لصوص محترفون.. لكن أدباء!

القائمة السرية تضم أسماء شهيرة

TT

من قال إن الأدباء لا يسرقون؟ فبالتدقيق والتفتيش يتبين أن السرقة أنواع، وأن ثمة من بين الأدباء من احترف سرقة الكتب ونشلها، ووصل به الأمر حد الاتجار بمسروقاته وجني الأرباح من ورائها، أو تشكيل عصابة لكل فرد فيها دوره لحبك خطة الفوز بها. وإن كانت الشرطة سرعان ما تغلق ملفات التحقيق التي يتورط فيها أدباء، إما لأنها لا ترى في سرقاتهم ما يستحق العقاب، أو لأنها ترى هذا إحراجا لمكانتهم الأدبية، فهذا لا يعني أنهم ليسوا جناة أو لصوصا. وهنا تحقيق يبحث في ظاهرة، نادرا ما ألقي عليها الضوء.

رجل يرتدي معطفا، يتنقل في هدوء بين أروقة المكان، يحاول أن يبدو تلقائيا وهو يتلفت حوله، عندما يتأكد من أن الوضع آمن يمد يده ويلتقط كتابا من فوق الرفّ المقابل ويدسه في معطفه. حتى هذه الخطوة تتشابه الأحداث، لكن السيناريوهات تختلف بعد ذلك. فقد يخرج الرجل في هدوء كما دخل، وقد ظفر بغنيمته، وقد يفاجأ بنفسه محاطا بعدد لا بأس به من البشر الذين تجمعوا بعد صرخة: امسك حرامي!

ما سبق ليس مشهدا ينتمي إلى الكتابة البوليسية، بل هو واقع قد يحول الكاتب إلى البوليس لتحرير محضر بالسرقة! لكن سرقة الكتب عادة ما تنتهي ببعض التعنيف لظروف ترتبط بأحوال الثقافة نفسها، إضافة إلى وضع اللص الذي يكون غالبا واحدا من الأدباء الذين يرون أن السنوات العجاف التي يحياها المثقف تبيح له السرقة لسد رمقه! غير أن البعض خلق منها فرصة عمل يتكسب منها، معطيا الأولوية لغذاء البطون الذي يتحقق له مما يربحه من بيع غذاء العقول!

الغريب أن الظاهرة ليست قاصرة على بلد عربي بعينه، فالظاهرة لا تعترف بالحدود الإقليمية، لدرجة أنها تمتد إلى كل أنحاء العالم على ما يبدو، ويبدو أيضا أن الوسائل التقليدية لردع اللصوص لم تكن فاعلة مع سارقي الكتب، مما جعل البعض يلجأ إلى التعاويذ والأدعية. فعلى باب إحدى مكتبات برشلونة كتبت العبارات التالية: «من يسرق كتبا، أو يحتفظ بكتب كان قد استعارها، عسى أن يتحوّل الكتاب الموجود في يده إلى أفعى رقطاء، وأن يصاب بشلل ارتجافي قاهر وأن تُشَلّ جميع أطرافه، ويصرخ عاليا طالبا الرحمة، دون أن تنقطع آلامه، إلى أن يتحوّل إلى رمّة متفسّخة»!! لكن كل ذلك لم يمنع السرقة، حتى إن قائمة اللصوص ـ التي سنبقي عليها سرية ـ ضمت في الماضي أسماء أصبحت من رموز الأدب العربي المعاصر!

بمجرد أن سمع الروائي محمد البساطي محور الموضوع تعالت ضحكته. قلنا له إن الضحكة ذات مغزى، فعقب بأن سببها هو ذكرياته التي استحضرها، بعد اتهامات سريعة لعدد من أصدقائه بأنهم استعاروا منه كتبا ثم أنكروا بعد ذلك أنهم أخذوها، طلب عدم كتابة أسمائهم، ثم اعترف بأنه كان في مرحلة ما شريكا للصوص الكتب! اعتراف جعلنا نطلب توضيحا، فقال: «كانت هذه السرقات تتزايد في معرض الكتاب، وكان هناك محترفون، أحدهم ـ وهو روائي معروف ـ كان يرتدي معطفا ويدخل إلى الأجنحة ويستولي على ما يستهويه. وفي نهاية اليوم يكون لدى كل لص منهم عدد كبير من الكتب، فيبدأ البحث عمن يملك سيارة لنقل حصيلة اليوم إلى خارج المعرض. وكنت أملك سيارة، لذلك تم استغلالي لكن دون أن أعرف أن هذه الكتب مسروقة. كنت أتعامل معها على أنها مشتريات، وذات يوم فوجئت بهم يتحدثون عما يفعله كل منهم، فما كان مني إلا أن قلت لهم (يا ولاد الـ...) لن تقتربوا من سيارتي مرة أخرى».

