عبد الرحمن الدرعان: اتساع هامش الحرية أطلق «طفرة» روائية.. والحكم الحقيقي للتاريخ

الأديب السعودي الذي أحرق مجموعته القصصية «بسبب انقسام المثقفين»

الأديب السعودي عبد الرحمن الدرعان
TT

بعد أن أحرق الأديب والقاص السعودي عبد الرحمن الدرعان مجموعته القصصية «نصوص الطين» التي صدرت في عام 1990، بسبب الشعور بالإحباط نتيجة انقسام المثقفين العرب على أثر الغزو العراقي للكويت، رجع بعد عشر سنوات ليصدر مجموعته القصصية (رائحة الطفولة).

وفي هذا الحوار يتحدث الدرعان أيضا عن أسباب التدفق الإبداعي الذي شهدته الساحة الثقافية السعودية مؤخرا، ويرجع ذلك إلى غياب الرقابة ووفرة وسائل الاتصال واتساع هامش الحرية، كما يعتقد أن المؤسسات الثقافية تجاوزت حالة الركود التي شهدتها على مدى الـ30 عاما الماضية، وأن الجهود التي تقودها وزارة الثقافة والإعلام والقيادات الثقافية قادرة على تفعيل دور هذه المؤسسات وتحويلها إلى مؤسسات مجتمع مدني تعمل بعيدا عن التوجيه الرسمي.

وتزخر المجموعة بحكايات يسردها القاص بأسلوب مخاطبة القارئ لإشاعة أكبر قدر من التداخل معه، وتقليص المسافات بين المحكي عنه والمتلقي، وهي سمة من سمات كتابات المؤلف عرفت عنه في مجموعته الأولى «نصوص الطين».

وتتكثف اللغة الشعرية عند الدرعان مع قدرة على سرد التفاصيل والغوص في حياة شخوصه واستنطاقها في نصوص مكثفة وعميقة التجربة. كما تقترب النصوص من عالم بيئة القاص بتداخلات النسيج الاجتماعي، عبر الحوارات المثقلة بحمولاتها الدلالية مستفيدة من ترميزات الحكاية الشعبية، ثم تقتطع منها ما يساهم في إثراء نسيج القص دون الوقوع في نمطية طغت على نصوص كثير من كتاب القصة السعودية في تعاملهم مع البيئة الاجتماعية خلال نصوص تبدو وجدانية رومانسية تنشغل كثيرا بالحنين إلى الماضي على حساب تقنيات الكتابة.

«الشرق الأوسط» أجرت الحوار التالي من الرياض مع القاص عبد الرحمن الدرعان:

بعد أن أحرق الأديب والقاص السعودي عبد الرحمن الدرعان مجموعته القصصية «نصوص الطين» التي صدرت في عام 1990، بسبب الشعور بالإحباط نتيجة انقسام المثقفين العرب على أثر الغزو العراقي للكويت، رجع بعد عشر سنوات ليصدر مجموعته القصصية (رائحة الطفولة).

وفي هذا الحوار يتحدث الدرعان أيضا عن أسباب التدفق الإبداعي الذي شهدته الساحة الثقافية السعودية مؤخرا، ويرجع ذلك إلى غياب الرقابة ووفرة وسائل الاتصال واتساع هامش الحرية، كما يعتقد أن المؤسسات الثقافية تجاوزت حالة الركود التي شهدتها على مدى الـ30 عاما الماضية، وأن الجهود التي تقودها وزارة الثقافة والإعلام والقيادات الثقافية قادرة على تفعيل دور هذه المؤسسات وتحويلها إلى مؤسسات مجتمع مدني تعمل بعيدا عن التوجيه الرسمي.

وتزخر المجموعة بحكايات يسردها القاص بأسلوب مخاطبة القارئ لإشاعة أكبر قدر من التداخل معه، وتقليص المسافات بين المحكي عنه والمتلقي، وهي سمة من سمات كتابات المؤلف عرفت عنه في مجموعته الأولى «نصوص الطين».

وتتكثف اللغة الشعرية عند الدرعان مع قدرة على سرد التفاصيل والغوص في حياة شخوصه واستنطاقها في نصوص مكثفة وعميقة التجربة. كما تقترب النصوص من عالم بيئة القاص بتداخلات النسيج الاجتماعي، عبر الحوارات المثقلة بحمولاتها الدلالية مستفيدة من ترميزات الحكاية الشعبية، ثم تقتطع منها ما يساهم في إثراء نسيج القص دون الوقوع في نمطية طغت على نصوص كثير من كتاب القصة السعودية في تعاملهم مع البيئة الاجتماعية خلال نصوص تبدو وجدانية رومانسية تنشغل كثيرا بالحنين إلى الماضي على حساب تقنيات الكتابة.

