مهنة «المدقق اللغوي».. تستغيث

حراس الضاد يطالبون بلقاحات لوقايتهم من أمراضها المعدية

(«الشرق الاوسط»)
TT

ليس ثمة من يحسد المدققين اللغويين على مهنتهم، هذا صحيح، لكن المشكلة أن المهنة تزداد صعوبة وعسرا. ومن كانوا يوظفون بشكل أساسي لتلافي خطايا الأخطاء السياسية القاتلة، تعددت مهماتهم وتشعبت، إلى حد يصعب حصره. فأين أصبحت مهنة المدقق اللغوي اليوم؟ وأي مهمة ملقاة على عاتق هؤلاء الجنود المجهولين؟

في قصته القصيرة «تدقيق لغوي»، يقدم حكمت النوايسة وصفا طريفا لا يخلو من المرارة لمهنة المدقق اللغوي، فيقول: «أعمل مدققا لغويا، ولي في هذه المهنة ست عشرة سنة، لم أخطئ، ولم يكتشف أحد بعدي خطأ نحويا واحدا. أولعت بالتدقيق، وصرت أدقق بكل شيء.. التبس الأمر علي، ولم أعد قادرا على فصل هذه المهنة المؤذية التي أمتهنها عن الواقع الذي بت أراه يحتاج إلى تدقيق. أريد أن أدقق كل شيء، الشبابيك، الأبواب، وأسعار الخضراوات، ولافتات المطاعم. خذ هذه مثلا، قرأت إعلانا لأحد المقاهي هذا نصه: «كوفي ميت» وبعد أمتار مقهى آخر عنوانه «كوفي شب». لم يعد الشكل هذه المرة يعنيني، أوضعوا شدة على الياء، أم لم يضعوا. وأخذت أفكر في المعنى. لِمَ اختار صاحب المقهى كوفيا ميتا عنوانا لمقهاه؟ ولِمَ اختار الآخر كوفيا شابا عنوانا؟ وما قصة الكوفيين والمقاهي؟!».

في أقل من أربعمائة كلمة يضيء الكاتب على واحدة من مهن الظل، التي من دونها لا يستقيم عمل إعلامي، بل قد يقع في مطبات خطيرة، وعواقب وخيمة، مثل ذاك الخطأ الذي ارتكبه مخرج في صحيفة مصرية، حين أورد عنوانا رئيسيا عن إلقاء القبض على السفاح الذي دوخ الشرطة وتحته مباشرة، ودون خط فاصل خبر عن زيارة الرئيس جمال عبد الناصر إلى الهند، فكان الخبر «القبض على السفاح عبد الناصر في الهند».

وربما بسبب هذا النوع من الأخطاء الثقيلة كان هناك اهتمام بالغ في الصحف العربية بالتدقيق اللغوي. وذلك ليس لضمان سلامة اللغة، بقدر توخي الحذر والسلامة. فتبديل حرف بحرف، أو سقوط نقطة، أو العكس لا يغير المعنى وحسب، وإنما يعطيه معنى مناقضا، وربما شنيعا. أما حين يتعلق الأمر بأخبار السياسية والطبقة الحاكمة، فالخطأ يتحول إلى كارثة، مثل أن يقال الرئيس فلان «يعرّي» أخاه الرئيس فلان، بدلا من يعزي، والفارق هنا نقطة ليس أكثر. وكتاب طرائف الأخطاء المطبعية لمنذر الأسعد يرصد عددا كبيرا من أشهر الأخطاء الطريفة والقاتلة، منها ما جاء في صحيفة مصرية أيام الملك فاروق في خبر يقول: «استقبل الملك فاروق ضيوفه في قصره (العاهر)، بدلا من (العامر)».

هذا النوع من الأخطاء يجعل مهمة المدقق اللغوي أصعب وأعقد، وتتجاوز حدود حراسة اللغة لتبلغ حدود تجنب ارتكاب أخطاء مميتة، من نوع استبدال حرف بحرف. فبدل أن يوصف زعيم بلد بالقائد «الفذ» يوصف بالقائد «الفظ». وقد وقعت في هذا الخطأ صحيفة عراقية في عهد الرئيس السابق صدام حسين، ودفع المسؤول عن الصحيفة ثمنا باهظا.

لكن ولدى مراقبة وسائل الإعلام العربية من صحف وتلفزيون وإذاعة وإنترنت، نلاحظ أن هذا النوع من الأخطاء بات شبه نادر، بسبب تطور عمليات التنضيد وسهولة التصحيح قبيل الطبع، في حين أن أخطاء النحو والصرف وحتى الإملاء ما زالت شائعة، وبالأخص في التلفزيونات والإنترنت. وهي أكثر شيوعا في المؤسسات المستقلة الجديدة والخاصة عنها في المؤسسات العريقة، وذلك لضعف المحررين باللغة. إذ لم تعد إجادة اللغة شرطا للعمل في التحرير، طالما هناك مدقق لغوي، كما أن التفقه باللغة ليس شرطا للعمل في التدقيق وإنما تكفي إجازة باللغة وقدرة على اكتشاف الأخطاء القاتلة، أو تلك التي يتغير فيها المعنى.

