رمضان يحرض على نبش الهوية

إقبال غفير على احتفاليات طالعة من قلب التراث

TT

ظاهرة العودة إلى التراث في رمضان، لمجتمعات أقل ما يقال فيها إنها هجينة ومشوهة، لم تعد بالعابرة. فقد اختفت الخيام التي انتشرت في بعض العواصم العربية واحتفت بالغناء والرقص، لنرى منذ سنوات قليلة عودة للحكواتي والدراويش والإنشاد الديني وألق الحارة الشعبية القديمة، كما الطرب الأصيل والعزف على البزق والعود. القاهرة، تكاد تكون النموذج الأوضح لتلك المتغيرات، التي يعيشها العربي في رمضان، وتحمل دلالات البحث عن التاريخ والهوية. كيف يبحث المصري العادي عن انتمائه، وينبش عن هويته؟

في مدينة كالقاهرة ينجح رمضان في تشكيل خصوصية جديدة له كل عدة عقود. كانت المدينة العتيقة تستقبل الشهر بطقوس معينة لا تزال ذاكرة بعض الكبار قادرة على تسجيلها، لكن في السنوات الأخيرة ظهرت طقوس جديدة تستحضر الماضي بشكل أساسي وتحاول أن تتسلل عبره ببعض مفردات الواقع، وتتابعت الاحتفاليات الثقافية والفنية في الأماكن التاريخية لتخلق حالة من الزخم، لكنه زخم طرح أسئلة مهمة: هل هي مجرد حالة من الصخب التي لا تضيف إلى الثقافة شيئا؟ أم أن ما يحدث يعتبر خطوة حقيقية على طريق الربط بين الثقافة والشارع؟ ولماذا يشعر الكثيرون بأن التنوع الثقافي في هذه الأمسيات الرمضانية يكاد يكون منقرضا؟

بدأت قلعة صلاح الدين في القاهرة تشهد حركة غير معهودة ليلا. المكان الذى يحاط بسياج أمنى مشدد ويمنع الدخول إليه بعد الخامسة مساءً، يتحول كل ليلة من ليالى رمضان إلى خلية نحل. الأنشطة الرمضانية في البداية كانت أكثر تركيزا على ما هو فني، ومع ذلك تظل للثقافة المسيطرة على أجواء الشهر خصوصيتها. وعادة ما يحتل التراث موقع الصدارة فى الأنشطة التي تشارك فيها عدد من هيئات وزارة الثقافة المصرية، سواء في القلعة أو غيرها من البيوت الأثرية في منطقتي الحسين والأزهر. وبين الخيام التي تعرض الحرف الشعبية في أقاليم مصر المختلفة، والفنون التي تسرق مشاهدها من الزمن الحاضر إلى ماض ربما لم يعاصره، بدأت المراكز الثقافية الأجنبية تدخل تدريجيا إلى أرض الملعب الثقافي الرمضاني.

فهل يمثل كل ذلك إضافة حقيقية للثقافة أم أنها مجرد ممارسات شكلية تملأ الأجواء ضجيجا دون أن نرى طحنا؟ تلقى الروائي جمال الغيطاني السؤال مؤكدا أن شقه الثاني يعبر عن وجهة نظره، ويوضح: «الندوات لا تقدم إضافة، فكلها متشابهة والموضوعات مكررة، وهي مجرد جلسة تحتوي على منصة لتصبح أقرب إلى (الصهللة) الثقافية». ويبدو الغيطاني منحازا لصالح ما هو مستوحى من التراث، على حساب الأنشطة الأخرى: «أرى أن العروض التي تقدمها هيئة قصور الثقافة، وتركيزها على تقديم التراث الشعبي هو الذي يمثل خدمة حقيقية، كما أن هناك تجارب في ساقية الصاوي لتقديم الموسيقى الأندلسية مثلا. كلها أنشطة تربط الإنسان بتراثه، ونجحت في استقطاب جمهور جيد». لكن الغيطاني –الذي أكد امتناعه عن المشاركة في أي نشاط من هذا النوع ـ يشير إلى أن الجمهور الذي يقبل على هذه الأنشطة متميز في حد ذاته: «ليس جمهورا من المشاهدين العاديين الراغبين في قضاء وقت الفراغ، لأنه قاوم طوفان المسلسلات وفضل حضور هذه الفعاليات».

