علي الشدوي: الرواية تنمو في المشهد السعودي ضمن الفضاءات المتروكة

يرى أن الجماعات المتشددة كانت وراء تراجع الأنشطة الثقافية

علي الشدوي في امسية ادبية
TT

قدم الناقد السعودي علي الشدوي مجموعة دراسات نقدية صدرت في أربعة كتب، هي: (جماليات الغريب والعجيب، مدخل إلى ألف ليلة وليلة)، (ضحايا التأويل)، (الحداثة في المجتمع السعودي)، و(مدار الحكمة فرضيات القارئ ومسلماته)، لكنه إلى جانب نشاطه النقدي، كتب عددا من الأعمال الإبداعية، (سماء فوق أفريقيا، وحياة السيد كاف) وقريبا سيصدر له (تقرير إلى يوليوس قيصر).

في هذا الحوار الذي أجرته «الشرق الأوسط» مع الشدوي تحدث عن عمله الأخير (حياة السيد كاف)، وعن الصراع بين الحداثة وأعدائها، ورأيه في الرواية، من الثورة الروائية التي يعيشها المشهد الثقافي السعودي.

* لنبدأ من العمل الأخير (حياة السيد كاف)، في هذا العمل مزجت بين القصة القصيرة والرواية، وهو خط جديد في الرواية السعودية على الأقل، إلى أي مدى نجحت الفكرة في خدمة النص ككل؟

- القارئ هو الذي يحكم، فهذه الرواية تستند إلى التجريب، ويلزم أن تُقرأ في إطار هذا المفهوم، فكرة أن يكون القارئ كاسبا لا خاسرا، قارئ الرواية الذي كنت أفكر فيه وأنا أكتب لن يتخيل الوجوه والأجواء والمناظر، بل يؤلفها.

يوجد قصص فقط؛ ولكل قصة وجوهها وأجواؤها ومناظرها التي تختلف عن الأخرى، أما ما يشكل من الكتاب (رواية) فمتروك للقارئ وخياراته الشخصية.

* ألا يمكن أن يفسر الخلط بين جنسين سرديين (القصة والرواية) بأنه محاولة لتمرير قصص قد لا تنجح بمفردها عند نشرها، أو بأنه محاولة (تمطيط) لأحداث الرواية؟

- لا أعتقد ذلك. كما قلت أولا، الرواية تستند إلى التجريب، وقد نمت في ذهني فكرة الكتاب من قدرات القارئ التي تجعله يستطيع أن يخترع القصص، ويؤلف الحكايات، و يتحرر من اختراعات الكتاب. ولا أعرف ما إذا كنت قد وفقت أم لا، ما أعرفه أن الفكرة أو المبدأ أحيانا لا التنفيذ، هو ما يعطي بعض الكتب أهميتها الإبداعية.

* هل القصة القصيرة مهددة بسبب هجرة كتابها إلى عالم الرواية؟

- لا يوجد شكل أدبي يهدد شكلا آخر، ما يميز الأشكال الأدبية هو أن كل شكل أدبي جديد تتاح له الظروف على أن ينتشر ويسود، وربما يحتل مركز الصدارة في الكتابة والنشر والتوزيع كما يحدث للرواية الآن، لكن ما يجعلها فريدة من نوعها هو أن انتشار وذيوع أي شكل أدبي لا يقضي على الشكل الأدبي الأقدم منه. على سبيل المثال، حينما انتشرت كتابة ونشر قصيدة التفعيلة، لم تقض على القصيدة العمودية، وحينما شاعت الآن كتابة ونشر قصيدة النثر لم تلغ قصيدة التفعيلة، مثلما هي الرواية الآن التي تحتل صدارة المشهد لم تستطع أن تنهي كتابة القصة القصيرة، بإمكان أي شكل من الأشكال الأدبية أن يستمر في الوجود، بإمكانه أن يتصدر أي مشهد ثقافي كتابة ونشرا، وأن يعيش إلى ما لا نهاية. وإذا كنا قد فكرنا في لحظة ما أن شكلا أدبيا قد قضي عليه كالمقامة مثلا، فإننا سنجد من يمثله الآن، وكتاب (مقامات القرني) يشير إلى عودة ذلك الشكل حتى لو فرغ من مضمونه، وانحط إلى أدنى شكل يمكن أن يُكتب به.

