دريدا: لغتي هي لغة الآخر

ظلال عبد الكبير الخطيب في كتاب للفيلسوف الفرنسي

أحادية لغة الآخر أو ترميم الأصل المؤلف: جاك دريدا - ترجمة: عزيز توما ـ إبراهيم محمود. الناشر: دار الحوار، 2009.
TT

يخوض جاك دريدا، (1930 ـ 2004)؛ الفيلسوف الفرنسي، الجزائري الجذور، الذي يعتبر من أشهر فلاسفة القرن العشرين حين برز كمنشئ لمذهب جديد في علم الفلسفة دُعي بالتفكيكية، التي يصفها بأنها عملية حركية استراتيجية في تحليل النص والنظر إليه. وفي كتابه «أحادية لغة الآخر أو ترميم الأصل» المُترجم حديثا إلى العربية، يتناول اللغة المهووس بها، بالتنقيب في بحورها، بكل تداعياتها، بتداخلاتها، وتشعباتها، بتاريخ الألفاظ والكلمات وارتحالاتها، بتقلباتها، وطبقاتها، ما تظهره وما تبطنه وما تشي به، ما تسميه، وما تومئ إليه من دون أن تسميه. غير دريدا في بنية التفكير في اللغة، وسع أفق فقه اللغة، واعتبرت كتاباته ثورة فكرية ولغوية.

الكتاب عبارة عن نص قدمه دريدا أثناء مؤتمر في جامعة لويزيانا الحكومية في الولايات المتحدة الأميركية. وينقسم عدا توطئة المؤلف إلى بابين رئيسيين.

ينطلق دريدا في كتابه من مقترحين: «ـ لا نتكلم أبدا سوى لغة واحدة. – لا نتكلم أبدا لغة واحدة». وتتبدى أفكار وظلال المفكر المغربي الذي يكتب بالفرنسية عبد الكبير الخطيب، صاحب «الاسم العربي الجريح» وكتب أخرى رائدة وخاصة «عشق اللسانين»، في كثير من طروحات دريدا في هذا الكتاب، إذ إنه يكثر من الاستشهاد به، ويرى فيه الصورة المقابلة أو المماثلة، فهو أيضا يستوطن لغة ليست لغته، يبدع بها، يتغلب على أبنائها، من دون أن يكون واحدا من المرتهنين لأي تضييق أو ارتهان مفترضين.. فهما يلتقيان في التنوع، وهذا بالضبط ما يقوي فكرهما ويجذره.

عن أية لغة يتحدث دريدا؟ يقول: «لا أمتلك إلا لغة وهي ليست ملكي، لغتي «الخاصة» هي لغتي غير القابلة للانحلال. لغتي الوحيدة التي أتفاهم بها وأسمع بها، وهي ناطقة، هي لغة الآخر». ص37. هي اللغة التي يستوطنها الكاتب، تلك اللغة التي تسكنه ويسكنها، رغما عنه أو نتيجة لظروف تاريخية فُرضت عليه فرضا.. يحتفي دريدا باللغة، أحاديتها، ثنائيتها، ويبين كيف تصبح تلك الأحادية الملزمة، ثنائيات متعددة، عندما ينفتح الإنسان من خلالها على المحيطين به، من دون أن ينغلق بنفسه أو يتقوقع داخلها، كما يتحدث في وسائل البعض في التخفي خلف أسيجة اللغة، أو السكن داخلها من دون أية محاولات اجتهادية منهم في سبيل تطويرها. فكما هو معلوم أن أية لغة حية هي كالكائن الحي تماما، يكون تطورها على أيدي المبدعين من مستوطنيها، سواء كانوا أهلها أو من أصبحت لهم وطنا.. وذلك لا يتأتى من خلال الركون إلى القوالب الجاهزة، أو الرهان على ما هو كائن، أو الارتهان له، بل يكون في مسعى حقيقي لتطويعها حتى تلائم أهدافه التي يرمي إلى تحقيقها، عن طريق ترويضها، كي تُسلس له قيادها، وتمكنه من نفسها، بعد أن يكون قد وصل إلى درجة من الوعي بها والمسؤولية تجاهها.

رغم أن اللغة التي يتكلمها دريدا ليست لغته، لكنها لا تكون غريبة عنه، ولا يكون غريبا عنها، أي لا يكون الآخر، وهي لا تكون الأخرى، يكون هو المقيم فيها، يغدو مواطنها، وتكون هي موطنه، يعيشها، ويعيش معها وبها، يسمي دريدا اللغة مأواه، يستشعرها، يتنفس بها وفيها، يوجد بها ومعها، لا ينازعها ولا تنازعه، كونها هي ذاته، أي أنها تشكل له كينونته. بالنسبة له، هو هي. يقول: «.. أحادية اللغة التي أتنفس فيها بالذات، هي بالنسبة لي المادة. ليست مادة طبيعية، ليست شفافية الأثير، إنما وسط مطلق، أحادية لا يمكنني تجاوزها، لا تقبل المنازعة، لا أستطيع مقاطعتها إلا حين أثبت حضوري الكلي في داخلي. كانت تسبقني في كل وقت. ذاك أنا. أحادية لغة الآخر هذه، بالنسبة لي هي ذاتي».

«أحادية لغة الآخر أو ترميم الأصل» كتاب غني بمضامينه وأفكاره التي لا يكون القبض عليها بمتناول القارئ البعيد عن معجم دريدا الثري، ببساطة، فكل كلمة أو فكرة تنفتح على أخريات، وتتكامل معها في سياق عام، من خلال لغة دقيقة محسوبة.

* كاتب وروائي سوري