عندما هاتفناه كان في طريق عودته من محكى القلعة، أكد الأديب سعيد الكفراوي أنه حريص على المشاركة في أنشطته بالحضور والمداخلات لأن فعالياته مهمة، ويرى أن ما يحدث هو: «جزء من وعي الناس واجترار لوعي قديم يأخذ أشكالا مختلفة، لذلك يسيطر على الفعاليات الإنشاد الدينى والطرق الصوفية وغيرها من الأنشطة التي تمضي في السياق نفسه. عموما–يقول الكفراوي ـ أرى أن ما يتم تقديمه يمثل احتراما للناس ووعيهم في مواجهة التلفزيون الذي لا يحترم وعيا، ويقوم بممارسة بالغة الفجاجة عندما يقدم هذا العدد الهائل من المسلسلات. وأتصور أنه لو لم يوجد هذا الكم من المسلسلات كانت القلعة ستزدحم لدرجة أنك لو رششت ملحا فلن يصل إلى الأرض، من كثرة الموجودين». لكن هل يعني حديثك أن الثقافة المعتمدة في رمضان تمضي في نسق واحد ويغيب عنها عنصر التنوع؟ سؤال يجيب عليه الكفراوي قائلا: «هذا صحيح. فالأدب – باستثناء الشعر– مهمش تماما. والضيوف مكررون في كل المناسبات، وسلبيات العمل الثقافي هي نفسها. فلا يوجد مثلا، اهتمام بما هو شاب باستثناء ندوة أحفاد نجيب محفوظ. واللقاءات عادية باستثناءات قليلة مثل تلك التي تمت مع بهاء طاهر وخيري شلبي. عموما هناك حفاوة بالفلكلور على حساب الأدب». غير أن هذه السلبيات لا تقلل من رضى الكفراوي عن الفعاليات: «في المجمل أرى أنه نشاط محترم وأشعر بالرضى عنه، لأنه يدعم ثقافة الناس ويدعم العلاقة بين روح المصري وتراثه الديني في مواجهة الإعلام. لأن الثقافة لو تركت الساحة للإعلام لأصبحت نكبة. لأن الأخير يقوم بعملية تفريغ لوعي المواطنين». يتابع الشاعر مسعود شومان هذه الأنشطة الرمضانية بصفتين: الأولى كونه مسؤولا عن برامج المأثورات الشعبية الذي تنظمه هيئة قصور الثقافة في محكى القلعة، والثانية بوصفه شاعرا يشارك في الأمسيات الشعرية الرمضانية. هذا العام نظم احتفالية «راوي من بلدنا» التي تركز على السيرة الهلالية عبر تجلياتها في الوجهين القبلي والبحري المصريين. ومع قرب نهاية شهر رمضان يلخص مشاهداته في عبارة دالة: »هذا العام تحديدا، كان الإقبال هائلا». وما هو السبب في الطفرة التي حدثت هذا العام؟ سؤال يرد عليه شومان قائلا: «العام الماضي كان هناك حادث سقوط صخرة الدويقة الذي تسبب في مصرع الكثيرين. كان ذلك قبل بدء النشاط بفترة بسيطة. وقتها اعتقدنا أن الحادث لن يؤثر على الإقبال، لكن الكثيرين شعروا بالرهبة. هذا العام لم يكن عدد الحاضرين فقط هو الأمر الملحوظ، وإنما تجاوبهم مع الأنشطة». ويضيف: «في معظم الأمسيات كنا نواجه بطلبات متكررة بعدم الالتزام بالموعد المقرر لنا». عند حديثه عن أهم الأنشطة التي حظيت بإقبال الجمهور بخلاف السيرة الهلالية يقول مسعود شومان: «لاحظت إقبالا على الموسيقى العربية وحارة زمان وبعض الندوات التي شارك فيها عدد من نجوم الأدب مثل خيري شلبي وسيد حجاب «.

هل تعتقد أن النشاط الذي تقدمه ليالي رمضان في القلعة وغيرها من الأماكن نشاط حقيقي أم أنه امتداد عصري لطقوس قديمة حيث يحتفى بالثقافة على مستوى الشكل لا المضمون؟ سؤال يرد عليه شومان قائلا: «ليس عيبا أن تركز البرامج على البعد الشعبي الذي يخاطب الناس». يصمت قليلا قبل أن يواصل: «المشكلة أن النخبة تضع في بعض الأحيان برامج تضم موضوعات تعتقد انها مهمة رغم انها منفصلة عن الناس. ومع أنها تطرح قضايا مهمة كالعولمة والهوية وغيرها إلا أنها أكثر ملاءمة للطرح في ندوات مغلقة». ما ينطبق على الموضوعات المهمة التي قد لا يتفاعل معها الجمهور، قد ينطبق على أنشطة ثقافية كاملة فتصبح الغلبة للتراث والاحتفاليات فقط. تعليق يعقب عليه شومان قائلا: تابعت أنشطة عديدة مثل معرض الكتاب وفعاليات من الأوبرا والمسرح وكان الإقبال ملحوظا». لكن الأدب لا يحظى بالإقبال نفسه. يعقب شومان بوصفه شاعرا هذه المرة: «في الأمسية الشعرية التي شاركت فيها كان الإقبال غير متوقع. وقد استقبلت قصائدي بحفاوة غير عادية «. مسعود شومان من كتاب قصيدة النثر ومعنى كلماته السابقة أن رمضان شهد حدوث معجزة لم تكن قابلة للتصديق من قبل. فهل تمكن الشهر الكريم من إعادة الصلة بين الجمهور والشعر حتى لو كان قصيدة نثر؟ يبتسم ويقول: «على الشاعر أن يمسك الخيط الذي يصل بينه وبين الناس. بالتأكيد لم أقم بإلقاء قصائد نثر بل اخترت قصائد كتبتها عن المرسي أبو العباس والسيد البدوي لذلك تفاعل معها الجمهور. عموما أنا أرى الثقافة في الأمسيات تتجه باتجاه القديم». أخيرا، هل يعني إقبال الناس على هذه الأنشطة وجود بارقة أمل في أن تتمكن الثقافة من مواجهة هيمنة الإعلام على أنشطة رمضان؟ سؤال يرد عليه: «أعتقد هذا. ربما تكون مجرد بداية. لكن العدد الذي شارك بالحضور هذا العام، أكد أن هناك من يرى أن المسلسلات تتم إعادتها كل فترة، لكن الأنشطة غير قابلة للتكرار ويجب اللحاق بها».