جاسم الصحيح: أكتب الشعر لأمارس عملية انتقامية من التاريخ ومن التراث

الشاعر السعودي: التيه أهم المركّبات لصناعة الشاعر

جاسم الصحيح («الشرق الاوسط»)
TT

«الأحساء تطلق صاروخا شعريا»، هي العبارة التي اختارها قبل سنوات الدكتور غازي القصيبي، ليعلن من خلالها ولادة الشاعر السعودي جاسم محمد الصحيح الذي عده شاعرا «استثنائيا» يشق طريقه نحو القمة. والمقال صدر فيما بعد ضمن كتابه «الخليج يتحدث شعرا ونثرا: مقالات وقراءات» من إصدارات المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت في 2003. «الشرق الأوسط» التقت الشاعر جاسم الصحيح في الدمام وأجرت معه هذا الحوار.

* السؤال التقليدي.. لماذا تكتب الشعر؟

ـ عندما بدأت أكتب الشعر قبل بضعة وعشرين عاما، كنت أنظر إلى الكتابة الشعرية على أنها تعبير صرف عن المشاعر فقط. وكلما تورطت في الشعر أكثر اكتشفت أبعاده الأخرى. أما الآن فقد أصبحت هذه الكتابة عملية انتقامية من التاريخ ومن التراث، ومن المجتمع الذي صنعني، من ذلك التاريخ والتراث عبر حضوري الاجتماعي في مكان ما من هذا العالم، من دون أن تكون لي يد في صناعة نفسي. وبالتالي، فالشعر هو عملية تحرير وتطهير وتنوير أيضا. بناء عليه، أعتقد أن الكتابة الشعرية بالنسبة لي هي إعادة تكوين للإنسان بعناصر أكثر شفافية ونقاء.

* دواوينك السبعة توشى بلغة تنوعت بين نزوات الجسد والرمزية، هل يعاني الشاعر أحيانا حالة من «التيه»؟

ـ أعتقد أن التيه من أهم المركبات المطلوبة لصناعة الشاعر، بينما الشعر هو مزاج في هيئة مجاز. الشعر هو الإنسان في أرقى حالاته الإنسانية على صعيد اللغة والمشاعر، وحتى السلوك. لا يمكن أن نعتقل الشاعر في مجال من مجالات الحياة، فهو مفتوح على جميع المجالات، وهو يأتي إلى أرض القصيدة من أرض الثقافات المتعددة حسب تعدد قراءاته وانعكاس هذا القراءات على حياته. وهذا ما يجعله يتنوع في كتاباته لتشمل الحياة على رحبها.

* المتابع لشعرك يقول إنك وقعت بين فكي كماشة الثقافة الصوفية، ولا تستطيع الانفكاك منها، حتى في قصيدتك «عنترة في الأسر» التي فازت بالجائزة الأولى للقصيدة عن مؤسسة «البابطين»؟

ـ لقد كتبت قصيدة «عنترة في الأسر» عام 1998، وكنت في ذلك الوقت مسكونا بالهاجس الصوفي، ومتورطا في قراءة الأشعار الصوفية، فانعكس ذلك كله، ليس فقط على هذا القصيدة، وإنما على مرحلة كاملة من كتاباتي تجلت في أكثر من ديوان شعر مثل «رقصة عرفانية».

* هل لا تزال مرتهنا لتلك المرحلة؟

ـ أعتقد أنني انتقلت إلى مرحلة أكثر ارتباطا بالواقعية منها بالصوفية، وتجلت في ديوان «نحيب الأبجدية». الكتابة الشعرية عادة ما تمر بعدة مراحل، وكل مرحلة تلعن أختها!

* أحيانا نلاحظ أن العبارة تشتط لديك حد الخرافة، كما في قصيدتك «في حضرة السيد الوجع» عندما تقول: «عد للمريدين الأوائل/ مثل معجزة بلون العشق/ إن العشق نبع المعجزات»، فأنت هنا تخلط بين القصيدة الحديثة والمعجزات القريبة من الشعر الصوفي؟

ـ عندما نتحدث عن الشعر الصوفي بالتحديد فلا يمكن لنا أن ننكر أنه كان يمثل انعطافة في الشعر العربي أشبه ما تكون بالكتابة الحديثة. وليس هناك شاعر من شعراء العصر الحديث لم يقرأ التجربة الصوفية قراءة واعية وصلت في كثير من الأحيان إلى حد التأثر. الشعراء الصوفيون كتبوا أشعارهم بفنية عالية وصدق كبير لأنها كانت تمثل معتقداتهم، ولا يمكن للإنسان أن يكون أكثر صدقا في شيء أكثر من معتقداته. أما أن نزعم أن التجربة الصوفية تجربة خرافية فهذا الزعم لا يخلو من التجني، لأن الصوفية أحد المنجزات الإنسانية الحضارية التي رسخت نفسها في تاريخ الإنسان، وأضافت إليه منسوبا كبيرا من الروحانية.

