الصراع يحتدم بين تركيا واليونان على هوية «كركوز»

«اليونسكو» تحسم.. لكن المعركة مستمرة

TT

العداء التركي اليوناني قديم جدا، وأسبابه الرئيسية سياسية، دينية، وأيديولوجية. تفجر العداء في بحر إيجه بسبب الخلاف على تقاسمه قانونيا، وتفاعل في ملكية الجزر الصغيرة القريبة من السواحل التركية، وتواصل في الصراع على جزيرة قبرص، وتقاسم النفوذ فيها. زلزال أزميت المدمر الذي أصاب تركيا عام 1999 كان فرصة لتخفيف هذا الاحتقان وفتح صفحة جديدة، لكن الهدنة للأسف لم تصمد طويلا أمام طلبات وسياسات القوميين المتشددين في البلدين. فاشتعلت الخلافات مرة أخرى على ملكية القهوة ومصدرها، ثم أعقبها نزاع على البقلاوة وموطنها، ليتبع ذلك تنافس عالمي بين الطرفين على اكتشاف الراحة (اللوقوم) وملكيتها، لينتقل الصراع هذه المرة إلى ملكية «قره غوز» أو «كركوز» في تسميته العربية.

نقطة البداية كانت عندما سارعت أثينا لتقديم طلب إلى الاتحاد الأوروبي لتسجيل ملكية كركوز باسمها، كجزء من الثقافة اليونانية، فتنبهت أنقرة للأمر، وسارعت وزارة الثقافة التركية بقيادة وزيرها أرتوغرول غوناي لحشد طاقاتها وخبرائها بموازنة كبيرة، هدفها قطع الطريق على الهجمة اليونانية. وكان لها ما أرادت من خلال إعداد ملف شامل تاريخي وثقافي، موثق بعشرات القرائن والأدلة، قدمته إلى اللجان المختصة في منظمة اليونسكو تطالب باستصدار قرار من قبل هذا التكتل الثقافي والاجتماعي الدولي، حول نسب كركوز وهويته التركية.

أنقرة كان لها ما أرادت، فاتفاقية اليونسكو الدولية الموقعة عام 2003 حول حماية الميراث الثقافي، منحت المنظمة حق أن تكون حكما في خلافات من هذا النوع. وهي تحركت دون تردد لإعطاء قرارها بعدما درست لجانها المختصة الطلب التركي، وقررت قبوله وتسجيله رسميا في منتصف الشهر المقبل، بعدما تراجعت اليونان عن متابعة القضية أمام الحملة التركية الشاملة. ومما ساهم في إنقاذ كركوز التركي، التقرير المفصل حول تركية كركوز الذي كتبه رئيس الاتحاد الدولي للدمى المتحركة، والكتالوج المصور حول كركوز وحياته وأفكاره والنشاطات الفكرية والعلمية التي عالجت تاريخه بإشراف وزارة الثقافة، على الرغم من أن أكاديميين وإعلاميين أتراكا انتقدوا إدخال الخنزير وشخصية الحاخام اليهودي على الملف، ومحاولة جعلهما بين عناصر شخصية كركوز وحياته. هذا الكتاب ترجم لعدة لغات ووزع في مؤتمر اليونسكو الثالث للحكومات، الذي عقد العام المنصرم. بعض الدارسين الأتراك انتقدوا وضع الطربوش فوق رأس كركوز، ابتداء من مطلع القرن السابع عشر بينما الطربوش في رأيهم يعود إلى بداية القرن التاسع عشر.

تركيا كادت تفقد جزءا من تاريخها وثقافتها بهذه السهولة، لو لم تتنبه لما يجري في اللحظة الحاسمة وتسارع إلى عقد الندوات وتنظيم المهرجانات والنشاطات التي تعرف بهذه الشخصية، بعدما أهملتها لسنوات طويلة مستسلمة للمسرح والتلفزيون والسينما والألعاب الإلكترونية.

