«الثوب» يداري المستور وطالب الرفاعي يفضحه

الكاتب الكويتي يحيك روايته الجديدة بخيوط الأقنعة

TT

يوهم الروائي الكويتي طالب الرفاعي، في روايته «الثوب»، بقول الحقيقة متوسلا عناصر ثلاثة: تعيين المكان تعيينا دقيقا، الكويت بشوارعها وأماكنها العامة، تحديد الزمن بتواريخ لا التباس فيها، وشخص الروائي، الذي يحضر في النص باسمه الصريح. توحي هذه العناصر بأن الروائي يقول ما يراه في حياته اليومية، وأن ما يسرده عاشه، أو سيعيشه، مس ذلك قضايا فردية، أو طبائع هجينة تجمع بين الاستهلاك «الحديث» وعقليات منقطعة عن مبادئ الحداثة. ومع أن ما يقول به قد يبدو يوميا، ومبذولا في يوميته، فتصوره الروائي للعالم يلتقط المأساوي قبل غيره مؤكدا، بهمس شفيف، أن في الوجود الإنساني فجوة لا ترمم.

ثلاثة مواضيع تلفت النظر في الخطاب الفكري الذي صاغته رواية «الثوب»: مجاز «الثوب» الذي يختصر منظور فئة اجتماعية، تعتقد أن المراتب الاجتماعية موروثة، وأن ما لا تسوّغه الوراثة البعيدة غير جدير بالاعتراف. ومعنى «الأديب» في مجتمع يعتنق «الكم» ويحتفي بالبيع والشراء ويبارك تفوق الشراء على البيع. وعلاقة الكتابة بالحقيقة، التي توحد بين القيم والإبداع، وتقرر أن الإبداع بلا قيم يعارض الإبداع ويلغيه.

يشكل مجاز «الثوب» القوام الصلب الذي تنهض عليه رواية طالب الرفاعي، فلكل فرد ثوب ورثه عن عائلته، ولكل عائلة، مهما تبدلت وتطورت، ثوب لا يلتبس بغيره، وكل ثوب مقام ومرتبة، جدير بأهله لا بغيرهم. يعبر الثوب، في مجازه الخصيب، عن ركود المجتمع وتكلس قيمه، بل عن يباس طرائق نظره. تنطوي «الوجاهة العائلية» على تقديس للمراتب التي تسوّغ القمع وترفض المرن والحياتي والمتطور، وتقدس الراكد والثابت والمتوارث.

ترجم الروائي مجاز الثوب، حكائيا، بشكلين: شكل أول يحكي قصة سيدة تنتمي إلى «عائلة عريقة» تزوجت إنسانا من عائلة عادية، وطردته لاحقا بسبب التفاوت بين هيبة العائلتين، فلكل عائلة ثوب لا يحق لها أن تلبس غيره. وشكل ثان سرد قلق تاجر مشهور يملي سيرته الذاتية على «روائي» ويحرص على ألا يعرف أحد شيئا عن «حياته الخاصة»، بقدر ما سرد شقاء الروائي الذي يسعى وراء الحقيقة ويرفض أنصاف الحقائق. انطلق التاجر من «الوجاهة الاجتماعية» مرتين: مرة أولى وهو يريد «كتابا كاملا» يروي قصة نجاحه، ومرة ثانية، حين تخيل حياة كاملة خالية من النقص والشوائب. تطلع التاجر إلى النافع والمفيد والنظيف والمصقول، ورغب الروائي بسرد الحياة، كما هي، التي تحتمل وجوها مختلفة. يعبر الطرفان عن اتفاق مستحيل، يبقي التاجر مع «ثوبه»، ويخبر الروائي أن له ثوبا لا يستطيع تغييره، مهما فعل، لأن الأثواب مثل المقامات ثابتة ويجب احترامها.

ما هي سلطة الكلام المكتوب في مجتمع قائم على سلطة البيع والشراء؟ الجواب واضح، ذلك أن سلطة المال تروض الكلام في أشكاله المختلفة. تأتي مأساة الأديب من اتجاهين: فتنة المال التي تقنع الروائي بأن يبيع «متخيله» إلى تاجر، ليحذف منه ما يريد ويضيف إليه ما يشاء، مبددا الأدب والأديب ومعنى الخيال والمتخيل، وسطوة الحاجة التي تفصل بين الإبداع والبطون الفارغة. طرح طالب الرفاعي الموضوع، بعيدا عن الوعظ البسيط والأحكام الجاهزة.

السؤال اللاحق: كيف يقول الأدب بالحقيقة في مجتمع تقليدي يتطير من الحقيقة؟ يعود مجاز الثوب مرة أخرى، فالمرأة المتزوجة لا تريد أن يعرف «العامة» عن حياتها شيئا، والزوج الذي يريد أن يضع سيرته الذاتية في كتاب يراقب كلامه ويفرض على كاتب سيرته أكثر من رقابة، وأصحاب «الأثواب العريقة» يتطيرون من المعلن والمعروف ويعتبرون «المحتجب» قاعدة مقدسة في الحياة. إنها عبادة المستور والمكبوت وصناعة تأبيد الأقنعة. يدور سؤال الرواية عن الرقابة الذاتية الموروثة، التي تسوّغ جميع ألوان الرقابة. وإذا كان الإبداع الروائي فعلا حرا ويدعو إلى الحرية، فما هي إمكانية الإبداع في مجتمع تأخذ الرقابة فيه شكل العادة؟ ينهي الروائي عمله بجملة صغيرة كثيفة: «الكتابة مخاطرة بدءا ومنتهى».

أعطى طالب الرفاعي، في روايته «الثوب»، صيغة حكائية محكمة لثقافة عبادة التقاليد، مبرهنا أن «الأفكار ليست ملقاة على قارعة الطريق»، كما قال الجاحظ ذات مرة، وأن الفكرة المبدعة الخصيبة قادرة على بناء عمل روائي جدير بالقراءة. تأمل وهو يمزج بين علم الاجتماع والرواية الشروط الاجتماعية للكتابة الروائية، فلا رواية بلا متخيل فاعل، ولا تخيل في مجتمع يلقن الإنسان تعاليم المستور والمكشوف، ويرى في الإنسان، وهو قيمة مستقلة بذاته، امتدادا لأعراف عائلية تمحو الأفراد.