كتب عربية ممنوعة.. لماذا؟

مبدعون عرب يناقشون أشكال الرقابة وآلياتها على حرية التعبير

حيدر حيدر
TT

انتقد مبدعون عرب آليات الرقابة والمصادرة على حرية الرأي والتعبير، مشيرين إلى أن المبدع العربي ما زال مطاردا ومحاصرا بآليات هذه الرقابة، التي أصبحت تصيب الإبداع في مقتل، وتشل طاقته وحيويته ومغامرته في الرقي والتطوير.

فعلى مدار يومين، وفي ندوة نظمتها الأسبوع الماضي مكتبة الإسكندرية، بالتعاون مع المجلس القومي للترجمة حملت عنوان «آليات الرقابة وحرية التعبير في العالم العربي»، شاركت مجموعة من المثقفين والفنانين والإعلاميين من مختلف أنحاء الوطن العربي.

«الشرق الأوسط» تجولت في أروقة الندوة وسألت المبدعين: هل هناك سقف أو حدود ما لحرية التعبير عند المبدع؟

الروائي السوري حيدر حيدر الذي جاء إلى مصر بعد أكثر من 35 عاما من المنع والقمع، والملقب بـ«الكاتب الملعون» الذي تسببت روايته «وليمة لأعشاب البحر» الصادرة عام 2000، في سجالات عنيفة ودموية في الدول العربية، اعتبر الرقابة سيفا مسلطا على أعناق المثقفين الأحرار والتنويريين في إبداعاتهم كافة، من سلطتين مهيمنتين: سلطة الدولة السياسية، وسلطة المؤسسة الدينية.

وقال حيدر «هناك حرية مطلقة وحرية مسؤولة وهي التي تنبع من داخل الكاتب ومن ضميره، ولكن ينبغي ألا تكون الحرية مصادرة من قبل السلطات الدينية والسياسية والاجتماعية، والبعض يتخطاها بشكل ما، لكن ذلك لا يعني هدم المجتمع، ولا يعني هذا أن المبدعين سلبيون، وعلى كل قارئ أن يفهم النص الأدبي بالشكل الذي يراه مناسبا شريطة ألا يكون هناك منع أو قمع أو مصادرة، أو يحدث مع النص كما حدث مع (وليمة لأعشاب البحر)، ويصل الأمر لحد هدر الدم والقتل. هذا النوع من المصادرة نحن ضده، وهي مسألة سجالية بين المبدع الديمقراطي والتنويري والسلطة بأشكالها». وبخصوص منع «وليمة لأعشاب البحر» قال حيدر «الحملة التي شنت على الرواية لم تمنعني من أن أقول الحقيقة كما أراها، ولم تقف سدا في وجهي».

وبمرارة شديدة تحدث عن تجربته مع الرقابة التي لم تبدأ برواية «وليمة لأعشاب البحر» أو انتهت بروايته الأخيرة «هجرة السنونو» التي منعت أيضا.

وأضاف: «هذه المصادرات جعلتني بالنسبة للنظام والأوساط الدينية المتطرفة (كاتبا مضادا ومعاديا)، ومن جانب آخر، رسخت داخل شريحة كبيرة من القراء المتنورين وبعض النقاد العادلين، مكانتي كأديب حر من الداخل، ومؤلف خارج على الأعراف التقليدية السائدة في المجتمع والمؤسسات. وفي الوقت نفسه أنجزت رسائل جامعية في بعض رواياتي في المغرب وتونس والأردن ومصر وفلسطين وجامعة السوربون في فرنسا، وفيما بعد في سورية، كما ترجمت (الوليمة) في أميركا أخيرا. وكان هذا هو الرد العادل والتنويري».

وشدد حيدر على ضرورة التمييز بين الكاتب والراوي، فليس بالضرورة أن تكون الشخصيات التي نكتب عنها تعبر عن شخصية الكاتب، والأدب يحق له أن يتحدث عن أي شيء في مناحي الحياة.

أما الشاعر الأردني موسى الحوامدة، الذي مر بتجربة مريرة بدأت بكتابته «شجري أعلى» وانتهت بتكفيره، فقد فرغ من مجموعة جديدة بعنوان «موتى يجرون السماء»، ولم يتأثر ولم تقف عجلة إبداعه. يقول الحوامدة «تعرضت للكثير من الضغوط والعذاب بسبب ذنب لم أقترفه، وقد اكتشفت أن الكراهية تنغل داخل المثقفين».

وتحدث الشاعر المصري حلمي سالم رئيس تحرير مجلة «أدب ونقد»، عن تجربته مع قصيدته «شرفة ليلى مراد»، التي دخلت في أروقة المحاكم والمصادرة، وألمح إلى أن هناك حصارا مثلثا قوامه التحالف بين ثلاث: الرقابة السياسية، رقابة السلطات الدينية، والعقل الجمعي أو العقل التقليدي أو المناخ العام.