يعود البساطي ليتحدث عن معاناته الشخصية التي تمثلت في ضياع عدد كبير من كتبه نتيجة استعارات من أصدقاء احترفوا السطو على كتبه ثم إنكارهم لها، ويوضح: «أحيانا كنت أشعر أنني أرغب في إعادة قراءة كتاب ما، وبعد أن أستغرق يوما في البحث أتذكر أنني أعرته لصديق. أسأله عن الكتاب فينكر، ونصحني البعض أن أدوّن أسماء من يستعيرون، لكني وجدته حلا غير مجدٍ». وبعد تفكير توصل البساطي إلى حل رآه عمليا: «بدأت أشتري من كل كتاب جديد نسختين، واحدة للقراءة، وأخرى للسرقة!!».

* عصابات!

* الغريب أن عددا من المثقفين كان يرى أن السرقة أمر طبيعي، لدرجة أن بعض الذين أصبحوا رموزا فيما بعد كانوا يحترفون السرقة، حسبما يؤكد الشاعر شعبان يوسف، الذي يواصل حديثة بعبارات صادمة: «لم تكن الحالات فردية، بل كان هؤلاء يشكلون ما يشبه العصابات التي تمارس السرقة». جمعت السرقة بين مختلف الأطياف، «كان هناك شاعر العامية الذي احتل منصبا فيما بعد, والروائي السبعيني، وشاعر التفعيلة، والمناضل السياسي»! وأمام هذا التنوع تنوعت الأساليب أيضا، «كان هناك من يعمل بطريقة بدائية حيث يكتفي بارتداء معطف ليتمكن من إخفاء الكتاب المستهدف تحته، لكن في المقابل بدأ آخرون يطورون من أدائهم لزيادة عدد الكتب المسروقة في المرة الواحدة، حيث يقومون بشراء عدد كبير من الكتب والحصول على فاتورة بأسمائها وأسعارها، ثم يسلم الفاتورة لآخر ليقوم بسرقة العناوين نفسها وتمريرها من خلال الفاتورة الأولى التي كان يعاد استخدامها لعدة مرات! وكانت النتيجة تظهر بوضوح على موائد بعينها في كافتيريا معرض الكتاب، حيث نفاجأ بعدد كبير من الكراتين الممتلئة بالكتب». يذكر شعبان يوسف أسماء كثيرة لأدباء أصبحوا معروفين، ويحرص بدوره على التأكيد على عدم نشر هذه الأسماء. فرغم أن نشاطهم كان معروفا في كواليس الوسط الثقافي، فإنه لا يوجد رسميا ما يدينهم، حتى في الحالات القليلة التي كانت تكتشف: «إذ كان يتم تحرير محاضر تغلق في اليوم نفسه بعد تسوية المشكلة».

من بين الأسماء التي طرحها كل من البساطي وشعبان ورد اسم الروائي السبعيني نفسه، اتجهنا إليه وأخبرناه بمحور الموضوع، وكان سؤالنا له: «هل سبق لك أن تعرضت لعملية سطو؟» فأجاب: «ليس سطوا بالمعنى المفهوم، فقد استعار البعض مني كتبا ولم يعيدوها، لكني أيضا فعلت الشيء نفسه». «هل لك ذكريات مع سرقات تختلف في طبيعتها عن هذه النوعية؟»، يصمت لثوانٍ قبل أن يجيب: «أنت تحدث رجلا كبيرا في السن، والذاكرة تنسى الكثير من التفاصيل». «يبدو أن الحديث في هذا الموضوع لا يستهويك»، فيعقب: «ليس الأمر كذلك. في الماضي كان هناك أدباء يسرقون الكتب بالفعل، لكن الأمر لم يصل إلى حد أن يكون ظاهرة».