* ثمة من يلاحظ أنك تأثرت بـ«نرجسية المتنبي»، على الرغم من أنك تقول في أحدى قصائدك إنك تكتب لكل الحفاة؟

ـ كتبت هذه القصيدة التي أوردت فيها أنني أكتب لكل الحفاة بعد علاقة مع الشعر دامت أكثر من عقدين من الزمن، فكان من الطبيعي أن أعيد صياغة ذاتي الشعرية كما يجب أن تكون، وأن يوسع الشعر انتمائي لتكون صومعتي باتساع خطوط الطول والعرض، وكان من الطبيعي، كذلك، أن يكون قلبي هو وحدة الكرة الأرضية. أعتقد أن هذه المشاعر لا تمثل تأثرا بنرجسية المتنبي بقدر ما هي مشاعر إنسانية يولدها الشعر خلال علاقتنا به، بعد أن يمحو من وجداننا مشاعر أشبه ما تكون بالعدوانية تجاه الحياة. وكلما كبر التقاطع بين اللغة والخبرات الإنسانية الحسية، كبرت القصيدة التي تمثل في نهاية المطاف صورة جلية لهذا التقاطع في وجدان الشاعر.

* إلى أي الطبقات ينتمي جمهورك؟

ـ في الحقيقة لا أعلم إلى أي الطبقات ينتمي، لأن الشعر يمحو الطبقات، أو على الأقل يوحدها في طبقة واحدة هي الطبقة الإنسانية.

* ما هي الروافد التي تسقي موهبتك الشعرية؟

ـ هناك روافد كثيرة تصب في نهر الشعر الكبير وتدفعه كي يواصل جريانه باتجاه الأبدية. ولا يمكن لشاعر أن يدفع هذا النهر معتمدا فقط على الموهبة الفطرية، وإنما هو في حاجة ملحة دائما إلى تجارب حياتية وقراءات متجددة يتجدد معها دم الوعي في شرايين الكتابة، وهذا الوعي لا بد أن ينتهي إلى وعي جديد بالحياة. في البداية، كانت القراءة أكثر تأثيرا في شعري وكأن الفن ينبع من الفن ذاته، أي أن الشاعر قد يقرأ قصيدة جميلة ويتأثر بها فيذهب ويكتب قصيدة، ولكن ربما تكون هذه مرحلة قديمة سرعان ما تلاشت، وأصبحت أغرف الشعر من بئر الحياة. لا شيء يستطيع أن يجعل من الشعر شعرا مثل حضور السيرة الذاتية في القصيدة حضورا فنيا راقيا، على الرغم من أن الشاعر بإمكانه أن يتقمص الأشياء من حوله ويكتب بالنيابة عنها.

الشاعر حينما يكتب عن التراب فإنه يتماهى مع التراب حتى يكونه، وحينما يكتب الشاعر عن الشجرة فهو يتماهى مع الشجرة حتى يكونها.

* ألا توافق على أن بعض مفرداتك تحمل نظرة سلبية تجاه المرأة؟

ـ لا أدري إن كانت بعض التعبيرات تنطوي على نظرة سلبية تجاه المرأة، والسبب هو أن المفردة الشعرية مفردة مجازية وليست مفردة مباشرة كي تحال إلى المرأة إذا كانت قادمة من قاموس أنثوي. وكيف لي أن أنظر إلى المرأة نظرة سلبية بينما أراها منبع الخصوبة في هذه الأرض. لا أريد أن أتحدث عن المرأة حديثا رومانسيا فأقول إنها صدفة هذا الكوكب، كما قلت عنها في إحدى قصائدي، ولولا هذه الصدفة لاحترق الكوكب. لا أريد ذلك لأنني أعتقد أحيانا أن مجرد السؤال عن نظرة الرجل تجاه المرأة سؤال استفزازي دائما ما يوحي بالنظرة الدونية، هذا السؤال لا قيمة له ولا حاجة له في الأصل لأن المرأة كائن من كائنات الحياة، تشارك في إحياء الكون بمقدار مشاركة الرجل، الأمر الذي يتيح لها امتلاك هذا الكون مناصفة معه.

