«أدب الهجرة» الجديد ساحة لمعارك خفية

بعد أن أصبح الترحال سمة العصر

TT

«أدب المهجر» تغير لونه وطعمه، بعد أن أصبح الترحال سمة العصر. وصار للأدب العربي، كتابات عن الهجرة لا تتحدث عن السفر إلى الغرب فقط، فهناك المهاجرون إلى إفريقيا، والمتنقلون بين العواصم العربية، والعائدون إلى بلادهم بعد طول غياب. إنها الهجرة في كل الاتجاهات، التي أنتجب أدبا جديدا يحتاج إلى من يستقرئ مكنوناته، ويكشف عن أسراره.

ظهر مصطلح «أدب المهجر» بداية القرن الماضي وبرزت عبره أسماء عديدة جلّّها من شرق المتوسط عبّدت بأعمالها طريق الهجرة إلى الغرب وزيّنته. وهاجرت بعد ذلك، أجيال أخرى من الأدباء، شغلت كتاباتهم حيزا كبيرا من أرفف المكتبة العربية. لكن ما يشغل المهتمين أن الحساسية التاريخية «الاستعمارية» ما زالت مسيطرة على كتابات الأدباء المهاجرين ما يعتبرونه مسّا بحيادية الأدب، بينما الجانب الغربي متهم من ناحيته بالانتقائية في التناول وبنمطية الصورة التي يرسمها عن الشرق.

البروفسور كزافييه لوفن، رئيس قسم اللغة العربية بجامعة بروكسل الحرة، ظل لصيقا بالأدب العربي بحثا وتدريسا ونقدا، ترجم الكثير من الأعمال العربية إلى الفرنسية ومنها رواية «إيزيس» لنوال السعداوي، وهو كناقد مشغول ببعض جوانب الأدب، لا سيما «أدب الهجرة». يقول كزافييه لوفن إن «أدب الهجرة» ظاهرة أفرزت أعمالا ثرية. وكان الأدباء العرب في منتصف القرن الماضي يركزون على تجاربهم الخاصة في الغرب. فمثلا هناك «عصفور من الشرق» لتوفيق الحكيم ومؤلفات لأنيس منصور، و«موسم الهجرة» للطيب صالح و«الأيام» لطه حسين. وهو شيء أشبه بالسيرة الذاتية لكن هناك الكثير في هذا الكتاب من معلومات عن الهجرة. وفي الأدب المعاصر بدا مفهوم الهجرة أكثر ثراء وحيوية. ففي رواية «إنها لندن يا عزيزي» للبنانية حنان الشيخ، وصف لأفراد من لبنان والسعودية والمغرب ومصر هاجروا إلى لندن واكتشفوا عالما جديدا. وهناك عمل للكاتب الجزائري عبد الحميد بن هدوقة وهو مجموعة قصصية، تتحدث عن هجرة العمال الجزائريين إلى فرنسا. ولهذا العمل أهمية خاصة، وهنا أتكلم عن الأدب الجزائري المكتوب باللغة العربية لا بالفرنسية. وثمة كتاب للعراقي صموئيل شمعون يتحدث عن باريس وحياة المهمشين والفقراء الذين يعيشون في قاع المجتمع. كثر هم العرب الذين كتبوا عن الهجرة من وطن عربي إلى آخر. فالأديب المصري إبراهيم عبد المجيد ألف كتابا ضخما ورائعا في رأيي اسمه «البلدة الأخرى»، وهو عن يوميات المصريين والمهاجرين بشكل عام في مدينة تبوك السعودية، ويصف بشكل دقيق طبقات المجتمع السعودي ومجتمع المهاجرين من الهند والدول العربية والعلاقات في ما بينهم. وهناك «قوس قزح» للشاعر سيف الرحبي، وله كتاب آخر بعنوان «الصحراء»، وكذلك رواية «رجال تحت الشمس» لغسان كنفاني، وفي رأيي الشخصي أنه من الكتب الفلسطينية الهامة جدا، ويتحدث عن مغامرة مجموعة فلسطينيين يحاربون للذهاب إلى الكويت ويمرّون بظروف مأساوية. ولا بد أيضا من الإشارة إلى حنان الشيخ في روايتيها «أنا والآخر»، و«زهرة» التي تتحدث عن الحرب الأهلية وهجرة العمال اللبنانيين إلى إفريقيا. وهناك كتب تناولت هجرة العرب إلى إفريقيا، مثلما فعل عباس بيضون في رواية «تحليل دم» وتكلم عن لبنان وإفريقيا. ونعلم أن هناك جالية لبنانية ضخمة في السنغال وليبيريا. والكاتب اليمني أحمد عبد الولي كتب «يموتون غرباء» عن الجالية اليمنية المستقرة في إثيوبيا».

