«دبلوماسي من طيبة».. سيرة ذاتية لشخصية سياسية سعودية

السمة الغالبة لرجال الدولة السعوديين الاحتفاظ بأسرارهم

الكتاب: «دبلوماسي من طيبة.. محطات في رحلة العمر» المؤلف: د. نزار عبيد مدني تاريخ الصدور: يوليو (تموز) 2009 المطبعة: « سفير» بالرياض الناشر: المؤلف
TT

قلة هم الساسة العرب الذين كتبوا سيرهم الذاتية المتصلة بعملهم السياسي، أو دونوا تجربتهم في عالم الدبلوماسية، والأندر بين هؤلاء هم أولئك الذين مروا بالسياسة الخارجية أو الداخلية السعودية، وإذا ما استثنينا أولئك القدامى من المستشارين الذين عملوا في عهد الملك عبد العزيز، ومعظمهم من أصول غير سعودية ـ مثل فيلبي وحافظ وهبة وفؤاد حمزة وعبد الله بلخير ـ فإنني لا أعرف شخصية سعودية معاصرة دوّنت تجربتها السياسية.

وقد سبق لي في دراسة أخرى أن أشرت إلى أن السمة الغالبة لرجال الدولة السعوديين هي الاحتفاظ بأسرارهم مداراة للتوجه العام، واحترام خط ولاة الأمر في كتمان التفاصيل، حتى صارت ثقافة كتابة المذكرات السياسية حالة نادرة في الذهنية الرسمية السعودية.

لكن صاحب هذه السيرة الجديدة ـ الأولى من نوعها في عصرنا الحاضر، وهو الدكتور نزار عبيد مدني وزير الدولة الحالي للشؤون الخارجية ـ خرج ولم يخرج عن هذا التقليد، فهو تجرأ في إصدار سيرته جريا على عادة بعض ساسة العالم وشخصياته، وهو في الوقت ذاته حافظ على قواعد العُرف في حفظ أسرار الدولة، فظهر كتابه هذا الصيف أقرب إلى سيرة حياته الشخصية العملية والدراسية والأسرية، ومع ذلك فهو لم يتردد في إبداء رأيه في بعض المعضلات والأزمات الدولية المزمنة والطارئة.

ولعل من أبرز ما ضمته سيرته، التي بين أيدينا، أنها تضمنت إضاءات شافية من الدروس الأكاديمية التي لفتت نظره في أثناء دراسته في حقل العلوم السياسية في جامعة القاهرة ثم في الجامعة الأميركية بواشنطن، حيث نقل لنا بعض النظريات العلمية التي أعجب بها في تلك الحقبة من عمره.

ومن المعلوم أن صاحب السيرة هو ابن المؤرخ والأديب المدني (نسبة إلى المدينة المنورة) الأستاذ عبيد مدني المتوفى عام 1976، الذي ألف تاريخ المدينة المنورة (في خمسة أجزاء)، وتاريخ المسجد النبوي، ومساجد المدينة المنورة وأحكامها، وكتابا خامسا من مؤرخي المدينة هذا بالإضافة إلى شعره الذي ضمه ديوانه: المدنيات.

وقد استعار المؤلف بيتين من نظم والده جعلهما مدخلا لسيرته، يقول فيهما:

«هذا نتاج تجاربي .. فيما بلوت من الحياة

سجلتهن خواطرا.. للذكريات وللعظات»

كما استهل المؤلف كتابه بالآيتين الكريمتين «واحلل عقدة من لساني، يفقهوا قولي» من سورة طه، وهما الآيتان الدالتان على أهمية فصاحة المرسلين (والسفراء) في إبلاغ رسائلهم.

يقسم المؤلف كتابه إلى ستة فصول (محطات) جعل لكل محطة منها اسما يعبر عن المضمون والمرحلة، وخصص الصفحات الأخيرة لعرض صورة أسرية قديمة، وصور لبعض المناسبات الرسمية المهمة، وختم الكتاب بفهرس بالأماكن وأسماء الإعلام الواردة في متن السيرة.

تدرج المؤلف في سرد سيرته سردا زمنيا (كرونولوجيا) بدءا بطفولته في طيبة الطاهرة (المدينة المنورة) التي خصص لها الفصل الأول (الجذور)، وتضمن وصفا شيقا لمظاهر الحياة الثقافية والاجتماعية للمدينة المنورة في الأربعينات من القرن الماضي، وتشخيصا مفصلا لتكوين أسرته وأسلوب حياتها، والبيئة التي نشأ فيها، ذاكرا أسماء أصدقاء طفولته وأسماء جيرانه.. إلخ.

وكان والده (عبيد مدني) وعمه (أمين مدني) من أشهر شخصيات المدينة المنورة في القرن الماضي، وعاشا حياة أسرية متلازمة، في المنزل والمأكل والمشرب، فصور كتابه هذا النوع من الحياة المشتركة التي عرفتها الأسر السعودية والعربية ذات الإخوة الأشقاء، حيث يرد إلى الذهن من أمثلتها حال الشقيقين علي وعثمان حافظ (وهما من رواد الصحافة في المدينة المنورة)، ولذلك فقد تضمنت السيرة سردا لعلاقة الطفولة التي نشأت بينه وبين ابن عمه (إياد أمين مدني) وزير الإعلام السعودي السابق (المجايل له في العمر)، ولعلاقة التسجيل التي ربطته بأخيه الأكبر (د.غازي) مدير جامعة الملك عبد العزيز الأسبق.

