«دراما رمضان» هل حركت الراكد الثقافي؟

توفر مساحة لطرح القضايا وإثارة الجدل.. في ظل غياب المؤسسات الثقافية

مساحة الحرية المتاحة في مسلسل «طاش» أكبر من غيرها فأصبح المسلسل يمتلك زمام المبادرة
TT

تصنع الدراما في رمضان لدى المجتمع السعودي حالة من الجدل الثقافي والتعاطي الفكري بين النخب الثقافية المختلفة حول قضايا المجتمع الجدلية، خصوصا الأعمال المحلية التي تطرح هذه المشكلات كمادة درامية، ومع تحفظ البعض على القالب الفني الذي تطرح من خلاله، فإن الجانب الفني مهما كانت سطحيته أو عمقه في الطرح لا يحظى بالجدل الذي تحظى به الفكرة المجردة.

طبعا السبب المباشر هو أن التلفزيون دخل إلى كل بيت، بل إلى كل حجرة، كما يقول البعض، لكن ليس هذا هو السبب في كل هذا الجدل، بل إلى أسلوب الطرح، حيث تطرح بلغة يفهمها الجميع، فالمشكلات والقضايا نفسها تطرح في الحوارات بمختلف أشكالها، وفي الصحافة والمنتديات الثقافية والأندية الأدبية، لكنها تطرح بلغة النخب الثقافية للنخب ذاتها، يضاف إلى ذلك، كما يرى البعض، أن الدراما رفعت سقف الحرية عاليا، فالمحاذير التي تأخذها في الحسبان الصحافة ومواقع النقاش الأخرى، حاولت الدراما تجاوزها لتحرير النقاش حول قضايا سعودية مختلفة.

* منبر للجدل الثقافي

* يقول الكاتب الدرامي الدكتور عبد الرحمن الوابلي: «إذا كان الجانب الفني من الأعمال الدرامية المعروضة في شهر رمضان لا يناقش من قبل المشاهدين، وإنما يناقش الطرح الدرامي السردي فقط، فهذه خطوة أولى تبشر بالخير، حيث إن المشاهدين تقبلوا الطرح الدرامي من ناحية المضمون وتفاعلوا معه، وقد ينتقلون بعد ذلك للخطوة القادمة وهي النقد الفني البحت للعمل».

لكن هناك من يرى أن الدراما خلال الفترة الماضية هي من تبنى فتح الملفات الأكثر جدلا عبر تحويلها إلى مادة دسمة للدراما، كما يقول الكاتب الصحافي خلف الحربي. ويضيف: «المسألة تتعلق بمسيرة الانفتاح الإعلامي في البلاد. فقبل 15 عاما كانت مساحة الحرية المتاحة في مسلسل (طاش) أكبر من غيرها، فأصبح المسلسل يمتلك زمام المبادرة في فتح الكثير من الملفات المغلقة التي تتناول مشكلات فكرية وبيروقراطية واجتماعية مختلفة».

لكن العمل الفني له شروطه الفنية التي يجب أن يلتزم بها، وأن تتوافر فيه عند طرح قضية ما، كما يرى الدكتور عبد الرحمن الحبيب، الذي يقول: «العمل الفني ليس عملا توثيقيا ولا تقريريا، ويفترض أن السجال الثقافي والفكري الذي يثيره يأتي في قالب فني جمالي يطرح هذا السجال في سياق تجسيد التناقضات الإنسانية ومأزق الأفراد أو المجتمع الذي يتعرض له العمل الدرامي».

ويضيف: «المنطق الفني هو في طريقة التناول، وعليه نناقشه وننتقده، فلو طُلب من مجموعة من الكاتب كتابة سيناريو وحوار لقصة معروفة (تاريخية مثلا) فلا يهمنا المضمون لأننا نعرفه، ولكن يهمنا طريقة التناول والتعبير والأداء الفني، أي صياغة جديدة للفكرة والأحداث، بعيدة عن النقل المباشر والتقليد، أي لا تتم محاسبة المضمون، فتلك مهمة العمل الموضوعي (مقالة، دراسة) وليس الفني».

بينما يقول صالح العلياني، الممثل والمخرج السعودي: «إن حرارة القضايا التي تم طرحها عبر هذه الأعمال أغفل التناول السطحي للقضايا (دراميا)، إذ لا تحقق شرط الإيهام الذي تتطلبه من أجل تأثير غير مباشر، وما شاهدناه في شهر رمضان من دراما سعودية لا يعدو التهريج والتفريج، فجميع النصوص ساذجة وممجوجة، وكذلك أداء الممثلين الذين لا يستطيعون تقمص شخصية، ولا يستطيعون إقناع أنفسهم بالشخصية قبل أن يقنعوا الجمهور».

* أزمة النخب الثقافية

* أما الوابلي فيعتقد أن «هناك أزمة تواجه النخب الثقافية في إيصال صوتها عند مناقشة القضايا الحساسة في المجتمع، وعدم قدرتها على إيصال طرحها لجميع شرائح المجتمع، إذ إن هذه النخب الثقافية لا تمتلك منابر حرة لها أو مستديمة، غير الأندية الأدبية أو الصحافة المحاطة برقابة ومحاذير، وحتى هذان المنبران هما من النخبة للنخبة، وبلغة ومصطلحات النخبة نفسها، أما الدراما فقد تطرح قضايا حساسة وساخنة تهم المجتمع، ولكن بلغة المجتمع الشعبية البسيطة التي تصل للناس مباشرة، فيتقبلها الناس ويتجاوبون معها، ويصبحون جزءا من النقاش حولها».

