جوائز الدولة في مصر.. البحث عن رضا السلطة

نقاد وكتاب وباحثون يقيمون فعاليتها في مرآة الواقع الثقافي

TT

يعتقد كثير من المثقفين المصريين أن جوائز الدولة باتت تحتاج إلى من ينقذ سمعتها، ويخلصها من أمراضها. فهذا فائز يكفّر، وذاك تسحب منه لأسباب مجهولة، وآخر يمنحها لنفسه بفضل وجوده في موقع سلطوي. فمن ينقذ جوائز الدولة في مصر من مهزلتها، وكيف؟

معضلة سنوية اسمها جوائز الدولة في مصر. فما إن يتم الإعلان عنها، حتى تبدأ حالة من الجدل واللغط، تتجاوز أوساط المثقفين، وتمتد ـ أحيانا ـ إلى تقديم أسئلة وطلبات إحاطة برلمانية، مثلما حدث هذا العام، إثر إعلان فوز الباحث سيد القمني بجائزة الدولة في العلوم الاجتماعية، بل وصل الأمر إلى شن حملة إعلامية وقضائية ضده، تطالب بسحب الجائزة منه، وتتهمه بالكفر والإلحاد، وبتكريس مؤلفاته للتشكيك في الإسلام.

الأمر نفسه حدث العام الماضي مع الشاعر حلمي سالم، رئيس تحرير مجلة «أدب ونقد»، حيث طالب البعض بسحب جائزة التفوق منه، لأنه تطاول على الذات الإلهية في قصيدته الشهيرة «شرفة ليلى مراد»، والتي تسببت في إغلاق مجلة «إبداع» التي تصدر عن «الهيئة المصرية العامة للكتاب»، وسحب الترخيص منها، وهي هيئة حكومية.

كلا الاثنين، القمني وسالم، رُشحا من قِبل «أتيليه القاهرة للفنون والآداب». وهي جمعية أهلية تتلقى معونة سنوية من وزارة التضامن الاجتماعي، وتتبع معنويا وزارة الثقافة. لكن اللافت في الحملة ضد القمني وسالم أنها لم تضعهما في خانة المدافع عن أدبه وعلمه، فحسب، بل وضعتهما قبل أي شيء في خانة المدافع عن عقيدته، وتأكيد الحرص على عدم استفزاز مشاعر المجتمع وتقاليده وأعرافه، وهو ما يعنى ضمنيا خلطا في المفاهيم وفي الرؤى.

لكن السؤال الذي يطرح نفسه هو: لماذا كل هذا اللغط حول جائزة، لن تصنع ـ في النهاية ـ فنانا، أو عالما. ثم كيف يقبل مبدع أصيل جائزة من حكومة لا يرضى عنها، ولا يتوافق مع أيديولوجيتها، ناهيك عن أن عائد الجوائز المادي حتى في شريحته الأعلى (جائزة مبارك ـ 400 ألف جنيه)، أصبح بالكاد يكفي لشراء شقة متواضعة في حي شعبي.

قبيل سنوات وقف الروائي صنع الله إبراهيم على منصة التتويج لملتقى القاهرة للإبداع الروائي العربي، معلنا رفضه تلقي جائزة من حكومة، حولت الثقافة إلى كرنفالات ومهرجانات شائهة لا تغني ولا تسمن من جوع. وهذا العام خالف الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي الأعراف الأدبية، وحصل على جائزة ملتقى القاهرة للإبداع الشعري العربي. حجازي كان رئيس الملتقى، وهو مقرر لجنة الشعر المنظمة له بالمجلس الأعلى للثقافة، مما جعل البعض يكتب معلقا في إحدى الصحف «حجازي يمنح نفسه الجائزة»، كما اعتبرها البعض بمثابة مكافأة «نهاية خدمة» لحجازي.

في معرض الإجابة عن السؤال الشائك السالف الذكر، يقفز على السطح همّ البحث عن سلطة أخرى، تعزز مكانة المثقف في المجتمع، بخاصة بعدما تميّعتْ سلطةُ النصِ المبدعِ نفسه، وتحول الكلام عنها وعنه إلى مجرد، خيالات نقدية لا سند لها في الواقع.