بالعودة إلى شخصية كركوز وولادتها، لا بد من التذكير بأن ألعاب الظل، كما يجمع الكثير من الخبراء، بدأت في الصين وإندونيسيا والهند، وتعرفت تركيا إليها من خلال اتصالها الاقتصادي والاستعماري بهذه البلدان. لكن شخصية كركوز، كما تلتقي الكثير من الروايات، برزت في منتصف القرن الرابع عشر، في عهد السلطان أورهان غازي في بورصة، حيث كانت المدينة وقتها عاصمة الإمبراطورية العثمانية. تقول الرواية الأكثر انتشارا وقبولا في صفوف الناشطين في هذا المجال، إن السلطان كان منهمكا في إنجاز جامع كبير في المدينة يتركه كأهم آثاره فيها، وإنه حدد مهلة لإكمال المشروع، لكن أوامره لم تنفذ، وعندما تحقق من الأسباب علم أن أحد عمال الحديد، ويدعى «قره غوز» أو صاحب العينين السوداوين، وأحد البنائين ويدعى حاجي إيغاز «حاجي فاذ»، كانا يتناحران ويتلاسنان دائما بأسلوب ساخر مضحك، يلفت انتباه العمال في البناء ويضيع وقتهم لساعات. غضب السلطان وأمر بإعدام الرجلين على الفور. لكن قراره هذا أحزن الجميع، وانعكس سلبا على سير المشروع. سارع أحد أعوان السلطان من المشايخ، ويدعى كوشتري لخلع لفته البيضاء، وفتحها أمام شمعة تعكس على الحائط صورا ورسوما تتحرك، ويقلد بصوته حوار كركوز وحاجي فاد، ونجح باكتشافه هذا في إعادة الحياة إلى العمال لإنجاز مشروعهم، بعدما تمت ترضيتهم بهذه الوسيلة. هكذا انتشرت فكرة كركوز في المدينة، وتسابق الحرفيون والأدباء على تطويرها وإغنائها بالابتكارات الجديدة حتى انتشرت في كل أرجاء الإمبراطورية العثمانية، وأصبحت وسيلة تسلية وترفيه وانتقاد في الوقت نفسه، لسياسات الحكام وسلوكهم، خصوصا أن شيخ الإسلام نفسه أصدر فتوى تسمح بالتفرج على هذا الفن إذا ما كان يحمل العبر والدروس. لكن هذه الأعمال أخذت بالتراجع منتصف القرن التاسع عشر بعدما كانت حياة كركوز وأقواله وأفعاله في الذروة، مع تطور اللغة والحوار والأدوات المستخدمة في تقديمها.

اليونان تصر حتى الساعة على أنها خسرت موقعة لكنها لم تخسر الحرب. فهي متمسكة بملكية هذه الشخصية وانتمائها، على الرغم من التقدم التركي في المواجهة. وهي فعلا خصصت أموالا كبيرة ومشاريع كثيرة للتعريف بكركوز اليوناني، وكادت تقنع الجميع، خصوصا أن الأتراك لم يقدموا الكثير من الجهد لحماية هذه الشخصية في تراثهم. لكن وزارة الثقافة التي يبدو أنها استفادت من الدرس تتحرك بأكثر من اتجاه هذه الأيام لإعادة الحياة إلى كركوز على المستوى الوطني والعالمي، ضمن خطة طبع وتصنيع شعارات ورسوم وملصقات تعرف بكركوز وشخصيته، وتنظيم عروض تلفزيونية وإعداد أفلام وثائقية خاصة تعرف به، وتخصيص موازنات تصرف على الدراسات والبحث العلمي حول هذه الشخصية.

هل تعود الروح إلى خيال الظل أو طيف الخيال كركوز، هذه الشخصية الفكاهية الساخرة، بعدما تراجعت أمام إهمال الأتراك وهجمات التغريب والأوربة؟ لقد كان كركوز سيد الحلبة لسنوات طويلة يحارب الفساد والرشاوى وكبار موظفي الحكم، لذلك لم يترددوا في مسحه من الوجود للتخلص منه.