لا يمكننا الحديث عن موت الأشكال الأدبية، ذلك أن الشكل الأدبي لا يُقضى عليه، ولا يُمحى من الوجود، وهو قادر في كل مرة على أن ينهض من جديد، ينهض متى ما توفرت الظروف، وبالتالي فالحديث عن موت شكل أدبي هو حديث غير دقيق، ذلك أن الأشكال الأدبية كالبشر مجبرة على أن تتعايش بالرغم من أن بعضها يعيش مقهورا.

* هناك فورة روائية تشهدها الساحة الثقافية السعودية ما أسبابها برأيك؟

- يمكن أن نتفهم هذا في ضوء معطيات عامة وشاملة. فمن منظور تاريخ الأنواع الأدبية يبدو أن الرواية كانت تنمو في المشهد السعودي ضمن الفضاءات المتروكة من طرف الفنون الأخرى كالشعر، وقد مر وقت طويل قبل أن يُفهم أن هذا التطور الهامشي والمعزول هو الذي يعطي الرواية أصالتها، وأنها كانت تستمد قوانينها من تلك الحرية الظاهرية، فهي نوع يوجد في وسط الأنواع، وقواعدها هي نفسها تلك التي كانت ترفض الأنواع الأخرى تطبيقها على نفسها.

ومن منظور سوسيولوجيا الرواية يمكن أن يُفهم هذا في ضوء علاقة سوق بين المؤلف وبين القارئ، يتوسط بينهما ناشرون، وخلافا للشخصية الثرية والمتمتعة بالثراء والسلطة والنفوذ التي كانت تشجع الإنتاج الأدبي في الثقافة العربية، التي كانت سائدة إلى وقت قريب. خلافا لذلك، فإن ممارسة حماية الإنتاج الأدبي، قد تغيرت وبرز نمط من «اقتصاد السوق» الذي أدى إلى توسيع حرية الكاتب، وعزلته النسبية، وقلل اعتماده على مجموعات بشرية، أو مصالح، أو أفراد يتمتعون بالسلطة والجاه.

ومن منظور الموقف الذهني العام (أطر المعرفة) يمكن أن نتحدث عن تخلخل تصورات ذهنية متعلقة بالإدراك الأيديولوجي للتاريخ الذي يتطابق مع أفكار الطبقات الحاكمة ومع منطقها، فالرواية تبين مقاومة الوقائع والأشياء للأفكار والمثل، وهدف وجودها هو أن تتناول الإنسان والمجتمعات الإنسانية التي تعرف في الوقت نفسه أنها دخلت التاريخ، وتفهم أنها تعيش تاريخا، وتلاحظ أن تاريخ البشر مصنوع من طرف البشر، أو على الأقل من طرف بعض المجموعات البشرية.

أما من منظور التاريخ الاجتماعي، فقد بات شائعا الربط بين ظهور الرواية وانتشارها وبين تأكيد الفلسفة، والفكرة السياسية، والمجتمع على استقلالية الفرد. ويبدو أن هذا الربط ينطبق على المستوى المحلي، فالروح الجديدة في السنوات الأخيرة كانت «تنفخ» الرواية، فبسبب التأكيد الرسمي والشعبي ـ الخجول أحيانا ـ على الحوار والانفتاح والتسامح والفردية، بسبب هذا كله أصبح هناك اهتمام متزايد بعوالم الإنسان الداخلية، والحيوات الخاصة، والتجارب الذاتية، ما يمكن أن نسميه بظهور النزعة الفردية.

هذه المعطيات وإن كانت موجزة ومخلة، لا تفسر فقط ظهور الرواية في المجتمع السعودي، بل تلقي ضوءا معرفيا كاشفا على ازدهار كتابتها في السنين القليلة الماضية.