ويقول الحبيب: «إن اللجوء إلى الدراما كحالة من حالات النقاش وطرح القضايا يصور انخفاض سقف الحرية الإعلامية. إن الإعلام الموضوعي التقريري يتحرج من المناقشة الصريحة والمباشرة لبعض القضايا، فيتم اللجوء للأعمال الفنية لأن بها ترميزا وخيالا يمنحان الكاتب المراوغة على الرقيب الاجتماعي أو الإعلامي».

ويرى الحبيب أن المجتمعات ذات سقف الحرية المنخفض هي التي تثيرها الأفكار الموجودة في الأعمال الفنية (رواية أو دراما تمثيلية)، بينما المجتمعات الحرة تتعامل مع الدراما من منطلق فني جمالي، إلا فيما ندر، في أوقات الأزمات، كما حدث في هوليوود فيما يخص الحرب على العراق.

ويقول العلياني: «إن افتقاد وسائل النقاش في المجتمع بدءا من المنزل والمدرسة ومقر العمل والسوق، جعل هذه الأعمال ساحة للنقاش بين أطياف المجتمع، وما يحدث بعد مشاهدة هذه الأعمال من تراشق إعلامي دليل حالة انغلاق في منابر طرح القضايا».

* القدرة على إثارة النقاش

* لكن من أين تستمد الدراما هذه القدرة لصنع حالة النقاش والتجاذب بين أطياف المجتمع؟ يجيب الوابلي: «هذه تستمد من لغة الفعل الدرامية وثقافة الصورة، التي أخذت تحرك وجدان الناس، والخيال الشعبي، بدل أساطيره وحكاياته التي اندثرت ودفنها مع الجدات والأجداد. ويجب ألا ننسى أن الدراما أصبحت بمثابة الخلاص والمنقذ للناس، من لغة الوعظ الفجة والمباشرة، التي مل منها ومقتها الناس».

ويتفق الحبيب مع رأي القائل إن «انغلاق وسائل النقاش المباشرة، يعوض عنها بالعمل الدرامي، إضافة إلى عدد من العوامل، منها كون مجتمعاتنا من المجتمعات قليلة القراءة، لذا نميل للمشاهدة أكثر من مطالعة الأعمال الكتابية».

* أين الضرر؟

* وفي رأي الوابلي أن الخاسر الأكبر من كل ما تقوم به الدراما من إثارة للجدل الثقافي والفكري هو البعد الفني الذي تتكئ عليه في إثارة الجدل حولها، بينما هي في الواقع لا تلتزم به. غير أنه يستدرك بقوله: «ولكنه دور مقبول منها، كبداية، بشرط أن لا تستمر عليه، وبالتأكيد هي لن تستمر على ذلك لأنها بدأت تتحول الآن إلى صناعة، عالية الأرباح وفي الوقت نفسه، دخلت معترك المنافسة الضاري».

بينما يرى الحبيب أن هذا الطرح على حساب الشروط الفنية للعمل الدرامي، يضر بالقضايا المطروحة كما يضر بالجانب الفني، ويضيف: «إن الفكر عندما يطرح بطريقة تقريرية في الدراما (وفي الفن عموما) وكأنه تقرير أو عمل وثائقي أو دراسة اجتماعية، فسيكون ذلك على حساب الطرح الموضوعي والطرح الفني، فيقوم بتشويههما معا». والسبب، كما يقول، أن «العمل لا يمكن أن يكون توثيقيا تقريريا موضوعيا، ويكون في الوقت نفسه فنيا جماليا عاطفيا، فالطبيعة لا تجمع بين الموضوعية والعاطفة، وطبيعة العمل الموضوعي مختلفة عن طبيعة العمل الفني».

وفي السياق ذاته، بقول الحربي: «ما من شك أن هذا الدور الإعلامي له أثره السلبي على البناء الفني، حيث التركيز على الموضوع الذي تتم مناقشته يتفوق على جميع العناصر الأخرى مثل النص والشخصيات والإخراج. فلهذا الدور كلفته الفنية، حيث يصر بشكل أو بآخر على القيمة الدرامية للأعمال التي تتبنى هذا النهج، ولكنه، رغم ذلك، دور مطلوب وحيوي».

ويبين الحربي أن النجاح الكبير الذي تحقق من إثارة الجدل، من خلال مسلسل «طاش»، مثلا، كان أمرا يصعب مقاومته، وشيئا فشيئا أصبح فتح الملفات الجدلية جزءا من دور الدراما المحلية. لكن يمكن التوفيق بين الموضوع المطروح للنقاش وبين البناء الدرامي للحلقة، فهذا هو الدور الأساسي للمؤلف الذي يجب أن يمرر الفكرة من خلال قصة تلفزيونية مشوقة، لا عبر تقرير تخنقه اللغة المباشرة. والأعمال الدرامية العربية تناقش الكثير من العناوين السياسية والاجتماعية الكبيرة من خلال قصص إنسانية بسيطة، وهذا هو دور الدراما في الأساس.