الثقافة الأميركية تتمرد على الرجل الأبيض

العالم الثالث ينقلب على الولايات المتحدة من الداخل

TT

«يختلف الأميركيون على توصيف ثقافتهم. فثمة من يرى أنها خلاصة ذوبان مزيج من الثقافات المختلفة التي أعطت خصائص لا مثيل لها، وهناك من يرى أنها تشبه صحنا من السلطة من الصعب أن تندمج مكوناته حد الانصهار. والآراء بين الأميركيين تتعدد وتتنوع، إلى درجة محيرة. لكن السؤال الأساسي اليوم، هو إلى أي مدى ستصمد الثقافة الأميركية البيضاء أمام المد اللاتيني والأفريقي. وما الذي ستكون عليه الثقافة الأميركية غدا، بعد أن تنقشع سطوة الرجل الأبيض وتضمحل؟»

تتكون الثقافة الأميركية كغيرها من الثقافات من عناصر متنوعة، وتقوم على أعمدة عدة، مثل: التاريخ، الوطن، الدين، الفنون، الطعام والشراب، الخ... والمثقفون الأميركيون، لا ينظرون إلى ثقافة بلادهم من منظار واحد، وثمة وجهات نظر مختلفة تجعلهم، يتباينون بشكل جذري حول هذه المسألة الجوهرية لا بل والحساسة.

يركز بعض المثقفين الأميركيين على البعد الأوروبي لانتمائهم (خاصة التراث البريطاني). ويركز مثقفون آخرون على ما يعتبرونه بعدا أميركيا صرفا، نتج من مجموع الثقافات التي شكلت هويتهم. بينما يقول آخرون إن الثقافة الأميركية لها عماد واحد هو الانتماء إلى أرض واحدة، في ما يعتقد التقدميون أن الثقافة الأميركية لا عماد حقيقيا لها، لكنهم، مع ذلك ينظرون إلى الأمر بصورة إيجابية، لا سلبية فيها.

يشير المؤمنون بأهمية الخلفية الأوروبية للثقافة الأميركية إلى وجود عناصر عدة أثرت في تكوين الولايات المتحدة، منها: المسيحية، الديمقراطية، والجانب الصناعي. بينما يعتبر أولئك الذين يؤمنون بوجود ثقافة أميركية لها خصائصها المميزة إلى عناصر يعتبرونها أساسية في تكوين انتمائهم مثل: الوطنية، الرياضة، الروح العسكرية والعلمية والترفيه. وثمة رأي يقول إن العماد الأساسي للثقافة الأميركية هو الفخر بالوطنية. وهو فخر يزيد على فخر الأوروبيين ويتجاوزه بكثير. ويهتم آخرون بالتركيز على ثقافات الهنود الحمر، والسود، واللاتينيين، والآسيويين، التي تختلط تدريجيا بالثقافة الأميركية العامة، وتشكل اليوم ما يسمى: «مين ستريت» (أي الشارع العام، تعبيرا عن ثقافة الأغلبية السائدة).

وثمة من يرى أن الثقافة الأوروبية والثقافات الأخرى، شكلت بالفعل الثقافة الأميركية، لكن هذه الثقافة في النهاية تفوقت على الثقافة الأوروبية وغير الأوروبية في مجال آخر، وهو تصدير نفسها، منذ أكثر من خمسين سنة، خاصة في مجال الترفية الفني (أفلام سينمائية، مسلسلات تلفزيونية، أغنيات، فيديو كليبات، الخ...). وخلال العشرين سنة الماضية بدأت أميركا تصدير ثقافة الطعام (بيتزا، هامبورغر، تاكو، إلخ...). لكن، تعريف «الثقافة» هو تعريف فضفاض، ويعتمد تحديد ماهيتها على الاتجاه الفكري والسياسي للجهة أو الشخص الذي يعرفها. وقد قال كتاب: «مقدمة الثقافة الأميركية»: «يميل المحافظون والجمهوريون ورجال الدين لاعتبار أن الثقافة الأميركية ذات أعمدة تقليدية تغور في أعماق التراب الأميركي. ويميل الليبراليون والتقدميون لاعتبار الثقافة الأميركية قائمة على أسس ترتفع نحو السماء. أي أنهم يركزون على روح الثقافة الأميركية وليس عليها». ومن بين هؤلاء،، الكساندر بيك، أستاذ الفلسفة الليبرالي في جامعة توسون (ولاية ماريلاند)، ويقول: «ليست الثقافة الأميركية أحسن من الثقافات الأخرى، وليست مساوية لها، وليست أقل منها، بل إنه لا توجد ثقافة أميركية». وعرفها بأنها: «خليط لثقافات غيرنا. مثلما جئنا كلنا، تقريبا، من دول مختلفة، جاءت معنا ثقافات هذه الدول. لهذا: لا توجد ثقافة أميركية».

وبينما يميل مثقفون ليبراليون وتقدميون، مثل بيك، نحو تعريف الثقافة الأميركية على أنها مثل «ميلتنغ بوت» (وعاء يذيب ما فيه)، يميل مثقفون محافظون إلى تعريف الثقافة الأميركية على أنها «سالاد بول» (صحن سلطة، تختلط فيه أنواع كثيرة مختلفة عن غيرها).