«الشرق الأوسط» أجرت الحوار التالي من الرياض مع القاص عبد الرحمن الدرعان:

* تدفق في الآونة الأخيرة نتاج أدبي وقصصي في الساحة السعودية بشكل غير مسبوق.. ما تقييمك للواقع الإبداعي في السعودية بين الماضي والحاضر؟

ـ يبدو لي أن ثمة جملة أسباب لهذا التدفق الكتابي أو ما يطلق عليه طفرة روائية تحديدا، لعل أبرزها غياب الرقابة ووفرة وسائل الاتصال واتساع هامش الحرية، كما أن جزءا غير يسير من هذا الزخم إنما هو المكبوت الذي وجد في هذا الفضاء مساحة غير محدودة. بيد أن ما يستغرب له الآن هو تحول الكتابة إلى لعبة شبه مجانية وميدانا للابتذال والتفسخ في أعمال غير قليلة، وخذ على سبيل المثال لا الحصر رواية (شباب الرياض) في مقابل رواية (بنات الرياض).

لكن هذا لا يعني غيابا للأعمال الجادة التي لم تنل حظها من الشهرة بسبب غلبة منطق السوق في خضم هذه الظاهرة، وخذ على سبيل المثال أيضا رواية (هند والعسكر) لبدرية البشر، وسواها من الأعمال التي لا يسمح المقام بعرضها. والتاريخ وحده هو الذي سوف يفرز هذا النتاج بطبيعة الحال.

* لك تجربة إبداعية مرّت في بعض مراحلها بعزلة وغياب، هل كان هذا الغياب اختياريا؟ وإلى أي مدى أثر في نتاجك الإبداعي؟

ـ عندما بدأنا نسلك طريق الكتابة لم يكن آنذاك ثمة وسيلة أفضل من البريد التقليدي الذي كنا نعتمد عليه في التواصل مع الصحافة أو مع الأصدقاء الذين جايلناهم. ولعل حالتي كانت استثناء نظرا لبعدي الجغرافي عن المدن المركزية وعن الفعاليات الثقافية، ولا تتصور أي أعباء كنا نتكبدها لكي نحصل على الكتاب أو نتواصل مع أصدقائنا الكتاب الذين انتظرنا لنتعرف عليهم عن قرب أكثر من عشرين عاما.

وبالتأكيد هذه الشروط القاسية ألقت بظلالها على تجربتي وتجارب بعض الزملاء، ولا سيما في مدن الأطراف. تخيل أنني لم ألتقِ بصديقي عواض شاهر مثلا الذي كنت على اتصال به إلا بعد أكثر من عشرين عاما، لكن من حسنات العزلة أيضا أنها صقلت تجربتنا إلى حد بعيد.

* تحاول في سردك القصصي الميل إلى استخدام مفردات غنية بتقاليد المجتمعات القروية، هل كنت تقاوم زحف المدينة على وعيك ولغتك الأدبية؟

ـ ما أعرفه أنني كتبت بعفوية لا أتقصد فيها اختيار المادة التي أعتمد عليها في كتابتي، وأظن أن الطفولة مخزن كبير، خصوصا في المدن الصغيرة والأرياف، ولم يكن يهمني أن أحاكي تجارب عالمية بقدر ما كنت أريد أن أكتب ما أتقن كتابته وحسب.

* إلى أي مدى أنت راضٍ عن الدور الذي تقوم به الأندية الأدبية ومساهمة الأسماء الثقافية في إرساء دعائم تطوير العمل الإبداعي والثقافي في السعودية بشكل عام؟

ـ مرت الأندية بحالة ركود طويلة امتدت لثلاثين عاما تقريبا، ولعل جهود وزارة الثقافة والإعلام ممثلة بوكالة الوزارة المساعدة للشؤون الثقافية في عهدها الجديد تبذل قصارى جهدها مشكورة لتفعيل دور المؤسسات الثقافية بهدف الوصول إلى استقلالية هذه المؤسسات استقلالا تاما، بحيث تتحول إلى مؤسسات مجتمع مدني تتحرك في إطار بعيد عن التوجيهات الرسمية التي يتحسس منها المثقف في الغالب. لكن هذا لن يحدث بين عشية وضحاها.

إن الراصد لنشاطات الأندية لا بد أن يلاحظ الحراك الذي أحدثته على الساحة الثقافية خلال الأعوام الفائتة، ومنها نادي الشرقية ونادي حائل على سبيل المثال، وأنا متفائل كثيرا بمستقبل الأندية إذا استطاعت أن تسير في طريقها الصحيح وتتفادى بعض المعوقات التي تتربص بها.