العتبة الأساس في معرض الإجابة عن السؤال الشائك، هي رضا الدولة، والتي يعد الحصول على إحدى جوائزها بمثابة تدشين وتوثيق متبادل لهذا الرضا. وتحت مظلة الرضا جلس مثقفون حقيقيون سنوات طوالا في انتظار الصعود إلى المنصب الأعلى، لكنهم بمرور الوقت، تحولوا إلى حراس لهذا الرضا السامي. ولا يزال الواقع الثقافي المصري يتندر على مقولة أحد هؤلاء المشمولين بالرضا «يا ناس نفسي أقعد على كرسي الوزارة ولو ساعة واحدة».. ورحل الرجل دون أن يبلغ هذا الحلم.

واقع جوائز الدولة بمصر، يشكل حالة فريدة، فغالبية الجهات التي لها حق الترشيح لهذه الجوائز هي مؤسسات الدولة نفسها، ثم إن المسؤول عن الجائزة هو المجلس الأعلى للثقافة، وهو جهة حكومية، كما يقوم بعملية الفرز والتحكيم أعضاء المجلس نفسه، وهم بدورهم يتم اختيارهم من قبل الحكومة.

يبلغ أعضا المجلس 61 عضوا، تملك الحكومة وحدها أكثر من نصفهم (أعضاء بحكم مناصبهم)، والباقي (أعضاء لأشخاصهم)، معظمهم من مثقفي الدولة الموالين للحكومة. كما يشترط للفوز بالجائزة الحصول على أغلبية مطلقة (نصف الأعضاء+1). وهي تركيبة تجعل خيوط اللعبة كلها في يد الحكومة، الممثلة هنا في وزير الثقافة. الأدهى، أن الجائزة شهدت في أعوامها الأخيرة ظاهرة مستجدة، وهي ترشيح عدد كبير من أعضاء المجلس أنفسهم في جائزتي مبارك والتقديرية، مما جعل البعض يتشكك في مدى نزاهة التصويت.

ودرءا للمحسوبية طالب بعض المثقفين بتأسيس جائزة أهلية موازية، تحكمها الشفافية والاستقلالية، عبر لجنة خاصة تتشكل من علماء الأمة وعقلائها، على أن يعاد تشكيلها كل 5 سنوات، على غرار جائزة «بوليتزر» التي تمولها جامعة كولومبيا في أميركا.

ليس غريبا في هذا السياق أن يصف أحد أعضاء المجلس عملية التصويت على الجوائز بأنها أشبه بتمثيلية. فلو كان العضو المُحَكِمُ مرشحا من زمرة أعضاء المجلس لإحدى الجوائز، فكل ما في الأمر أنه يخرج إلى خارج القاعة أثناء عملية التصويت، ليرتشف فنجانا من القهوة، ثم يعود إليها، بعد انتهاء التصويت، وفي عينيه نظرة قلق مصطنعة، وعلى شفتيه ابتسامة تئن من حمرة الخجل.

ومن أطرف المواقف في هذه التمثيلية ـ كما يشير العضو ـ جهل بعض المحكمين، وبخاصة من ممثلي الإدارات الحكومية، بهوية المرشح للجائزة، لذلك لا تتعجب، حين يميل عليك أحد هؤلاء ويسألك بكياسة ومسكنة (هو الراجل ده بيشتغل إيه)؟!.

الروائية بهيجة حسين تعلّق على هذا المشهد قائلة: «جوائز الدولة، وبعد اختلاط الغث بالثمين أصبحت هزلية، لا قيمة لها. في كل سنة يصدرون لنا واحدا أو اثنين من أصحاب التميز والسمعة الجيدة، لسد أفواهنا عن انتقاد هذه الجوائز. العام الماضي صدروا لنا يوسف شاهين، وعز الدين إسماعيل، وهذا العام بهاء طاهر». تستدرك بهيجة: «لكن هذا الأمر أصبح ممجوجا، وينبغي أن ينهض المثقفون بدورهم حيال هذا التردي الذي وصلت إليه الجوائز، حتى أصبح منطق الولاء للسلطة هو المعيار الأساس للفوز بها».

