الأوروبيون يهربون من الأزمة المالية إلى قاعات السينما

384 مليون تذكرة بيعت في أوروبا خلال 6 أشهر

TT

الأرقام لا تكذب، وكلها تشير إلى أن السينما في أوروبا تحقق نجاحات لم يسبق لها أن حصدتها منذ ستينات القرن الماضي، لا في نوعية الأفلام التي تنتجها ولا في مدى الإقبال عليها. فالبريطانيون، باتوا يرتادون قاعات السينما بنسب قياسية هذه الأيام، ومثلهم الإيطاليون والإسبان. أما رأي المحللين فهو أن الناس يهربون من بشاعة الواقع الاقتصادي إلى عالم أكثر رحابة وخيالا، وهو ما يفسر أن تنتعش السينما في اللحظة التي تتردى فيها الحياة اليومية للجمهور العريض. الأوروبيون يهربون إلى قاعات السينما هذا بات من المسلمات، لكن ثمة عوامل أخرى أعادت إلى الشاشات الذهبية توهجها.

بينما تعاني عدة قطاعات ثقافية من موجة ركود شديدة، بفعل الأزمة الاقتصادية وضعف الإقبال يبقى وحده القطاع السينمائي صامدا في وجه العواصف. هو على الأقل، حال السينما الفرنسية، التي تبدو بصحة جيدة وأكثر شعبية من أي وقت مضى، بحسب آخر تقرير لـ«المركز الوطني الفرنسي للسينما»، وهي الهيئة المكلفة برصد ومتابعة تطورات هذا القطاع.

الدراسة التي قام بها المركز ونشرها على موقعه على شبكة الإنترنت، تظهر أن إقبال الفرنسيين على الأعمال السينمائية الوطنية هو في تطور مستمر، فلا الأزمة المالية والاقتصادية ولا التحميل عبر الإنترنت ولا حتى منافسة الإنتاجات الهوليوودية الضخمة، استطاعت أن تثني هواة الفن السابع عن سلك طريق الشاشات الذهبية.

الإقبال لوحظ بشدة مند نحو سنتين، حيث بلغت نسب التردد على القاعات أرقاما قياسية، وباعت شبابيك التذاكر في شهر أغسطس(آب) 2009 لوحده أكثر من 15 مليون تذكرة، أي بزيادة نسبتها 4.5 في المائة، عما كانت عليه في الفترة نفسها من سنة 2008. والزيادة محسوسة إجمالا على امتداد الأشهر التسعة الأولى من السنة، حيث زار القاعات السينمائية أكثر من 193 مليون شخص. وهو ما يمثل زيادة نسبتها 6.8 في المائة عن سنة 2008. وعلى عكس ما هو متوقع يرى مسؤلو مركز السينما أن ظهور الأزمة الاقتصادية في حياة الناس وأخبار إغلاق المصانع الواحد تلو الآخر والبطالة المتفاقمة، كلها عوامل ضاغطة ضاعفت من تردد الناس على قاعات السينما وكأنهم يلجأون لعالم الخيال أملا في تخفيف آلامهم، وهربا من وطأة الواقع الصعب. الظاهرة نفسها تعرفها الدول الأوروبية الأخرى. وهو ما جاءت تؤكده دراسة حديثة للمرصد الأوروبي للسمعي البصري الذي سجل خلال الستة أشهر الأولى من سنة 2009 بيع 384 مليون تذكرة في الدول الأوروبية الخمس الكبرى: فرنسا، ألمانيا، بريطانيا، إيطاليا وإسبانيا. وهي دول تزايدت فيها أعداد المترددين على قاعات السينما بنسبة 3.8 في المائة مقارنة بسنة 2008. تتصدر القائمة بريطانيا التي سجلت زيادة 14.5 في المائة، ألمانيا 6.5 وإسبانيا 7.9 وهذا على الرغم من استفحال الركود الاقتصادي في هذه الدول. وكان من المفترض أن تكون هذه النسب أعلى، لولا شيوع ظاهرة تحميل الأفلام عبر الإنترنت، التي قدرتها «جمعية مكافحة القرصنة السمعية البصرية» (ألبا) في دراسة أنجزت في فرنسا، ونشرت في شهر أغسطس (آب) المنصرم بنحو 450.000 تحميل يومي.

لكن الأهم من هذه الأرقام، هو ما لوحظ من عودة الثقة والود بين جمهور القاعات والسينما الفرنسية، التي طالما أشيع أنها تتوجه للنخبة فقط وأنها مملة تنتج أفلاما روائية، تكثر فيها الثرثرة ويغيب عنها التشويق والإثارة. التوجه الجديد الذي بدأ في العقد الأخير من الزمن يتميز بتنوع الإنتاج السينمائي الذي لم يعد يقتصر على الأفلام الروائية فحسب، بل يتناول أيضا الأفلام الكوميدية، البوليسية، الاجتماعية وحتى أفلام الرعب وعلم الخيال، وظهور جيل جديد من المخرجين الشباب كماتيو كاسوفياتش، سيدريك كلابيش، أوليفيه أساياس وجاك أوديار، ممن تمكنوا من فرض رؤية سينمائية جديدة أكثر تشويقا وإثارة من سابقيهم أمثال فرانسوا تروفوا، كلود شابرول، برنار تافرنيي، الذين ذاع صيتهم في المهرجانات العالمية بفضل أعمالهم الروائية التي كانت تنجح فنيا لكنها تفشل تجاريا.