* ثمة ظلال من الحنين إلى الماضي تخيم فوق قصائدك مع نقمة حد التطرف لما تسميه «زمن النفط». لماذا تقف أحيانا ضد تحديث المكان؟

ـ العودة إلى النخلة ـ مثلا ـ حلم بالعودة الروحية إلى الصفاء والأمان، وليست إعادة عقارب الزمن إلى الوراء. ليس ثمة تناقض بين تحديث المكان وحلمنا بالأمان النفسي فيه. الأزقة والنخيل والحقول.. وغيرها من مفردات الطبيعة هي مراتع الطفولة حيث الحياة دائما ما تكون أجمل حينما تكون الطفولة هي الوطن. عندما ضاع فجر النخل في منفى من البترول شعرنا بالغربة الحقيقية وكأننا بلا أوطان.

* كيف تصف علاقتك الشعرية بالمكان؟

ـ علاقتي بالمكان هي علاقة وجودية على صعيد الإنسان وعلى صعيد الشاعر. فعلى صعيد الشاعر، عادة ما تنبثق القصيدة من أعمق نقطة في المكان ـ وهي بيئة الشاعر ـ على أمل أن ترتفع إلى أعلى نقطة في الزمان وهي الخلود. أما على صعيد الإنسان، فإن علاقتي بالمكان هي علاقتي بالأحساء التي لا أكتمل إلا بوجودي داخلها، وحينما أغادرها أشعر بحنين إلى جزء ناقص من أجزاء كياني.. أليست هذه العلاقة علاقة وجودية بامتياز؟

* تكتب قصيدة التفعيلة والعمودية، لماذا لا يسير خط تطور تجربتك باتجاه قصيدة النثر؟

ـ هل تضمن لي أن خط سيري باتجاه القصيدة النثرية سوف ينتج عنه تطور في قصيدتي؟ أنا أخشى أن يكون انحدارا وليس تطورا. لقد أشرت في أكثر من مرة بأن تكويني الشعري في الأصل هو تكوين عمودي، حتى في قصائدي التفعيلية، فلا أستطيع أن أتجاوز هذا التكوين خوفا من الدخول في صحراء التيه التي لا حدود لها، خصوصا وأنني شاهدت من تورطوا بهذا التيه العظيم.

* لماذا لا تغامر؟

أنا أعلم أن الكتابة مغامرة، ولكنها مغامرة على صعيد اللغة ومضمونها وعلى صعيد الوعي، أكثر منها مغامرة على صعيد الشكل.

* هل تزعجك الصورة التي قد تؤخذ عنك بأنك شاعر مناسبات ومهرجانات، أم تعتبرها وسيلة مشروعة لتقريب الشعر من الجمهور؟

ـ أنا لا ألوم من يرسم لي صورة شاعر المناسبات والمهرجانات لأنني كثيف الحضور في المشهد الجماهيري. ولكنني أنزعج من الشخص الذي يطلق علي حكما من دون أن يقرأ تجربتي الشعرية كاملة حتى لو كان حكما إيجابيا. إن القرب من الجمهور سلاح ذو حدين، فهو بمقدار ما يمنح الشاعر الحب قد يقتله إبداعيا إذا استسلم إلى رغبة الجمهور، وكما قال الشاعر محمود درويش عن الشاعر نزار قباني، والعهدة على الراوي، «إن نزار قتله جمهوره».

* هل اتخذت الشعر الشعبي وسيلة للهدف ذاته؟

ـ كتاباتي في الشعر الشعبي نادرة جدا ولا تستحق الذكر، وهي أشبه بالكتابات الخاصة جدا والتي لا أكشفها إلا على المقربين، فلا أعتقد أنني أتخذ منها طريقا إلى قلوب عامة الناس.

* وهل ستكرر خوض تجربة «أمير الشعراء» المثيرة للجدل؟

ـ حتى لو كنت أنا على استعداد لأن أكرر تجربة «أمير الشعراء» فهي ليست على استعداد لأن تكررني أبدا.

* كيف ستكون ملامح ديوانك القادم؟

ـ ديواني القادم بعنوان «ما وراء حنجرة المغني»، وهو الآن في وزارة الثقافة والإعلام للحصول على فسح لطباعته قريبا. هذا الديوان يمثل مرحلة من مراحل حياتي بكل ما تحمله من أحلام وأوهام، من انكسارات هادرة وانتصارات نادرة، جميعها تتجلى في لغة مسكونة بالفقدان والحسرة أكثر مما هي مسكونة بالفرح والسعادة.