وحول تصورها لتصويب مسار الجوائز تقول بهيجة: «إن مؤتمرا ثقافيا عاما، يجمع كل أطياف الفعل الثقافي، ويضع على عاتقه مناقشة واقع جوائز الدولة، من الممكن أن يصل إلى حل يفعِّل الجوائز، ويجعلها مرتبطة ونابعة من هموم ومتطلبات الحياة الثقافية والعلمية والفنية، وليس وفقا لما تقتضيه ألاعيب وحيل ممالأة السلطة، من دجل ونفاق، وغيرها من أشكال الفساد».

ومن أغرب المواقف التي شهدتها جوائز الدولة في مصر هذا العام وربما على مدار تاريخها، واقعة حجب جائزة بعد فوز صاحبها بها. وذلك عقب تدخل د.هاني هلال، وزير التعليم العالي والبحث العلمي لحجب جائزة الدولة التقديرية في العلوم التي منحتها اللجنة للدكتور هاني الناظر رئيس المركز القومي للبحوث، من دون إبداء أسباب علمية. والمفارقة أن وزير التعليم نفسه قام بالتوقيع والموافقة على خطاب ترشيح الناظر للجائزة. وحتى الآن يظل السؤال معلقا: لماذا اعتمد الوزير ترشيح الباحث للجائزة، ثم لماذا اعترض عليه حين فاز بها؟!

المحزن في الأمر، على حد قول الدكتور الناظر نفسه، إن الأبحاث العلمية تعد معيارا واحدا ضمن 13 معيارا للترشيح للجوائز. «وضع جوائز الدولة بمثابة كارثة». بهذه العبارة يطرق الشاعر صلاح اللقاني أبواب المشكلة، مشيرا إلى أنه من غير المعقول أن يصل الأمر بجائزة شَرُفَتْ منذ إنشائها عام 1958 بحصول أفذاذ عليها من أمثال: طه حسين والعقاد وتوفيق الحكيم ونجيب محفوظ، وغيرهم، ثم تتحول إلى مصيدة لكل من هب ودب. صحيح أن من بين من يحصلون عليها أسماء جديرة بالاحترام، لكنها أصبحت حلبة لصراع مقيت، بخاصة في السنوات الأخيرة بعد ضخ حفنة من الأموال الهزيلة في شرايينها الشائخة.

يقول اللقاني: «من غير المعقول على سبيل المثال أن يشهد هذا العام حجب نحو 14جائزة، من جوائز الدولة التشجيعية، وعددها 34 جائزة، لأسباب مثل: قلة المتقدمين، أو عدم وجود منتج يرقى إلى الجائزة». «المدهش ـ والكلام للقاني ـ أنني قرأت هذا العام عددا من الأعمال الإبداعية في الشعر والرواية والقصة لمبدعين شبان، يستحق كل واحد منهم الجائزة باقتدار، لكن هؤلاء ربما يتعففون عن التقدم لجائزة أصبحت أحوالها هكذا، والمفترض أن تبحث الجائزة عنهم وتسعى إليهم».

في دراسة مهمة للباحث نبيل عبد الفتاح رئيس مركز التاريخ بصحيفة «الأهرام» بعنوان «كرنفالات الجوائز» نشرها بصحيفة «أخبار الأدب» عقب إعلان الجوائز يقول: «جروح عديدة تنطوي عليها جوائز الدولة في مصر، منها تمثيلا لا حصرا، هذا العدد الضخم الذي يتم منحه الجوائز سنويا، إنها تبدو لي مقارنة بتاريخها، حيث كان العدد قليلا، وكأن المؤسسة الرسمية وسلطاتها التابعة تمنح بعض العطايا لأعداد كبيرة توافرت لها الامتثالية، للشروط السياسية والمؤسسية، فيما وراء شروط الجائزة».

