تراجيديا كوميدية عن مهاجرين عرب وإيرانيين إلى كندا

الشرق والغرب لا يلتقيان في رواية «الصرصور» للكاتب اللبناني راوي حاج

TT

ما أبغض مخلوق يمكن أن تفكر فيه؟ كانت الإجابة بالنسبة للروائي التشيكي فرانز كافكا هي: الصرصور.

الآن، تخيل العالم بأسره وكأنه حارة خلفية مهجورة مملوءة بعدد كبير من صناديق القمامة مترعة بالزبالة المنتنة وتعيش فيها أعداد كبيرة من صراصير تشعر دوما بالجوع. إنه المشهد الذي اختاره الكاتب اللبناني راوي حاج، الذي يعيش في كندا، لروايته الثانية «الصرصور»، وجعل المشهد يدور في مدينة مونتريال وجمع فيها مهاجرين من أركان المعمورة كافة. والراوي هو لص حقير يفترض أنه هرب من الحرب الأهلية اللبنانية التي استمرت على مدى عقد من الزمان والتي لم يكن يحلم خلالها بشيء سوى الهرب. ولكنه، بعد أن هرب إلى كندا البعيدة و«المتجمدة»، بدأ يتساءل عن قيمة الرحلة التي قام بها.

سأل نفسه: «أين أنا؟ وما الذي أقوم به هنا؟ وكيف انتهي بي المطاف إلى أن أكون داخل هياكل لسيارات محطمة متجولا في مدينة متجمدة يتساقط فيها الثلج طوال الوقت؟ وأهم من ذلك كله، أنني جوعان وفقير ولا أحد معي.. لا أحد».

ولا يمكن الوثوق بـ«البطل الضد» في رواية حاج ويمكن اعتباره منافقا بكل ما في الكلمة من معان. ومن المستحيل معرفة الجزء الصحيح من القصة التي يحكيها في أي وقت والجزء غير الحقيقي. وفي النهاية، لا يفيد كثيرا أين انتهت الحقيقة وبدأ الخيال. وما يفيد هو التراجيديا الكوميدية التي تمثل حياة مجموعة من المتشردين المرتبطين بالوجود كمهاجرين على أطراف مجتمع كندي.

ومن بين هؤلاء، رضا، هو لاعب سيتار فارسي كسر الحرس الثوري التابع للخميني أصابعه. وهناك أيضا «الأستاذ» الجزائري الذي له نمطه الخاص الذي يقلد مثقفي مقهى فرنسي ويحلم بالقيام بأشياء كبرى بينما ينتظر شيك الإعانة المقبل. وهناك شوهرة الجميلة التي يغتصبها إسلاميون في طهران، وسحر العابثة التي تحاول أن تنسى أصولها وتصبح كندية أصيلة.

ويدعم ذلك كنديون أصليون يبدون كأشخاص يفضلون تناول النباتات، لهم وجوه شاحبة ويحبون فعل الخير وذوو قلوب رحيمة وموظفو خدمة اجتماعية وبالطبع طبيبة نفسانية مثيرة جنسيا كانت مسؤولة عن متابعة الراوي بعد محاولته الانتحار.

في عالم الروائي حاج، لا يمكن أن يتقابل الشرق مع الغرب سوى في شك متبادل وسخرية، وفي النهاية عنف وكراهية. وكما هي الحال مع الدول الغربية الأخرى التي يوجد بها عدد كبير من المهاجرين من العالم الثالث، لا سيما الدول الإسلامية، نجد أن كندا غير قادرة على امتصاص مواطنيها الجدد، ناهيك عن استيعابهم. كما أنها غير قادرة على أن تقدم لهم سوى الفتات من «رخائها غير المحتشم». ولذا يعيش المهاجرون في حالة من التيه شكلتها حالات من العزلة. وبعد أن فقدوا بلادهم الأم يتذكرون كل يوم أن البلد الجديد الذي أملوا أن يحوزهم مغلق أمامهم.

