الخداع الدبلوماسي حين يكون محببا ومرغوبا

محطات في رحلة العمر في كتاب «دبلوماسي من طيبة» لنزار بن عبيد مدني

TT

يشتكي الدكتور نزار بن عبيد مدني، وزير الدولة السعودي للشؤون الخارجية، في كتابه الرائع «دبلوماسي من طيبة.. محطات في رحلة العمر» (مطبعة سفير، الرياض 2009)، من النظرة السلبية السائدة تجاه السياسة وممارسيها، من «ذيوع وانتشار صورة عن السياسة تساويها بالرذيلة، وانطباع يقرنها بالفساد، وفكرة تربطها بالشر.. فالسياسة في نظر هؤلاء ليست سوى رديف للخداع والمكر، وصنو للكذب والمراوغة والرياء» (ص439). وإذا كنت ممن يشاطرون المؤلف شكواه المحقة، ويسعدون بما ساقه من حجج مقنعة لدحض هذه الصورة السلبية عن عالم السياسة والدبلوماسية، فإنني لا أملك سوى الاعتراف أنني شعرت بعد قراءة كتابه هذا بنهم، عدة مرات متتالية، أنني بدوري وقعت ضحية خدعة ماكرة نسج حبائلها بكل دقة وإتقان هذا الكاتب الخبير والدبلوماسي المحنك! لكنها خدعة محببة ومرغوبة، تجبر القارئ على تلقف صفحات الكتاب بكل استمتاع فلا يتركه إلا بعد الوصول لآخر صفحاته، متوهما أنه بصدد نوع من القراءة الخفيفة السريعة لكتاب مكتوب بأسلوب سهل عذب نتمتع بقراءته ونتسلى بما يتضمنه من قصص وسرد وذكريات، فإذا بالقارئ يفاجأ بعد انتهاء صفحات الكتاب أنه قد فرغ للتو من تناول وجبة دسمة متنوعة بالغة التأثير عليه وجدانيا وعاطفيا وفكريا، تستثير فيه شجون الذكريات وعواطف شجيات، وتطرح عليه أسئلة فكرية عميقة وقضايا فلسفية معقدة، وتدس له الدسم الكامل والغذاء الصحي المتنوع والوجبة ذات العناصر الغذائية المتكاملة فيما كان يحسبه مجرد حلوى ومكسرات وشاي وقهوة!

نتابع مع المؤلف مختلف محطات حياته الحافلة والتجارب الشخصية والعائلية والوظيفية التي مر بها وهو يسردها بأسلوب لغوي بديع يتدفق تلقائيا بكل سلاسة وعذوبة وشفافية، حتى لتخال نفسك أمام لوحة فنية بالغة التناسق بألوانها وظلالها وتفاصيلها ترتاح إليها العين ويهيم بها الوجدان. إنه حقا أسلوب (السهل الممتنع) الذي يوهمك أنك تتسلى وتستمتع وتستكين في دور المتلقي المستريح أو القارئ المسترخي الذي لا يريد أن يشغل باله بالتفكير أو يشعل عواطفه بالانفعال والتأثر، ولكن هيهات هيهات، فما أن تفرغ من قراءة الكتاب أو رؤية اللوحة حتى تجد فكرك متقدا، دون أن تدري، تشغله الأسئلة الكبرى عن الأمة والوطن والدين، وحتى تجد عواطفك الذاتية وذكرياتك الشخصية تجيش في وجدانك جيشانا يحيلك إلى إنسان أكثر محبةً وشفافيةً وتواضعا ورقةً مما كنت عليه قبل سويعات.