ويضيف كزافييه لوفن قائلا: «هناك كُتّاب عرب يتكلمون عن البلدان العربية لا كنقطة انطلاق وإنما كنقطة وصول. محمود تراولي، وهو سعودي من التكارنة، أي الأفارقة الذين جاؤوا الجزيرة العربية منذ القرون الوسطي. محمود يصف في كتابه حياة أجيال عائلته منذ انطلاقها من غرب إفريقيا حتى وصولها إلى جدة. وللأديب محمد المر عدد من القصص عن هجرة الهنود والأفارقة إلى الإمارات بهدف إيجاد فرص عمل ودخل أفضل، والسعودية زينب حفني تتحدث عن الهجرة وإن تطرقت إليها بشكل جانبي».

نفهم من هذا أن الهجرة موضوع متكرر في الأدب العربي المعاصر، ومن أسبابها الحرب والظروف الاقتصادية والسياسية والاجتماعية وشعيرة الحج. فمحمود تراولي يروي أن «التكارنة جاؤوا بغرض الحج واستقروا في السعودية. وكذلك تطرق بعض الأدباء إلى نتائج الهجرة عندما يعود المهاجر ثريا إلى قريته ليوقظ أحلام الشباب هناك، لكنه يبقى منفصلا عن ذاته ومجتمعه، وهناك قضية العائدين من بلد الهجرة وهم لا يفلحون في الاندماج مع مجتمعهم الأصل».

الملاحظ أن الأعمال الأولى عن الهجرة، غلبت عليها صورة الضعيف المنبهر بالقوي، أو الغارق في المقارنات لحد السخرية، أو المنتقم من مستعمر ما زال يجثم على صدره. لكن الوضع تغير اليوم، وصار للأدباء صورة مسبقة عن الغرب بحكم وسائل الإعلام، التي خففت من وقع صدمة الاختلاف، وإن كانت هناك أزمات جديدة تطل برأسها تؤرقهم وتظهر في أعمالهم، فهل نجحوا في تسليط الضوء عليها؟

يرد كزافييه لوفن: «في تحليل الفرق بين الجيل القديم من الأدباء الذين سافروا إلى الغرب والجيل الجديد مستويات كثيرة، فالقديم سافر بغرض الدراسة في أغلب الأحوال والوضع السياسي كان مختلفا. المجتمع الشرقي في الستينات والسبعينات كان يعيش معظمه في الريف. قاهرة الخمسينات ليست كقاهرة اليوم، وأيضا حدثت تغيرات في الغرب. طه حسين التقى في باريس بعض الأجانب فيما صار عدد المهاجرين اليوم أكبر من الفرنسيين. ولندن الطيب صالح ليست كلندن اليوم، لذا يغلب على أعمال الجيل الحالي الحديث عن تعدد الثقافات، ويكتبون عن المطاعم الهندية والمقاهي التركية، والصدامات المختلفة بين الشرق والغرب والعنصرية وعدم الاندماج. فهي أعمال لا تمثل التقاء بين الكاتب العربي والقارئ الغربي. لكن كل كاتب يصف أوروبا بطريقة مختلفة. هناك مهاجرون وجدوا ظروفا إيجابية وآخرون سلبية، لذا نقرأ روايات متباينة تبعا لتجربة الكاتب».

وهل صدقت الرؤيا عن الغرب في تلك الأعمال؟

هناك أحكام مسبقة عند بعض الغربيين عن الشرق، وأحكام مسبقة عند بعض الشرقيين عن الغرب. فعندما أقرأ أعمال الأدباء المهاجرين العرب أجد أن بعضهم يبالغون. على سبيل المثال هناك قصة للكاتب السوداني أحمد الملك تتحدث عن شاب شرقي يصل إلى هولندا، ويكتشف الحرية فيكتب: «أي واحد يريد أن يدخن المخدرات بإمكانه أن يسأل أي شرطي في الشارع عن عود ثقاب ليشعل له المخدرات ويدخنها». أحمد الملك يعرف أن هذا غير صحيح لكنه أراد أن يبرز التناقض الشاسع بين الحرية الغربية والحياة الشرقية، رغم أن القارئ سيجد في ذلك صورة سلبية جدا عن الغرب. بعض الروائيين يقدمون أبطالا نالوا شهادات عليا في بلدانهم وعندما وصلوا إلى الغرب لم يجدوا غير أعمال هامشية جدا، ويعزون ذلك غالبا إلى العنصرية أو عدم الاعتراف بالشهادات العربية. قد يكون هذا صحيحا، لكن ثمة خريجين غربيين أيضا لا يجدون عملا في بلادهم. أمر آخر يزعجني هو صور المرأة الغربية في الشرق. عندما كنت في مصر ذهلت من صورة النساء الغربيات المتكونة في الذهنية العربية, حيث يظن أنهن منحلات ولا أخلاق لهن. بالطبع هم يشاهدون أفلام هوليوود ويتخيلون المجتمع الأوروبي بنفس الصورة، علينا دائما أن نجد الوسط بين ما يقال والواقع وهذا ينطبق على كل المجتمعات».