ويقول المحافظون إن الثقافة الأميركية كانت حتى وقت قريب بالفعل، وعاءً يذيب ما فيه. لكن، خلال الثلاثين سنة الأخيرة، صار واضحا أن السود واللاتينيين يريدون التركيز على ثقافاتهم، ولا يرغبون بدمجها وتذويبها. أي أن هؤلاء يريدون سلطة، رغم اختلاطها، تبرز فيها عناصر معينة مثل: طماطم، وخيار، وبصل.

من بين هؤلاء المثقفين المحافظين، بات بيوكانان، وهو صحافي جمهوري محافظ، ترشح لرئاسة الجمهورية، وكتب كتبا كثيرة منها: «ستيت أوف إميرجنسي» (حالة طوارئ: شعوب العالم الثالث تغزو أميركا وتحتلها). قال بيوكانان: «لم تعد أميركا وعاء ذوبان، وصارت صحن سلطة. بل وسط السلطة، يزداد الزيتون الأسود والفول الأسمر». إشارة منه إلى ازدياد عدد الأفارقة واللاتينيين.

بالإضافة إلى تركيز بيوكانان على وصول ثقافات العالم الثالث إلى أميركا، لا يتوقف عن الإشادة بما يسميه «غود أولد أميركا» (أميركا القديمة الطيبة)، وسيطرة الديانة المسيحية، التي يراها أساس الحضارة الأميركية، وليس فقط الثقافة الأميركية.

وأشار بيوكانان إلى استفتاء أجراه مركز «بيو»، أوضح أن الأميركيين أكثر تمسكا بالمسيحية من الأوروبيين. فقد قالت نسبة ستين في المائة من الأميركيين إن الدين هام جدا في حياتهم. لكن، انخفضت النسبة إلى 10% في فرنسا، وتشيكوسلوفاكيا، و15% في روسيا، و20% في ألمانيا، و30% في بريطانيا.

بينما يفتخر بيوكانان بتأثير المسيحية على الثقافة الأميركية، يتحسر على انخفاض تأثير العرق الأبيض عليها، وذلك بسبب، كما جاء في عنوان كتابه، «غزو واحتلال شعوب العالم الثالث للبلاد».

وهناك مثقفون سود يريدون هذه السلطة. من بين هؤلاء باكاري كيتوانا، مؤلف كتاب: «الشباب السود والثقافة الأميركية الأفريقية». كتب كيتوانا: «مع بداية القرن الحادي والعشرين، انتهى جيل أسود، وبدأ جيل أسود آخر. انتهي جيل التفرقة العنصرية، وبدأ جيل الهوية السوداء». وبينما يدعو الكتاب الجيل الجديد، ويسميه جيل موسيقى «هيب هوب»، ليثبت هويته، يوضح أن معنى ذلك هو المحافظة على الثقافة السوداء، أي عدم السماح لها بأن تذوب. بمعنى أنه يفضل صحن السلطة الذي تبرز فيه مكوناته المختلفة على وعاء الذوبان.

يرفض مثقفون تقدميون، مثل بيك، القول بأن للثقافة الأميركية عمودين: الأصل الأوروبي، والإبداع الأميركي. يقول بيك إن هناك عمودا واحدا، هو «وعاء الذوبان». ويقول إن «البيتزا» لم تعد طعاما إيطاليا، و«التاكو» لم تعد طعاما مكسيكيا، مثلما أن الـ«هامبورغر» كان، قبل مائة سنة، طعاما ألمانيا، لكنه، طبعا، صار الآن «ليس أميركيا فقط، لكنه رمز لأميركا».

وقال بيك إن هناك ما هو أهم من الأكل، وهي اللغة الإنجليزية، أساس الثقافة الأميركية، ووسمها بـ«اللغة الأميركية». وقال إنها خليط من لغات عالمية، وإن أصل الإنجليزية هو الألمانية، ثم تأثرت بالفرنسية، وبعد أن وصلت إلى أميركا تأثرت باللغة الإسبانية. فمثلا: كلمة «أميغو» (زميل بالإسبانية)، صارت أميركية، وأيضا صارت أميركية كلمات مثل: «كافيه» (قهوة بالفرنسية)، و«بلتز» (هجوم بالألمانية)، و«كاروكي» (موسيقى باليابانية)، الخ...

وقال إن الثقافة الأميركية هي ثقافة «ريتشد» (بؤساء) و«ريفيوسد» (مرفوضين). وأخذ الكلمتين من عبارة منقوشة على تمثال الحرية، عند مدخل ميناء نيويورك، تقول إن أميركا ترحب بالبؤساء والمرفوضين. واستعمل كلمة أخرى: «مت»، وهي مفردة يصف بها الأميركيون الكلب الهجين الذي ليس له من أصل أو فصل. وهي مفردة ذات دلالة سلبية وإن لم تكن بذيئة. لكنه أضاف: «لنجعلها كلمة إيجابية، ولنفتخر بها، ولنسم ثقافتنا: «مت كلشر»».