ولا يكتفي المؤلف، وهو الدبلوماسي المحنك، باستدراجك إلى النهل من صفحات كتابه العميق بأسلوبه السهل الممتنع، بل تجده يمعن في خداعك وتمويه الأمور عليك، فعبثا تبحث في الكتاب عن أسرار سياسية خطيرة يبوح بها المؤلف لأول مرة، أو عن دور المؤلف ذاته في العديد من المواقف والأحداث التي عاصرها في وظائفه المرموقة، أو عن فضائح مثيرة في حياته الشخصية أو حياة من عاصرهم وعايشهم من علية القوم وكبارهم. لكنك دون أن تدري، ومثل المنوم مغناطيسيا، ستجدك قد نهلت بكل عمق وإشباع بل وتخمة من السياسة وخفاياها دون الحديث المباشر عن الأسرار، وقد تابعت بكل شغف وشوق ما عاصره المؤلف وهو في موقع المسؤولية من أحداث خطيرة وشخصيات بارزة وقيادات مؤثرة دون الحديث المباشر عن (الأنا) وتضخيم دورها أو المبالغة في تأثيرها، وقد تعرفت بكل دقة وتفصيل على تجارب المؤلف الشخصية وحالاته وتقلباته وأوضاعه العاطفية والمادية والفكرية دون البوح المباشر عن الفضائح. كأنك أمام حديث عن الفكر من دون فلسفة مباشرة، وحديث عن الدين والأخلاق دون وعظ أو خطابية، وحديث عن الذات دون نرجسية وأنانية، وحديث عن السياسة دون فضائحية وذرائعية، ومع ذلك، أو بالأحرى لذلك، تجدك مستمتعا بالقراءة أيما استمتاع.

وإذا كنت مثلي ممن عرف المؤلف شخصيا ولو لبضع سنين، فإنك ستجد أن هذا الكتاب هو بحق مرآة صادقة، وشفافة، ومباشرة لشخصية كاتبه. فحتى من تقتصر معرفتهم بنزار مدني على علاقات العمل الرسمية يعرفون أن تعريفه بمناصبه الرسمية الرفيعة والقيادية، على أهميتها، لا تعني له ولهم شيئا إلا بعد تعريفه باعتباره إنسانا مؤمنا. فإيمانه بالله وتقوى الله ومخافة الله هي المحددات الفعلية لكل سلوكه ومجمل تفكيره، كيف لا وهو ابن مدينة رسول الله وجار الروضة الشريفة ومن عائلة هاشمية كريمة تميزت جيلا بعد جيل بالعلم والأدب ومكارم الأخلاق فنالت من الجاه والمكانة ما بزت به عوائل التجار والأثرياء. وهو لذلك تغلب الاعتبارات الإنسانية في تعاملاته على كل سلطة يحوزها أو موقع يتبوأه أو نفوذ يتمتع به.

وإذا كان كتاب (دبلوماسي من طيبة) مرآة صادقة ومباشرة وشفافة لشخصية كاتبه (نزار مدني)، فإن نزار مدني بدوره مرآة صادقة ومباشرة وشفافة للسياسة الخارجية السعودية، حيث تمتزج عناصر الانتماء الوطني والعروبي والإسلامي في بوتقة واحدة وبانسجام متناسق دون أي توترات مفتعلة أو تناقضات متوهمة بين هذه العناصر، (بخلاف ما يتشدق به المنظرون المؤدلجون أو الحركيون الحزبيون)، وحيث تتمازج اعتبارات المصلحة والرشد والعقلانية والوسطية والاعتدال بمقتضيات الانتماء المخلص والصادق للوطن والأمة العربية والأمة الإسلامية. ولنتأمل ما يصف به مؤلفنا نفسه ونقارنها بما يمكن أن توصف به سياسة بلاده: «إنني بطبيعتي رجل محافظ تقليدي لا أميل إلى التغييرات الجذرية المفاجئة، وبحكم تكويني النفسي شخص مسالم هادئ الطبع لين العريكة، لا أحبذ الصخب والضوضاء، وأكره العنف والشدة والمواجهة، وبحكم نشأتي وتربيتي إنسان يؤمن بالمعنويات ويحتكم إلى المبادئ والمثل والقيم والأخلاقيات، وأمقت الوسائل المكيافيلية واللجوء إلى مبدأ الغاية تبرر الوسيلة» (ص213).