مسؤول تحرير في مؤسسة إعلامية سورية مستقلة لديها عدد من المواقع الإلكترونية ذات الطابع الصحافي الخدماتي، قال إن الموقع الذي يعمل فيه كادر صحافي كبير موزع في المحافظات، ولديه عدد ضئيل من المدققين اللغويين، تحولوا باستثناء واحد منهم إلى صحافيين محررين. والسبب ـ كما يقول ـ أن «عملهم في تدقيق وإعادة صياغة المواد علّمهم التحرير الصحافي. لذا، ومع الوقت يغدو العمل في كتابة المادة أسهل كثيرا من تصحيحها وإعادة صياغتها».

لا تزال المؤسسات الإعلامية الرسمية في سورية تتمسك بعملية التدقيق اللغوي. وفي الصحف الرسمية عمليات تدقيق كثيرة تتم للنص وعلى الورق، انطلاقا من الحرص على تحديد المسؤول عن الخطأ في حال وقوعه. إذ لا يجري التدقيق على الكومبيوتر مباشرة كما هو الحال في الصحف والمجلات الخاصة التي ترى في ذلك بيروقراطية تأكل الوقت. أما في التلفزيونات فالرقابة على اللغة تتوزع على كل مفاصل العمل والبرامج، من مراقبة وتدقيق نصوص التقارير والبرامج المسجلة إلى مراقبة الإلقاء على الهواء. مديرة التلفزيون السوري ديانا جبور تقول: «يجري تدقيق لغوي لنشرات الأخبار ولكل البرامج المسجلة. كما أن هناك مراقبة لغوية لبرامج البث المباشر»، لافتة إلى وجود تعليمات بمنع «التسجيل قبل مرور النص على المدقق اللغوي»، مضيفة أنه ومع ذلك «تقع أخطاء نتيجة السرعة وأحيانا نفاجأ بكم من الأخطاء».

أستاذ اللغة العربية حسيب بركودة، الذي عمل في عدد من الصحف وفي التلفزيون السوري مدققا للغة لأكثر من ثلاثين عاما، رأى أن «قراءة نص غير مضبوط بالشكل وغير محضر بدون ارتكاب خطأ أشبه بالمعجزة. فهذه مهارة كبيرة تتطلب موهبة وسرعة بديهة لا تتوافران عند جميع الناس». وأكثر الأخطاء شيوعا ما يتصل بـ«الصرف وحركة عين الفعل والمثنى وجمع المذكر السالم.. إلخ. هناك من يقول إنها بالسليقة، لكن ذلك لا يكفي، وقد يقع المرء بالخطأ، وكذلك الأمر بالنسبة للنحو». أما أخطاء الهمزات فيقول «غالبا تهمل همزات القطع والوصل، وقد جرى الاستغناء عنها في كتابة النص، ولكن يراقب لفظها أثناء الإلقاء». وعن مهنته في مراقبة الإلقاء يصفها بأنها «صعبة وتحتاج إلى قدرات إضافية إلى جانب معرفة باللغة كسرعة البديهة، ودقة الملاحظة في التقاط أخطاء الإلقاء». حسيب بركودة أشار في حديثه إلى أنه «سابقا كان المدققون اللغويون خبراء ومختصين باللغة، أما الآن فأغلبهم حائزون على إجازة في اللغة وليسوا خبراء، وبذلك فقد المدقق حرمته كصاحب قرار وخبرة».

في سنوات سابقة درجت إدارة التلفزيون السوري على وضع تقارير عن الأخطاء اللغوية التي يرتكبها الإعلاميون خلال إطلالتهم على الشاشة، يُبلَّغ بها المسؤول عن البرنامج ومن ثم المدير العام لتنشر بعدها في لوحة الإعلانات (الخطأ مع التصويب). ومع أن هناك من كان يشجع هذا الإجراء كرادع قوي لتجنب الوقوع في الخطأ، إلا أن البعض الآخر وجد فيه تشهيرا. وهناك أخطاء تحولت إلى نكات لا تزال تتداول، كقراءة إحدى المذيعات صواريخ (جَو ـ جَو)، صواريخ (جُوجُو)!!

عماد سارة، مدير الأخبار في تلفزيون «الدنيا» (قطاع خاص)، يقول إن إتقان اللغة بشكل ممتاز ليس أولوية بالنسبة لشروط اختيار المتقدمين للعمل في القناة. «وعندما يأتينا إعلامي موهوب، يرفع بدل النصب أو العكس، يمكن تدريبه على تفادي أخطائه بمساعدة المدقق اللغوي». وأضاف سارة أنهم يراقبون نشرات الأخبار والشريط الإخباري بشكل أساسي، كما أن «هناك مدققا يتابع الإلقاء ويحضّر المذيع أو المذيعة قبيل البث».