وأشار سالم إلى أن هذا المثلث أضلاعه كالبنيان المرصوص، تتحالف ويصب بعضها في بعض، وأكد أن الحوارات والنقاشات ستكشف أن هناك أربع مفارقات محزنة، الأولى هي سيادة الفتوى على القانون. أما المفارقة الثانية فهي انقلاب البرلمانات العربية على دورها، فأغلبها تدافع عن السلطات وتحاكم الشعب وتراقبه.

أما القاصة الروائية الكويتية ليلى العثمان فسردت ما مرت به خلال تجربتها مع الرقابة في الكويت، قائلة «تجربتي مع الرقابة تجربة مرة لا تختلف عن تجارب بعض الكاتبات والكتاب العرب. لقد أصبحت الرقابة في وزارات الإعلام مسؤولة عن انحسار المواهب الجديدة. فظاهرة ملاحقة الكتب ومنعها تؤرق الشباب من الكتاب وتجعلهم مطموسي الملامح والهوية في زمن العولمة والانفتاح».

وأشارت إلى أن معاناتها بدأت عندما صدرت مجموعتها الروائية الثالثة «الحب له صور» عن دار الآداب عام 1982، والتي نالت عنها مكافأة وجائزة تشجيعية، وإذا بوزير الإعلام يستدعيها بعد أن تقدمت شكاوى بأنها تسيء للمجتمع وتقاليده، وأن قصة «الحب له صور» فيها ما يشبه الإلحاد ويسيء إلى الدين.

وأضافت «في عام 1996 فوجئت بالنائب العام يستدعيني للتحقيق معي. فقد قام أربعة من الأصوليين المتطرفين برفع دعوى ضدي بتهمة تحريضي على الفسق والفجور لأنني أكتب ما يتعارض مع قيم المجتمع والدين. وقد اختاروا المجموعتين الصادرتين قبل 16 و12 عاما. إن أقسى اللحظات هي التي خضعت فيها للمحاكمة بعد 35 سنة من ممارسة الأدب كانت نتيجتها المساواة بيني وبين الجناة».

سامية محرز، أستاذة الأدب العربي بالجامعة الأميركية، رئيسة لجنة جائزة الكاتب العالمي نجيب محفوظ، تحدثت عن واقع الحريات الأكاديمية في مصر، وقالت: «إن الفترة الحالية شهدت عودة تدخل الدولة في الحقل الثقافي وهيمنتها عليه مقارنة بفترة السادات التي شهدت تهميش الحقل والعاملين به. فحاليا أصبحت الاستراتيجية الثقافية للدولة الورقة الرابحة في مواجهتها للمد الإسلامي والتطرف الديني. وهذا ليس بغريب، فالحقل الثقافي العلماني في مصر هو في الواقع صنيعة الدولة، وذلك منذ عهد محمد علي في مطلع القرن التاسع عشر، حيث زرعت المؤسسات العلمانية زرعا فوقيا في مجتمع تقليدي محافظ فظلت تلك المؤسسات العلمانية تابعة للدولة. والدولة متعددة ولها منابر عديدة، ومعظم القيود تأتي من داخل المثقفين، ومن ثم، لم تعد لعبة الرقابة في يد الدولة، وإنما أصبح هناك ما يطلق عليه (رقابة الشارع)».

وأضافت محرز: على الرغم من تلك الصورة القاتمة المرعبة التي قد تؤدي إلى تكبيل الإنتاج الإبداعي والثقافي في مصر، فإن هامش الحرية وتجاوز الخطوط الحمراء في المجالات الثقافية المختلفة يبدو وكأنه يزداد اتساعا. ويرجع ذلك في رأيي إلى مدى عمومية الثالوث المقدس ( الدين ـ السياسة ـ الجنس)، تلك العمومية التي تسمح للمبدع بالمجازفة في توسيع حدود المتاح.

الصحافي حلمي النمنم رأى أن «كل حرية محكومة بمجموعة ضوابط، والمشكلة في المجتمعات العربية أنها ليست محكومة بضوابط لكن بكوابح، والأصل أنه ليس هناك اعتراف بحرية التعبير سواء على المستوى السياسي أو الديني أو الاجتماعي، هناك حدود بالفعل وليست أقصاها الحدود والقيود السياسية لأن تلك يمكن التحايل عليها، ويمكن الدخول في مواجهة مع السلطة أو في حوار معها والخوض في معارك قضائية. لكن القيود ذات الطابع الديني التي يبدأ بعضها بالتكفير وينتهي بالقتل فهذه لا يمكن التفاهم معها لأنها هلامية. الأخطر من ذلك القيود الاجتماعية، فمثلا المتعارف عليه بأنه حلال وحرام لا يقبل المجتمع النقاش فيه وقد يكون ذلك غير صحيح».

وحول العلاقة بين المثقف العربي ومجتمعه، قال الروائي والقاص الأردني إلياس فركوح، إنها «علاقة مشوبة بالالتباس الكامل، والسبب في ذلك إلهاء المثقف في مجموعة قضايا حياتية، وبالتالي فإنه ثمة عزلة للمثقف عن مجتمعه. وإن التباين في المرجعية الواحدة يخلق التشويش للمجتمع بأكمله». وحمل فركوح ما يحدث لسلطتين: السلطات العربية غير الديمقراطية غير المنتخبة، وهي الخائفة من النقد والاتهام، والسلطة الثانية: هي سلطات المجتمع التي «هي الأثقل علينا الآن باسم الدين، والمزاج العام، حيث بات المثقف ينوء تحت هذه الضغوط».

