الأماكن المسيحية. وبحسب المعلومات الرسمية أن عدد السياح الأوروبيين تزايدوا في السنوات الأخيرة ووصل عددهم في عام 2006 إلى 400 ألف سائح جاء أغلبهم لزيارة المواقع الدينية. وكان لافتا مطلع عام 2007 قيام المدير العام لشركة «أوبرا رومانا» للحجاج التابعة للفاتيكان المنيستيرو، ليبيريا أندرياتا، بجولة استطلاعية على المواقع الدينية والأثرية السورية ولقائه وزير السياحة في إطار التحضير لإطلاق الرحلات السياحية إلى المواقع الدينية المسيحية في سورية بعدما كان، حسب تصريحاته، «متخوفا من هذه الرحلة لأنه كان يحمل أفكارا مشوشة عن سورية والشعب السوري». وسرعان ما اكتشف الرجل أن السوريين «محبون للسلام، ويشكلون نسيجا رائعا من مختلف الطوائف المسلمة والمسيحية».

تسعى الحكومة السورية إلى وضع اهتمامها بالمناسبات الدينية ضمن إطار ثقافي تاريخي، في محاولة لتجنب التناقض مع منهجها السياسي العلماني الذي نأى عبر أكثر من أربعة عقود عن إبراز كل ما هو ديني. ليبدو إقامة وزارة السياحة السورية بالتعاون مع الفاتيكان عددا من الأنشطة الثقافية والمعارض الفنية بمناسبة الاحتفال بمرور ألفي سنة على ميلاد القديس بولس، في يونيو (حزيران) الماضي، نشاطا يهدف لتشجيع السياحة الدينية وإبراز «دور سورية كمهد للمسيحية» بحسب تعبير وكالة الأنباء السورية الرسمية (سانا).

الرصيد الأثري الديني الثري سهَّل على السوريين مهمتهم الشاقة في إعادة الوصال، مع أطراف وصلت علاقتها معهم حد القطيعة. وأبلغ مثال على استثمار السياحة الدينية و«ثقافة التعايش» زيارة الجنرال ميشال عون إلى سورية نهاية العام الماضي، خلال عيد الأضحى. وعون الذي كان واحدا من أشد خصوم سورية في لبنان ضراوة، افتخر بحجيجه إلى منطقة «براد» شمال حلب التي يعتقد أنها تضم مدفن مار مارون، شفيع الموارنة، ليحضر أول قداس يقام فيه. وقال عون: «بعد ألف وستمائة سنة نعود للجذور والينابيع.. شجرة مقطوعة من جذورها لا تعيش»، معبرا عن مشاعره بأن المسافة بين براد وجبل لبنان ليست بعيدة كما يُظن. فقد وجدها الجنرال «قصيرة جدا وصارت أقرب». وفي معلومات ذات دلالة قال عون: «إن الرئيس بشار الأسد دعانا إلى إعادة إعماره (مدفن مار مارون) وقدم الأرض، حتى الطائفة المارونية تحتفل هنا في ذكرى القديس الذي ننتسب له والذي نفخر به فهو مهد المارونية»، معتبرا نفسه «من المهاجرين العائدين لهذه الأرض، نصلي ونتأمل ونتواعد. أنه صار لدينا مكان للقاء». وفي هذه المناسبة لم يفت الجنرال تقديم التهاني للعالم الإسلامي بعيد الأضحى قائلا «إن استمرار الاحتفالات المشتركة في الأعياد، هو عيش مشترك وهذا هو نداء دياناتنا السماوية وهذه توصياتها». تصريحات الجنرال عون توضح ببلاغة أن الاستثمار في «ثقافة التعايش» أثمرت نفعا في تحويل الخصم ليس إلى صديق وحسب بل إلى واحد من أصحاب البيت.

الاهتمام الرسمي الإعلامي بالمزارات المهملة في المناطق النائية، وتسليط الأضواء عليها، بغرض تشجيع السياحة، أيقظ المجتمعات المحلية على أهمية مناطقهم، وانتقلت إليهم عدوى الاستثمار الدعائي لثقافة التعايش التي تتمتع بها كافة المناطق السورية التي يقطنها خليط ديني وإثني. فراح أهالي كل منطقة يدعون الإعلام لتغطية مناسباتهم المحلية بغرض لفت عناية الحكومة وحتى العالم نحوهم، مثل (عيد السيدة) في مرمريتا في العشرين من أغسطس (آب) كل عام. فقد باتت مناسبة لاقامة كرنفال ضخم وأسبوع ثقافي يشارك فيه أهالي المنطقة من المقيمين في سورية والمغتربين، بالإضافة لمواطنين من كل الملل والطوائف، عدا السياح الذين عادة ما يوجدون في تلك المنطقة التي تعتبر من أجمل المصايف السورية. وعلى خطى عيد السيدة وكرنفال مرمريتا، راحت مدينة القصير تتطلع لأن يصبح عيد «مير الحي» مناسبة للاحتفال بعيد رعية الروم الكاثوليك. وشهد العشرين من يوليو (تموز) الجاري أول احتفالية ـ ستصبح سنوية ـ دعي إليها المسؤولون في المحافظة وكبار الشخصيات الرسمية والدينية الإسلامية والمسيحية، مع دعوة وسائل إعلام محلية وعربية بهدف تعريف العالم على هذه المنطقة المهملة سياحيا بحسب رئيس بلدية القصير حسين بلال الذي يعيد أسبابها إلى غياب ثقافة السياحة في المجتمع المحلي. ويقول بلال «يوجد تقصير من أبناء المنطقة فهم لا يروجون لمنطقتهم وجمالها، ولا يهتمون بالمشاريع السياحية»، لافتا إلى أن «عيد مير الحي ينشط الحركة الاقتصادية في المنطقة بسبب توافد الكثيرين إليه من لبنان والمحافظات الأخرى».

ويتفق الأب أسعد نايف، كاهن رعية القصير والمشرف على تنظيم الاحتفالية، مع هذا الرأي ويقول «هذا الاحتفال مع أن الكنيسة تقوم به فإنه لكل أبناء المنطقة من مسلمين ومسيحيين. فهذا العام هو الأول وهو بداية لاحتفالية سنوية تجسد واقع الحوار والتعايش بين أبناء الأديان في منطقتنا». في حين يعتبر الباحث في التراث المحلي لمنطقة القصير هيثم عباس أن مدينته تستحق اهتماما أفضل، فمنطقة جوسية حيث يقع دير «مير الحي» تمثل أكاديمية دينية بيزنطية، كانت مركزا للأسقفية في القرن الثالث الميلادي أيام الرومان، ويوجد فيها عدد كبير من الكنائس والأديرة والمزارات التي يعود تاريخها للعهد الروماني.