* هناك رأي يقول بأن معظم هذه الأعمال قصص (منفوخة) وإن كتابها استسهلوا الكتابة الروائية؟

- يبدو أن هذا ما يحدث في الغالب، وقد تورط فيه كتاب سعوديون كبار وذوو خبرة، وأعتقد أن السبب يعود إلى لغة البوح الشائعة في الأدب السعودي بصفة عامة.

يكفي أن يفتح القارئ أحد الدواوين الشعرية، أو رواية أو قصة قصيرة، حتى يمتلئ باللغة ويعجب بقدرتها الهائلة على البوح بالعالم الذي خلقه الشاعر أو الروائي أو القاص فيما هم يرتدون إلى داخلهم.

لغة البوح التي تطغى على ما ينشر حرمت الأعمال من اكتشاف العلاقات المحجوبة أو المفقودة بين الإنسان وبين المكان المتعدد، بين الأطفال والكبار، تبادل الآراء في الحفلات العامة والخاصة، وفي مختلف التجمعات العامة، والمبادلات العرضية المحضة، وردود الفعل على واقع الحياة والأحداث اليومية، وكما هو ديدن لغة البوح ينقسم الإنسان إلى حزين أو فرح، إلى سعيد أو شقي، والمكان إلى ساكن أو ضاج، والأشجار إلى عارية أو مورقة.

* عرفتك الأوساط الثقافية كناقد هل تراجع جانبك النقدي خلف أعمالك الإبداعية من قصة ورواية؟

- أنا موجود، وأشارك في الندوات والملتقيات التي تقام من أجل مناقشة الظواهر الإبداعية، وعما قريب سيصدر لي كتاب نقدي.

* صاحب كتاب (الحداثة في ميزان الإسلام) اعتبر في تحقيق ثقافي أجرته «الشرق الأوسط» أن (التصنيف بهدف التخوين جهل بالأنماط الفكرية والثقافية)، كيف تقرأ ذلك كمثقف؟

- كان هذا اعترافا متأخرا بعد أن رسخ هو التصنيف، فكتاب «الحداثة في ميزان الإسلام»، من أخطر الكتب التي صدرت في ثمانينات القرن المنصرم في ساحتنا المحلية. خطورة الكتاب لا تأتي من قيمته المعرفية أو المنهجية، بل من استناده إلى التصنيف، ومن تلقيه من قبل القراء والمتابعين، وفي الطريقة التي انتشرت بها أفكاره.

لقد كتبت عن هذا الكتاب، ووصفت تلقي الكتاب بنظرية الاتصال ذي الخطوتين، هذه النظرية نتجت عن دراسة الانتخابات الأميركية عام 1940، فوفقا لهذه النظرية فإن الناخبين الذين غيروا رأيهم، لم يجر التأثير فيهم بشكل مباشر عن طريق الرسائل التي وصلتهم من الصحف أو الراديو، إنما غيروا رأيهم بتأثير شخصي من قادة الرأي المحليين الذين تابعوا الأحداث مباشرة من الوسائط، ثم شرعوا يؤثرون في أتباعهم بشكل أساسي من خلال الاتصال بهم وجها لوجه.

* لماذا خبأ وهج بعض الفعاليات الثقافية (معرض الكتاب) وأسدل الستار على أخرى (العروض السينمائية) رغم أن القيادات الثقافية لم تتغير؟

- ما حدث كان بسبب ضغوط متشددة في المجتمع، ومن المناسب أن أقول للمسؤولين عن الثقافة في بلادنا إن هذه الجماعات المتشددة شرعت تزاحم سلطة وزارة الثقافة لتحل سلطة الوزارة في مرتبة ثانوية. على المسؤولين في وزارة الثقافة أن يعرفوا أن كل خطوة تخطوها الوزارة في اتجاه فعاليات ثقافية عصرية تزيد من نقمة هذه الجماعات، وكل زيادة في هذه النقمة تكشف عن عجز الوزارة، وكل انكشاف يصاحبه تردد وقلق وانعدام جرأة في اتخاذ القرار، وأخوف ما أخاف أن تصل وزارة الثقافة أخيرا إلى أن تخدم أهدافا لم تحددها هي، وأن يصبح واجبها أن تقوم بما لم تطالب هي به.