أما المحطة الثانية (التحوّل) فوقعت أحداثها في القاهرة، حيث درس المرحلة الجامعية في العلوم السياسية، وهنا نأتي إلى تصوير جميل آخر لحياة الدارسين السعوديين في مصر في فترة الستينات، الفترة التي صورها أدباء عرب آخرون في رواياتهم وسيرهم، متزامنة مع فورة الناصرية والتقلبات السياسية العربية، حيث شهدت مخاضات مؤثرة في الأنظمة العربية في العراق وسورية واليمن وغيرها.

وهو في هذه المحطة، كما في حال نشأته في المدينة المنورة، يصف علاقته مع أصدقاء الدراسة، كما يصور بشكل معبر بيئة الدراسة في الجامعات المصرية، التي مثلت له (تحولا) ونقلة نفسية واجتماعية بالغة التأثير، مقارنة مع بيئة طفولته في المدينة المنورة، حيث عاش في القاهرة منفصلا لأول مرة، عن أحضان أسرته، وقد وُفق كثيرا في تصوير هاتين المحطتين تصويرا فنيا وإنسانيا شائقا، رغم انقضاء عقود على مروره بهما.

وهو يتحدث عن أساتذته وزملائه والمناهج التي درسها والموضوعات التي جذبته، والمؤلفات التي قرأها، والنظريات التي رسخت في ذاكرته، في مشهد تكرر مع القاهرة ومع دراسته في واشنطن لاحقا، مما جعل سيرته قراءة تحليلية وسياحة أكاديمية في نظريات العلوم السياسية، كما سجلتها المدارس الأميركية المختلفة في تلك الحقبة.

ثم ينتقل المؤلف إلى محطته الثالثة (التأسيس) التي روى فيها عودته من الدراسة الجامعية، وبداية عمله في أول عتبة من سلالم وزارة الخارجية السعودية التي كانت آنذاك لا تزال في جدة قبل أن تنقل قبل نحو عقدين إلى العاصمة (الرياض).

توضح رواية المؤلف لهذا التدرج الوظيفي، كونه أحد القلائل الذين بدأوا مع الوزارة، ثم ترفع مرتبة مرتبة، ودرجة درجة حتى بلغ الوظيفة (الوزارية) التي يشغلها حاليا، وقد كانت وزارة الخارجية الميدان الوحيد الذي عمل فيه طيلة حياته العملية الوظيفية حتى صار برتبة سفير، ومديرا للإدارة العربية، ثم مرت أربع سنوات (بين عامي 1994 و1998) أصبح فيها عضوا في مجلس الشورى السعودي، دون أن تنقطع صلته بوزارته (الأم) التي أمضى فيها سنين الوظيفة، لكنه ما إن انتهت الدورة الأولى للمجلس حتى عاد مساعدا لوزير الخارجية، ثم وزير دولة للشؤون الخارجية، ليكون الرجل الثاني وظيفيا بعد وزير الخارجية (سعود الفيصل).

المهم في هذه السيرة أنه التزم المنهج الزمني، والمرحلة العمرية والوظيفية التقليدية التي سارت عليها معظم السير الذاتية، وقد تحدث الفصل الرابع عن فترة واشنطن (التأهيل) التي كان جمع فيها بين العمل سكرتيرا في السفارة السعودية في أميركا بدءا من عام 1996 في زمن السفير إبراهيم السويد ثم محمد عبد الله علي رضا، وبين دراسة الماجستير ثم الدكتوراه، مواصلا تخصصه الأساسي (العلوم السياسية)، وقد استغرقت مدة مكوثه في أميركا قرابة عشر سنوات، وهي الفترة التي تزامنت مع وفاة الملك فيصل وفقد والده، وتعيين الأمير سعود الفيصل وزيرا للخارجية، حيث بدأ يروي سلسلة من الذكريات عنهم ومعهم.

وينهي د.نزار عبيد مدني رواية سيرته الذاتية بالفصلين (المحطة الخامسة: الانطلاق.. والسادسة: الحصاد) ليسرد فيهما عودته إلى الوزارة نحو ست سنوات في جدة، وما مر عليه وعلى أسرته خلالها من تطورات، معرّجا على تجربته بعد ذلك في مجلس الشورى، ثم على الوظائف القيادية العليا التي مارسها.

جدير بالذكر هنا أن والده كان أحد أعضاء مجلس الشورى القديم في المملكة العربية السعودية في زمن الملك عبد العزيز.

لم يغفل مؤلف الكتاب، وهو يركز في سيرته على حياته العملية والأكاديمية، أن يعرض بين الحين والحين لحياته الأسرية، بدءا بفقد والدته وهو في الثالثة من عمره، وبقصة زواجه، وبتسلسل ميلاد أولاده، ومرورا ببعض المفاجآت والمنغصات الصحية والمنزلية (من حريق وسرقات) وكيف تصرف معها.

وبعد:

كان يمكن لهذا العرض أن يزيد من الاسترسال، لكنه آثر التوقف عند هذه الجرعة المقبّلة، لإفساح المجال للقارئ أن يستمتع بقراءته، ولعلي بهذه المناسبة أجدد الدعوة لذوي المراكز المؤثرة في عالمنا العربي، أن يدونوا تجاربهم المفيدة للقراءة، والمثرية للأجيال، والمغذية للتخصصات العلمية والتجارب الإدارية.

* باحث وإعلامي سعودي