الخطأ اللغوي في المسموع والمرئي يطير عبر الأثير، وقد لا يشعر به أحد، لكن في المادة المطبوعة الأمر مختلف، وإذا كان ثمة هامش للتصحيح في المواقع الإلكترونية، فليس كذلك في الصحف الورقية، فبإمكان المتصفح للمواقع الإلكترونية ممارسة دور المدقق للمواقع، ويبلغ عن الأخطاء من خلال التعليقات، كما أنه قليل جدا عدد المواقع التي تعتمد مدققا لغويا في كادرها المهني، سوى بعض المؤسسات الكبرى. وتقول محررة في موقع إلكتروني إخباري، إن «تدقيق اللغة مهمة تقع على ديسك التحرير المؤلف من ثلاثة صحافيين، غير مختصين باللغة، يصححون الصياغة والأخطاء الشائعة وفق السليقة أو السمع. إلا أن هذا ليس كافيا».

الشاعر محمد عضيمة، الذي يصف نفسه بالمتابع الجيد جدا للصحف والمواقع الإلكترونية، يعزو سبب كثرة الأخطاء في المواقع إلى أن أغلبها يحرره أفراد، أما في الصحف فالأخطاء قليلة جدا.

ومع ذلك فإن واقع اللغة العربية في وسائل الإعلام العربية بخير، وديانا جبور، مديرة التلفزيون السوري، تقول «إن ظهور قنوات متخصصة إخبارية وثقافية يسهم في تعميم استخدام اللغة الفصحى المبسطة، ووضع اللغة العربية اليوم أفضل من السابق». ويتفق مع هذا محمد عضيمة الذي يعتبر أن هناك «ظاهرة صحية في تعميم لغة ثالثة بين الفصحى والعامية أسهم في نشرها الإعلام».

لا شك في أن الأمية من الأخطار التي تهدد اللغة العربية في عصر وسائل الاتصال السريعة، البوابة التي تتدفق منها آلاف الكلمات الهجينة. لكن ثمة خطرا آخر قد يكون أشد وهو ما تحمله الأجيال الشابة القادمة إلى عالم الإعلام من حصيلة لغوية ركيكة تجد ملاذا آمنا في الإنترنت بعيدا عن الرقابة اللغوية، وأيضا في التلفزيون متسترة خلف الصورة تارة، واستخدام العامية تارة أخرى، فلا تنكشف ضحالتهم اللغوية إلا في الصحافة المكتوبة. تروي مسؤولة في مجلة منوعات صادرة حديثا أن المجلة منذ انطلاقها قررت الاعتماد على محررين شباب، وكانت النتيجة معاناة مسؤولي التحرير من مواد حافلة بأخطاء من كل الأنواع. وتقول المسؤولة، التي رفضت ذكر اسمها أو اسم المجلة منعا للتشهير، إن الشباب يقدمون «تحقيقات ذات أفكار مبتكرة لكن الصياغة رديئة واللغة بائسة، ونضطر لقبولها، لأننا لو أخذنا الفكرة فقط سيقال إن المجلة تسرق أفكارهم، وهذا صحيح، لذلك نضطر لإعادة صياغتها وتصحيحها ثم نشرها». أما أسوأ ما تتعرض له، فتقول، إنه «مع مرور الوقت وكثرة قراءة اللغة الرديئة تضعف لغة مسؤول الصفحة ويتراجع مستواه المهني». وتختم بالقول: «عملنا لم يعد حراسة سلامة اللغة، وإنما معالجة أمراضها، والطامة الكبرى إذا كانت هذه الأمراض معدية». فعندما يكون هناك محرر لا يدرك الفارق بين الجيش وقوات حفظ النظام، سيكون كارثة نقله لخبر اعتصام في دمشق، كما فعل محرر في أحد المواقع الإلكترونية، حين قال إن عددا من المواطنين السوريين اعتصموا وتواجد في المكان رجال الجيش، في حين أن قوات حفظ النظام هي التي تواجدت. مما دفع وكالات الأنباء العالمية للاستفسار من مراسليها في دمشق عن صحة خبر نشر الجيش في شوارع المدينة. هذا يذكر بقصة مماثلة حصلت في صحيفة عربية في عقود سابقة، نشرت تغطية لحادث انقلاب دراجة كان يقودها عسكري. وجاءت بعنوان «انقلاب عسكري في مدينة...» وهو ما فهمه مراسلو الصحف الأجنبية ووكالات الأنباء على أنه انقلاب على السلطة قام به عسكريون في البلد.

حيال هذا النوع من الأخطاء والخطايا يحق لحراس اللغة قول ما قاله حكمت النوايسة في قصته: «مهنتي مدقق لغوي، وأتمنى أن أستبدل بها بطاقة تموين، أو بطاقة تأمين صحي خاص بالعيون. العيون وحسب. وأعاهد من يعالجني على ألا أدقق بأي شيء».