رياح التغيير جعلت إقبال هواة السينما على الإنتاج المحلي قويا ومنتظما، حتى أصبحت الإنتاجات الناطقة بلغة موليير تنافس نظيرتها الأميركية في شباك التذاكر، بل وتتفوق عليها أحيانا. وهو ما حدث سنة 2008 حيث نجحت الأفلام الفرنسية في تحقيق إيرادات بنسبة 46.7 في المائة من مجمل مداخيل سوق الأفلام مقابل 44 في المائة للأفلام الأميركية و7 في المائة لأفلام من جنسيات مختلفة.

وكانت هذه السنة تحديدا، قد شهدت نجاح عدة أفلام فرنسية على الصعيد المحلي والعالمي. فكان الفيلم الكوميدي «مرحبا عند الشتي» للممثل والمخرج الكوميدي داني بون (واسمه الحقيقي دانيال حميدو وهو جزائري الأب) تصدر ترتيب إيرادات السينما الفرنسية بأكثر من 150 مليون يورو، حيث شاهده أكثر من 20 مليون شخص. وهو رقم قياسي لم يصله أي فيلم فرنسي مند سنة 1966، تاريخ عرض الفيلم الكوميدي «لا غراند فادروي» أو «النزهة الكبيرة» الذي كان قد شارك فيه الممثلان المحبوبان الراحلان، لوي دو فوناس وبورفيل، وشاهده آنذاك 17 مليون شخص. كما حصدت السينما الفرنسية لسنة 2008 عدة نجاحات فنية كحصول الفيلم الروائي «بين الجدران» على السعفة الذهبية في «مهرجان كان»، وحصول الممثلة الفرنسية ماريون كوتيار على جائزة «الأوسكار» لأحسن ممثلة عن دورها في فيلم الطفلة أو «لا موم» الذي يروي قصة حياة المغنية الفرنسية إديت بياف. وكانت آخر ممثلة فرنسية حصلت على هذا اللقب هي الراحلة «سيمون سينيوري» مند أكثر من 45 سنة مضت. كما كان فيلم «النبي» أو «لوبروفيت» للمخرج الموهوب جاك أوديار قد لفت الأنظار ولاقى استحسان النقاد والجمهور معا في «مهرجان كان» 2009 بحيث حصل على الجائزة الكبرى. وهو مرشح لتمثيل فرنسا في مسابقة الأوسكار هده السنة.

الانتعاش الذي أصاب هدا القطاع الحيوي أصبح ممكنا بفضل مساهمة المال العام. فالحكومة، توفر مساعدات خاصة لميزانيات الأفلام تصل أحيانا إلى 50 في المائة حين يتعلق الأمر بمبدعين شباب وأعمال مميزة. كما يتم تنظيم عدة تظاهرات تحتفي بالسينما وتساهم في ضخ الحيوية والحياة في هدا القطاع، مثل «عيد السينما» الذي يقام كل سنة مع بداية شهر يوليو (تموز)، وترعاه «الفيدرالية الفرنسية للسينما».

وهي مناسبة تسمح للمتفرجين بمشاهدة العروض بأثمان رمزية لمدة يومين. و«الفيدرالية الفرنسية للسينما» تهتم بتطوير وتحديث قاعات العرض وصيانتها، حيث خصصت خلال العشرين سنة الأخيرة أكثر من 1.7 مليار يورو لإنشاء وتحديث قاعات العرض السينمائي. وهي منكبة الآن على تجهيز هده القاعات بالتقنيات الرقمية. علما أن فرنسا تضم عددا هائلا من قاعات العرض تصل إلى 5400 قاعة. وهي بهذا تحتل المرتبة الأولى أوروبيا والرابعة عالميا، وتستحوذ باريس على حصة الأسد من حيث الكمية والنوعية حيث تضم العاصمة لوحدها أكثر من 500 قاعة، الكثير منها مصنف ضمن ما يسمى بقاعات «الفن والنص». وهي صالات متميزة الهدف منها تنمية الثقافة السينمائية لدى هواة هذا الفن، فهي لا تكتفي بعرض الأفلام بل تنظم أيضا لقاءات بين الجمهور والمخرجين لمناقشة أعمالهم، كما أمسيات عرض خاصة بأفلام قديمة ومبدعين كبار وحلقات للبحث في مواضيع تهم عشاق «الفن السابع».