ويرى فركوح أن «الصفوف متفاوتة ما بين المبدعين فلا يوجد سقف للخيال، وكل مبدع له سقفه، وهو من يرسمه، ولا ينبغي أن ينصاع لأي شيء يكبحه»، مشيرا إلى أن بعض المبدعين في ظل هذا المناخ تم زرع رقيب ذاتي فيهم مفتعل منذ سنوات، والمبدع تحت وطأة هذا الرقيب المصطنع سيدفع الثمن من نصه، وسرعان ما ينكشف هذا النص أمام القارئ. وهو يعتقد أن «الكتابة شكل من أشكال الحرية وتحقيق الذات. وأزعم أنني حر تماما في اختيار موضوعي وبنية العمل ولا أنصاع إلا لمُثُلي وهي رقيبي الداخلي».

أما الناشر مجد حيدر، صاحب دار «ورد» السورية، فقال «أنا مع نشر كل شيء رغم أنه لا توجد حرية مطلقة، ولكني أرفض الوصاية على عقل القارئ. ونحن الآن في عصر الفضائيات والتواصل الكوكبي، وما عاد يمكننا أن نغيّب ذلك عن عقل المواطن، بالإضافة إلى أن مساحة التطور والحداثة وإن كانت شكلية، إلا أنها أفسحت لهم المجال للتمييز وتحديد من الذي شرع الوصاية. وأرى أن كل هذه الرقابات لا معنى لها، لأنه لا يمكن أن يمنع أي كتاب طالما طبعت منه نسخة واحدة ستطبع منه ملايين النسخ. الكتب الممنوعة نجدها على الأرصفة».

وأضاف صاحب دار «ورد»: لا أخفي سرا إذا قلت إن عدد دور النشر العربية المغضوب عليها لا يتجاوز العشرين دارا، مقابل الكم الهائل من الدور الأخرى التي تنشر باقي العلوم، فنحن مصنفون جيدا، وهم دائما ينتظرون الفرصة لصيدنا وحصرنا في الزاوية.

وتحدث المحامي المعروف الناشط الحقوقي نجاد البرعي (مصر)، عن رؤية قانونية لحرية التعبير والرأي في الصحافة، مشيرا إلى أنه لا توجد قوانين تقنن حرية التعبير، فلحرية الرأي والتعبير معنى واسع تندرج تحته الكثير من الحقوق، منها الحق في تكوين الأحزاب والجمعيات الأهلية والنقابات المهنية والعمالية والإضراب والفكر والوجدان والدين والتظاهر والاجتماع السلميين، وإصدار الصحف والتمثيل السينمائي والمسرحي والبث الهوائي.

وأشار البرعي إلى أن المادة 19 من العهد الدولي للحقوق المدنية والسياسية الصادر في 1966 نصت على أنه «لكل إنسان حق في اعتناق آراء دون مضايقة، ولكل إنسان حق في حرية التعبير. ويشمل هذا الحق حريته في التماس مختلف ضروب المعلومات والأفكار وتلقيها ونقلها إلى الآخرين من دون اعتبار للحدود، سواء على شكل مكتوب أو مطبوع أو في قالب فني أو بأي وسيلة أخرى يختارها»، وتستتبع ممارسة الحقوق المنصوص عليها في الفقرة 2 من هذه المادة واجبات ومسؤوليات خاصة. وعلى ذلك يجوز إخضاعها لبعض القيود ولكن شريطة أن تكون محددة بنص القانون، وأن تكون ضرورية لاحترام حقوق الآخرين وسمعتهم ولحماية الأمن القومي أو النظام العام أو الصحة العامة أو الآداب العامة.

فيما أكد د. محمد الفقيهي، أستاذ العلوم القانونية في جامعة فاس بالمغرب، أن القانون في كثير من الأحيان يقمع الحريات ولا يحميها، وأشار إلى أن الامتثال للرقابة الذاتية هو انتحار بطيء، وأن المجتمع المكمم هو مجتمع موعود بالانحطاط على جميع الأصعدة، ولا تقوم له قائمة إلا عبر تكريس مبادئ وقيم الحرية والمساواة بين مكوناته المختلفة.

وأكد فقيهي على ضرورة أن تكون هناك إصلاحات دستورية تضع حقوق وحريات الفرد في جوهر الأداء التشريعي، وهو ما يتطلب تنمية ثقافية حقوقية تلزم القاضي ـ خاصة الدستوري ـ باعتماد اجتهادات شجاعة تلزم الفاعلين المؤسساتيين باعتبار حقوق وحريات الأفراد المعيار الأساسي لأعمالهم، وتجاوز المنظور الأمني السياسي الذي عبر بدقة عن قصوره الشديد عن تحقيق أسباب الارتقاء الاجتماعي والثقافي والاندماج في مكونات المجتمع.