يسرد المؤلف في كتابه ذكرياته الشخصية عن أبرز محطات حياته، فنتعرف في المحطة الأولى (الجذور) على أحداث طفولته ونشأته في المدينة المنورة. ويتضمن هذا الفصل وصفا بديعا ومفصلا لأوضاع المدينة وأسواقها ودورها وأسرها وبساتينها ومدارسها. وصف لا غنى عنه لمن لم يعاصر تلك المرحلة السابقة على زمن الحداثة والنفط والطفرة، وصف يأتي وقد كاد الموروث الشفهي الذي تناقلناه عن الآباء والأجداد ينقرض فلا يعرف أطفالنا وناشئتنا شيئا يذكر عما كان عليه حال أسلافهم في هذه الأرض المباركة الطاهرة. ولعل أول ما لفت انتباهي وأنا أتابع بشغف وتلذذ ما يسرده المؤلف عن ماضي طيبة الطيبة درجة التشابه الكبيرة مع موروثي العائلي الشفهي الذي يصف ما كانت عليه الأوضاع والأحوال في مكة المكرمة أو عروس البحر الأحمر جدة، مما يؤكد مجددا على وحدة القيم والأوضاع والمسالك في ربوع المملكة العربية السعودية رغم اتساع مساحتها وتباعد المسافات بين حواضرها. ولعل الكاتب وهو يريد من كتابه أن ينقل خواطره وتجاربه وميراث عائلته إلى أبنائه وأحفاده، قد أهدانا جميعا هدية ثمينة نحرص بدورنا على وصولها لأبنائنا وأحفادنا، ونحن مطمئنون إلى أن ما اتسم به الكتاب من جمالية السرد وسلاسة الأسلوب وروعة الاستطراد التلقائي والتدفق المريح للألفاظ والأفكار والمعاني يريحنا من تذمر الأبناء والأحفاد من الخطابية الفجة ونفورهم من الوعظ المباشر، وبذلك نعيد استخدام الخديعة الدبلوماسية المحببة التي تعرضنا إليها على يد نزار مدني فنضمن أن يتعرض لها، ويستمتع بها، أبناؤنا وأحفادنا أيضا.

وفي المحطة الثانية (التحول) نرى كاتبنا العزيز طالبا جامعيا في القاهرة، خلال مرحلة ثرية فكريا وسياسيا، مرحلة شهدت تنامي وتعاظم المد الناصري والتوجهات القومية ثم الاشتراكية على امتداد الوطن العربي، ثم شهدت انقسام العالم العربي إلى محورين متباعدين كانت القاهرة التي يدرس فيها المؤلف مركز الاستقطاب لأحدهما فيما كانت الرياض عاصمة بلد المؤلف مركز الثقل في ثانيهما، مما جعل التوتر بين البلدين على أشده خاصةً خلال الحرب الأهلية اليمنية وما شهدته من تدخل عسكري مصري كبير.

وفي المحطة الثالثة (التأسيس) نجد مؤلفنا موظفا مبتدئا في وزارة الخارجية السعودية في جدة، مكلفا بأعمال روتينية اعتيادية يمكن لخريج الابتدائية لا الجامعة أن يقوم بها. لكن الكاتب لا يتذمر أو يشعر بالمرارة من هذه المرحلة، بل يعتبرها تأسيسا متينا لما تلاها من تقلد أرفع المناصب وأخطر المسؤوليات، ويغتنم وقته في التعرف على وزارته وعملها وزملائه فيها، وفي البحث عن شريكة العمر التي ستصحبه في رحلته المشوقة، فلا تنتهي هذه المحطة إلا وهو متزوج ممن اختارها فأحسن الاختيار.

وننتقل مع مؤلفنا في المحطة الرابعة (التأهيل) إلى العاصمة الأميركية حين كان عاملا في سفارة بلاده فيها وطالبا للدراسات العليا في إحدى جامعاتها. فلا تنتهي المحطة إلا وكاتبنا حاصل على درجة الدكتوراه بتفوق، وعلى درجة الأبوية لابنة وابن يملآن حياته سرورا وحبورا. يتحدث المؤلف عن حصوله على الدكتوراه في الولايات المتحدة الأميركية بأنها أوصلته «إلى نهاية طريق بدأته منذ اليوم الذي طرقت فيه أبواب المدرسة الابتدائية.. رحلة طويلة وشاقة أرهقتني في بعض مراحلها من أمري عسرا، ولكنني ولله الحمد لم أصب بالداء الذي أصاب بعضا ممن أعرف الذين سولت لهم أنفسهم أنهم بحصولهم على درجة الدكتوراه قد وصلوا إلى سدرة المنتهى، وأتوا بما لم تستطعه الأوائل.. لأني لم أحفل في يوم من الأيام بوضع حرف الدال قبل اسمي، أو أن أقدم نفسي للناس مسبوقا بهذا اللقب، بل كنت أكره ذلك وأمقته، وما كنت آبه إذا خاطبني الناس بهذا اللقب العلمي أم لم يخاطبوني به، فلقد كان الأمر عندي سيان» (ص207). وكاتب هذه السطور يشهد أنني حين انتقلت من العمل في رحاب الجامعة إلى العمل في وزارة الخارجية منذ بضع سنين، فوجئت أن المعاملات التي يكتبها نزار مدني، وهو بمرتبة وزير، يوقعها هكذا باسمه مجردا من الدال ومن المرتبة، فخجلت شخصيا بعدها من أن أوقع ما أكتبه أنا إلا باسمي مجردا كذلك.