ويؤكد عبد الفتاح «أن الفجوة بين كثرة أعداد الحاصلين على الجوائز، وواقع الثقافة في السياسة، وتأويلات السلطات الدينية التي أصبحت الآن جزءا من مملكة التقويم الأدبي والجمالي والفلسفي في المجتمع المصري تبدو واسعة، وبات المبدع أسيرا لهيمنة السلطتين السياسية والدينية المتواطئتين لحجب السلطة النقدية والمعرفية والتخيلية للمبدعين، ومحاولة إخضاعهم لسنن الموالاة والتأييد، وشراء حق السكوت، وتكميم الأفواه، وتطويع الكتابة والمعرفة وفق معايير دينية فقهية وتأويلية ولاهوتية وضعية، تسير في مسارات السياسة وأهوائها ومخاتلاتها».

الفنان التشكيلي محمد عبلة يدلي بدلوه، ويتساءل متهكما: عن أية جائزة تحدثني، يا عمي هذه جوائز بـ«الزوفة». وهو تعبير دارج يعني الشراء، أو البيع بالكومة، أو «الشروة». وحين شددت عليه، تخلى عبلة عن مزاحه وقال: «ينبغي إعادة النظر في طبيعة الجوائز والآلية التي تحكم عملها، وأتصور أن تنهض بالمسألة هيئة خاصة، يقوم عليها كوكبة من النقاد والباحثين الثقات المشهود لهم بالأمانة وحسن الخبرة، ولا تخضع هذه الهيئة المرتجاة لأية وصاية من المؤسسة الرسمية، وينصب عملها على مسألة الجوائز، بداية من وضع لائحتها وشروط الترشيح لها، والإعلان عنها، كما يكون من مهامها متابعة مجريات الواقع الثقافي والعلمي والفني في مصر، حتى تصبح الجوائز محصلة حقيقية لإفرازات هذا الواقع».

ويسخر عبلة من جو الجوائز الحالي، مشيرا إلى أنه من الصعب على فنان بلغ مرحلة الكهولة في الفن أن يتقدم لمباراة تحكمها نوازع وأهواء التربيط والتكتيل، وكأنه تلميذ في سنة أولى فن. الفنان الحقيقي لا يتقدم لجائزة، بل تذهب إليه، لأنها تتشرف به.

أما الشاعر أسامة عفيفي فيضع المشكلة في سياقها التاريخي، ويقول: «المجلس الأعلى للثقافة بتشكيلته الحالية، هو أحد مواريث حقبة الرئيس الراحل السادات. فقد أنشأه السادات عام 1980 بهدف السيطرة الحكومية على الحياة الثقافية المستقلة، وإلغاء المكاسب الديمقراطية التي كان يحققها المجلس الأعلى للفنون والآداب الذي أنشئ في عام 1958 بعد مشاورات عديدة، قام بها الوزير فتحي رضوان مع كبار مثقفي وعلماء مصر، ونص قرار إنشائه الذي وقعه الرئيس جمال عبد الناصر، على أن هدف المجلس هو التخطيط لمستقبل الثقافة الوطنية، من خلال لجانه التي تضم علماء وأدباء مصر في مختلف التخصصات، على أن يضم المجلس في عضويته 20 عالما وكاتبا مصريا بالإضافة إلى وزيري التربية والتعليم والثقافة بحكم منصبيهما. وضم المجلس آنذاك: طه حسين، وعباس محمود العقاد، بيومي مدكور، عبد العزيز الأهواني، محمد عوض محمد، زكي نجيب محمود، أبو العلا عفيفي، وغيرهم من أعلام الثقافة العربية».

ويرى عفيفي «أن حل مشاكل المجلس الحالي بما فيها جوائز الدولة، يكمن في العودة إلى لائحة المجلس التأسيسية، على أن يضم المجلس الجديد 50 مثقفا وعالما بصفتهم الشخصية، بالإضافة إلى وزارة التربية والتعليم، والتعليم العالي والثقافة، على أن تقوم لجان المجلس بدراسة الترشيحات بموضوعية، وتنقيتها وكتابة تقارير علمية عمن يستوفي شروط الترشيح، ليقوم المجلس بمنح الجائزة لمن يستحقها. وأيضا يمارس دوره في التخطيط للثقافة الوطنية، وألا يقتصر هذا الدور على منح الجوائز، في اجتماع سنوي لا يستغرق سوى بضع ساعات».