أما الحل في رأي كزافييه لوفن فهو في طرح أفكار متوازنة، ويشرح: «نحن كمثقفين وأكاديميين نستطيع أن نخلق توازنا في الأفكار، فقبل عامين مثلا درّست رواية للمغربي محمد شكري يصف فيها مجتمعه بشكل سيئ: الجريمة، البغاء، الفقر، ويعكس واقعا موجودا لكنه سلبي جدا. بجانب هذا الكتاب اخترت كتبا أخرى تتحدث عن المغرب بشكل مختلف حتى نوضح أن هناك تيارات مختلفة. كأستاذ جامعي أضع في برنامج السنة الدراسية نصوصا مختلفة، لمؤلفين من أجيال مختلفة ودول عربية مختلفة، حتى لا تتكون فكرة واحدة عن المجتمع العربي في ذهن الطالب». ويقول كزافييه: «أضرب مثلا بالصين. لا يمكن أن أقرأ لكاتب واحد من الصين، ثم أقول أنا الآن أعرف الصين».

وما مدى رواج الأعمال الأدبية العربية المترجمة للغات الغربية؟

يقول كزافييه: «الغربيون لا يرون الشرق كمجتمع واحد. في الغرب فضول شديد لمعرفة المجتمع الشرقي. وأفضل الطرق لاكتشاف الآخر هي الروايات والقصص، لأنها مكتوبة من قِبل عرب يتكلمون عن مجتمعهم. من المستحيل أن تدخل إلى مكتبة في بلجيكا أو فرنسا أو بريطانيا دون أن ترى كتابا مترجما عن العربية. ولكن هناك ظاهرة غريبة تستحق الدراسة، مثلا في بريطانيا وهولندا نجدهم يهتمون بأدب المهاجرين أكثر مما هو الحال في فرنسا أو بلجيكا. يعود ذلك ربما لأن البريطانيين والهولنديين، يعتبرون الكتّاب المهاجرين مواطنين، وفي الدول الأخرى يعتبرونهم أجانب. لعل الأمر يعود إلى اختلاف في طريقة تعامل الاستعمار البريطاني مقارنة مع الاستعمار الفرنسي والبلجيكي. فمثلا يوجد كتّاب نيجيريون يكتبون بالإنجليزية وجودة كتبهم معترَف بها منذ زمن طويل، بينما من الممكن أن يقيم كاتب جزائري في فرنسا 30 عاما، ومع ذلك يعتبره القراء أجنبيا. لا أفسر ذلك كنوع من العنصرية، لكنه نوع من رفض التعددية في المجتمع».

ويعتقد كزافييه أن أهم التغيرات التي طرأت على الأدب العربي هي الخروج من المركزية التي تدعمها المقولة المعروفة «القاهرة تكتب وبيروت تطبع وبغداد تقرأ». كان الناس في الماضي يركزون على ما تنتجه القاهرة وبيروت بشكل عام. فهناك الآن كُتّاب من الخليج والمغرب والسودان وموريتانيا. «ففي السعودية جيل جديد من الأدباء الممتازين كيوسف المحيميد وعبده خال وليلي الجهني وغيرهم ممن أعطوا طابعا جديدا للأدب العربي. ومفيد بالنسبة إلى الغربيين أن يعرفوا أن المجتمع العربي ليس اللبناني والمصري فقط، والشيء الآخر الملاحظ حديثا هو تصاعد استخدام العامية في الروايات وهو ما يعطي حيوية للنص».

هناك تيارات في الكتابة العربية، بحسب كزافييه، فالأدب اللبناني بشكل عام متأثر بالتاريخ الحديث. ومن النادر أن يكتب لبناني رواية أو قصة دون التطرق إلى الحرب الأهلية. كما أن لدى الكُتّاب اللبنانيين حرية في التعبير أكثر من الكتّاب في السعودية ومصر وسورية. كما الملاحظ أن الكُتّاب العرب الذين يعيشون في الخارج من الممكن أن ينتقدوا بطريقة مفتوحة مجتمعاتهم الأصلية. وهنا نعود إلى مسألة الالتزام، فالكاتب لا يكتب للتسلية فقط. من الممكن أن نقرأ كتابا لجمال اللغة أو بلاغة الكاتب لكن الكاتب الملتزم هو ناقد بامتياز لمجتمعه.