* اعترافات لص متقاعد

* بين السطو الصريح والسرقة تحت مسمى الاستعارة، انتقلت الكتب من يد إلى أخرى. كان الهدف في أحيان كثيرة هو اقتناء الكتب وقراءتها، غير أن الأمر تجاوز ذلك إلى السرقة بهدف الاتجار. يؤكد شعبان يوسف أن عدد الكتب المسروقة وتكرار عناوينها يشير إلى أن القراءة لم تكن هي الهدف، حتى إنه كانت هناك واقعة شهيرة تسببت في إغلاق دار نشر يمتلكها عدد من المثقفين بعد تحرير محضر سرقة تورط فيه عدد من مؤسسيها. بينما يشير البساطي إلى عملية اتفاق تمت أمامه ذات مرة: «هناك شخص لا أذكر من هو تحديدا، كان الراغبون في اقتناء كتاب ما يتجهون إليه ويذكرون له العنوان المطلوب فيسرقه ويبيعه لهم بنصف ثمنه في جناح العرض». نسأل البساطي عن اسم هذا الشخص فيؤكد أنه لا يذكره، نخبره باسم شاعر عامية شاب فيهتف: «هذا صحيح، إنه هو». قبل سنوات كان لكاتب هذه السطور مقابلة مع شاعر العامية الذي اعترف بما يقوم به، لكنه أكد أنه اعتزل، ووافق على إجراء مقابلة صحافية نشرت في حينها، أوضح فيها الأساليب التي كان يستخدمها وأشهرها ارتداء المعطف الذي يسهل له عملية إخفاء الكتب تحته. كان يسرق بهدف البيع في الأساس، لكنه أشار إلى أن سعر الكتاب كان يختلف حسب حالة من يشتريه، ويبدو أن اعتزال السرقة لم يكن ناتجا عن تغير في القناعات بقدر ما كان ناتجا عن أنه أصبح وجها معروفا، حيث أكد أنه بدأ يعاني من شهرته في هذا المجال، تلك الشهرة التي تجعل المسؤولين في دور النشر يحيطون به بمجرد دخوله إليها! وهو ما أوقعه في قبضتهم أكثر من مرة، غير أنه كان يتغلب عليهم ـ حسبما أكد ـ بالصوت العالي الذي يرفعه موضحا أنه لم يكن يسرق، بل كان يتفرج فقط!

في منتصف الثمانينات كانت السرقات قد بلغت ذروتها، مما زاد من حدة تعامل أصحاب دور النشر مع هذه الظاهرة، وأصبح الشك هو القاعدة. قبل سنوات تعرض شاعر عامية آخر هو رجب الصاوي لموقف محرج، كان مع صديق له في معرض الكتاب، وفي أحد الأجنحة فوجئا بالمسؤول عن الدار يقترب منهما ويتهمهما بسرقة كتاب من الكتب المعروضة.

يواصل الصاوي ذكر ما جرى قائلا: «كان صديقي ـ الذي أصبح بعد ذلك أستاذا بكلية الحقوق جامعة الأزهر ـ قد اشترى الكتاب من دار أخرى دون أن يفكر في الحصول على فاتورة، ولسوء الحظ كان الكتاب نفسه معروضا في الدار التي اتهمنا فيها بالسرقة. وبعد أن أفقنا من صدمتنا بدأ صوتنا يعلو، واستمر الشجار لفترة قبل أن نأخذ من اتهمنا بالسرقة إلى الدار التي اشترينا منها الكتاب لنثبت له أن الكتاب معروض في أماكن أخرى كثيرة. وانتهت المشكلة على خير». معلومات الصاوي عن سرقات الكتب ليست كثيرة، لكنه يؤكد أن روائيا شابا معروفا يمتلك وقائع أكثر ويعرف اللصوص بالاسم، نتجه إليه فينفجر ضاحكا قبل أن يؤكد أنه لا يحب الكلام في هذا الموضوع لأنه لا يعجبه. نسأله: «هل هو تقييم موضوعي لفكرة التحقيق أم محاولة للهروب من الاعتراف على عدد من اللصوص؟»، يرد: «لن يتم استدراجي للحديث.. لكني لا أمانع في مشاركتكم أي تحقيق آخر»!!