* في عام 1990 أصدرت مجموعتك القصصية الأولى «نصوص الطين» غير أنك أحرقتها، هل كان ذلك نتاج إحباط، أم أن هناك أسبابا أخرى دفعتك إلى القيام بذلك؟

ـ في ذلك العام حدثت كما تعرف الانقسامات السياسية في العالم العربي على أثر الغزو العراقي للكويت، ولكن الأسوأ أن تلك الانقسامات طالت الشارع الثقافي وتحول كثير من المثقفين إلى جوقة في عهدة رجال السياسة، الأمر الذي كان بمثابة الصاعقة لكاتب غر لا يزال يشق طريقه في ميدان الإبداع. ولم أجد آنذاك تعبيرا أفضل عن موقفي أكثر من إحراق مجموعتي القصصية التي تزامن صدورها مع تلك الكارثة، ولم يكن في نيتي العودة إلى عالم الكتابة. كنت أفضل أن أعيش درويشا نقيا بعيدا عن كل شيء، ولكن هذا الأمر لم يكن خاضعا لقرار شخصي ولم يكن ليحدث بهذه السهولة.

* لكنك عدت إلى السرد وأصدرت مجموعتك الثانية «رائحة الطفولة» في عام 2000؟

ـ بعد عشر سنوات من صدور المجموعة الأولى حاولت خلالها الابتعاد عن الكتابة ولم أفلح، لكني ابتعدت عن النشر. لم أجد في العزلة إلا الاختناق، وهكذا عدت إلى الكتابة على الرغم من اليأس والمرارات والإحباط.

* استفتحت هذه المجموعة بأبيات من قصيدة «إيثاكا» للشاعر اليوناني قسطنطين كفافي، لماذا وقع اختيارك على هذه القصيدة تحديدا؟ وهل من مقاربة إبداعية وشعورية وفكرية بينك وبين شاعرها؟

ـ الشاعر قسطنطين كفافي يأسرني بشكل لا يطاق. وربما لشدة ما تماهيت معها تخيلت في هذه القصيدة على وجه التحديد أنه كتبها لقارئ واحد هو أنا.

* في هذه المجموعة عمدت إلى اجترار الذكريات الطفولية والبراءة والنقاء في بيئة حكمتها ظروف معينة. لماذا هذه العودة إلى الماضي؟

ـ الماضي لا يمضي تماما. إنه الجزء الصلب الذي يبقى في الذاكرة، وقد يكون في أحيان كثيرة أكثر حضورا من الحاضر، بعيدا عن الاعتبارات المنطقية للتسلسل الزمني، وعندما كتبت وصادف أنني كنت أغترف من مخزن الذاكرة، كان القارئ غائبا عني في لحظة الكتابة، هكذا حدث الأمر.

* كيف تنظر إلى دور النقاد في السعودية؟ هل قاموا بدرهم المفترض فيما يخص القصة والرواية على وجه التحديد؟

ـ ربما كان النقد مشغولا بالشعر أكثر من الفنون السردية لوقت طويل في السعودية. وانصراف النقاد كان حقا يسبب لي امتعاضا في البدايات، غير أنني أدركت فيما بعد أنه يتعين علي أن أكتب، وهنا ينتهي دوري، فما عدت بعد ذلك أهتم كثيرا للنقد.

* هناك بعض الأسماء التي ذاع صيتها الآن في عالم الرواية والشعر والقصة في السعودية، إما بسبب وضعها الاجتماعي أو الدبلوماسي أو الإعلام السياسي.. إلى أي حد كان ذلك على حساب بروز وجوه إبداعية؟

ـ ربما كانت هذه المعادلة صحيحة إلى حد ما، فالكتابة أيضا صناعة يتقن بعض المنتسبين إليها كيف يروجون لأعمالهم على حساب أعمال أكثر جودة ونضجا، كما يحدث في عالم الفن والغناء أيضا، لكن الحكم الحقيقي هو التاريخ.

سيرة ذاتية

عضو نادي الجوف الأدبي، وهو من مواليد سكاكا شمال السعودية عام 1962، أصدر مجموعة قصصية بعنوان «نصوص الطين» عام 1989 عن دار الشروق، لكنه أحرقها عام 1990. ثم أصدر مجموعة قصصية بعنوان «رائحة الطفولة»، ونشرتها مؤسسة عبد الرحمن السديري الخيرية في الجوف. وقد افتتح المؤلف مجموعته بمقطع من «قسطنطين كفافي» منه: «وتقول لنفسك: سوف أرحل، إلى بلاد، إلى بحار أخرى، إلى مدينة أجمل من مدينتي هذه، لن تجد أرضا جديدة، ولا بحارا أخرى، فالمدينة ستتبعك، وستطوف في الطرقات ذاتها، وتهرم في الأحياء نفسها، وفي البيت نفسه سوف تشب وتموت».