وتقدم قصص الشخصيات المتعددة ومضات على الساحة السياسية المملوءة بالعنف داخل دول العالم الثالث التي تتسبب في أكبر موجات من اللاجئين عرفها العالم.

ويظهر حاج كيف أن العالم أصبح صغيرا. ولذا يكون للأحداث المأسوية في مناطق مثل الشرق الأوسط آثار مباشرة في أماكن مثل كندا التي تقع على بعد آلاف الأميال. والسبب هو أن اللاجئين الذين يعيشون في ظروف مأساوية نائية يحاولون أن يعثروا على ملاذ آمن في دول لم تغلق حدودها بعد أمام «الملعونين في الأرض». ولم يحم المحيط ومئات الأميال ولا المناخ البارد ولا اللغة ولا الثقافة الكنديين من التبعات الأليمة للثورة الخومينية في إيران ولا من الإرهاب الإسلامي في الجزائر ولا عمليات القتل الطائفية في لبنان.

وبسبب عنوان الرواية، ربما تذكر رواية حاج بعض القراء برواية «المسخ» لكافكا. ولكن، يوجد اختلاف جوهري بين الروايتين، حيث إن مسخ البطل الضد في رواية كافكا إلى صرصور من دون أن يعرف أو يريد ذلك. إنه ضحية لمصير وحشي خارج نطاق سيطرته. وعلى الجانب الآخر، فإن البطل الضد داخل رواية حاج لديه سمات الصرصور في شخصيته برغبته وهذا هو العنصر الأساسي لآلية الدفاع عن النفس في عالم عدائي.

في الرواية الأولى لحاج «لعبة دونيرو» يتحول صرصور وبعد ذلك ينمو إلى شخص أحدب. وفي هذه الرواية، يكون للصرصور الأمهق «ظهر أحدب». ويقول حاج: رأيت الصرصور الأمهق المخطط العملاق يقف على قدمين اثنتين، ومنحني ناحية باب المطبخ. كان قد كبر ليكون في مثل حجمي أو حتى أكبر».

وفي الحوار الذي يلي، ينتقد الصرصور الراوي ويصفه بأنه «شخص هارب»، وربما بسبب محاولته الانتحاب. يقول الصرصور: «نحن قبيحون، ولكن نعرف دوما أين نذهب، ولدينا مشروع، وهو مشروع لتغيير العالم».

وفي النهاية، يذكر الصرصور الراوي بأنه على الأقل «جزء بشري»، ومن ثم فإنه يتحمل مسؤولية أكبر من مجرد صرصور. ووجود الصرصور هو أحقر وأحط صور الحياة. وعليه، فإن رسالة حاج هي التأكيد على الحياة حتى في أقل الصور. وهناك أشياء حدثت مع صرصور كافكا، ولكن يحافظ صرصور حاج دوما على طابع التقليد. وبصيغة أخرى، فإنه على الرغم من المظاهر، فإن تشاؤم كافكا المغطى في كوميديا سوداء لا يمت بصلة إلى تفاؤل حاج الذي يؤكد على الحياة بعد أن استثارته أبسط منح الوجود اليومي. «مع رشفة الشرب الأولى وأول الأشياء المقلية، أنسى وأسامح البشرية على غبائها وحمقها وجشعها وطمعها وحسدها وشرهها وكسلها وغضبها وحنقها.. وأنسى أيضا الأطفال الذين يتمتعون بالجمال ويقف الذباب الأفريقي على أنوفهم.. وأنسى أمي وأبي والليالي التي غاب عنها الضوء التي لعبت خلالها الأوراق مع أختي وألبس دمى على شكل جنود، وأجرد عرائس من الزينة بضوء الشمع وقراءة المجلات الهزلية».

ربما يشعر القارئ بالإحباط أو الملل عند قراءة رواية حاج. ولكنه سيجد في النهاية أن رواية «الصرصور» رواية لن تنسى.