ثم نعود مع كاتبنا إلى جدة في المحطة الخامسة (الانطلاق) وقد أصبح من أبرز دبلوماسيي بلاده، عاملا في مكتب وزير الخارجية الأمير سعود الفيصل. ولعل التواضع الجم والصادق، والنفور العفوي الشديد من المديح والنفاق والمبالغة في المجاملات، هي من الخصال التي جمعت مؤلف كتابنا هذا، وتجمعه، بمهندس السياسة الخارجية السعودية البارع الأمير سعود الفيصل. ويعترف المؤلف بتحرجه من الكتابة عن وزيره لأنه يعلم «علم اليقين أن ما سأذكره بعد قليل عن الأمير سعود (الفيصل) قد لا يرضيه، وربما يستنكره، ولا أستبعد أن يعاتبني عليه، دليلي على ذلك ما حدث في مرة من المرات حينما اطلع سموه على مقال كتبه أحد الكتاب تضمن الكثير من المديح والإطراء له وللأعمال التي يقوم بها، أحال الأمير المقال لي مع هذه العبارة اللافتة ـ نشكره على أي حال ولو أنه مبالغ والمبالغة في المديح كالذي يذم ـ» (ص 262). وأستميح العذر هنا بأن أتحدث بدوري عن أولى المعاملات التي أحيلت لي عند بدء عملي في وزارة الخارجية، وكانت كتابا من مئتي صفحة كتبه أحد الكتاب العرب وسرد فيه ما استطاع جمعه وتبويبه من أقوال وتصريحات وكلمات الأمير سعود الفيصل على مدى العقود الثلاثة المنصرمة، فتحرجت أن أقيم الكتاب تقييما سلبيا من الناحية العلمية الأكاديمية البحتة، فكتبت أنه كتاب مفيد إعلاميا وتوثيقيا، فكتب الأمير بخط يده على المعاملة «قرأت الكتاب ولم أجد له فائدة تبرر نشره!».

وبعد هذه الرحلة الممتعة والحافلة نصل مع كاتبنا إلى محطته السادسة والأخيرة (الحصاد) في الرياض وهو رئيس لإدارة سياسية بارزة بمرتبة سفير، ثم عضو في مجلس الشورى عند إعادة تأسيسه (وكأن الابن يستأنف مسيرة أبيه الذي كان أيضا عضوا في مجلس الشورى القديم)، ثم مساعد لوزير الخارجية، ثم وزير للدولة للشؤون الخارجية. ورغم تحرج المؤلف الواضح من الحديث المباشر عن دوره في القرارات السياسية والمواقف العصيبة التي مرت بها السياسة الخارجية السعودية خلال هذه المرحلة المهمة، إلا أنه لا يبخل علينا بسرد مفصل لما مرت به بلاده وأمته من أحداث عظام ومخاطر جسام، وبعرض معجز في وضوحه وإيجازه لما يراه بشأن كيفية معالجة وتجاوز العديد من التحديات والمشكلات التي تواجه بلاده وأمته بهذا الشأن، بل ويقدم لنا وجبة فكرية دسمة فيما يخص نظريات العلاقات الدولية والتنظيم الدولي، مكتوبة بأسلوب سهل ممتنع مجددا بحيث يفهمها المتخصص وغير المتخصص على حد سواء.

دبلوماسي من طيبة.. محطات

في رحلة العمر

المؤلف: الدكتور نزار بن عبيد مدني

مطبعة سفير، الرياض 2009