دعوة للحرية ضد الليبرالية و«الجماعية» القمعية

«خارج الجماعة» للباحث البحريني نادر كاظم

جانب من المؤتمر («الشرق الأوسط»)
TT

بعد كتابه «استعمالات الذاكرة» يتناول الباحث البحريني الدكتور نادر كاظم قضية التعددية الثقافية من منطلق إشكالي هذه المرة، وذلك في كتابه الجديد الذي وقعه الأسبوع الماضي بالتزامن مع معرض الأيام الـ17 للكتاب في البحرين، والكتاب بعنوان: «خارج الجماعة: في تجاوز الليبرالية والجماعية القمعيتين».

وقد سبق لنادر كاظم أن تناول التعددية الثقافية في كتبه الأخيرة بما هي وصفة سياسية واجتماعية تضمن التعايش السمح داخل المجتمعات التعددية، إلا أنه في هذا الكتاب يتناول الآثار الجانبية السلبية التي قد تتسبب فيها التعددية الثقافية، ويركز الكتاب على دور التعددية الثقافية في تعميق انتماء الأفراد إلى جماعتهم، الأمر الذي يمكن الجماعات من الهيمنة على أفرادها والتعامل معهم كممتلكات خاصة، وهذا يقود إلى ما يسميه الكتاب بـ«الجماعية القمعية»، وفي هذه الحالة لا يصبح انتماء الفرد لجماعة ما مجرد خيار متاح بحرية أمام الأفراد، بل واجب على الجميع الالتزام به، وعلى الجماعة عدم التهاون تجاهه.

والكتاب بهذا المعنى يعترف بقيمة الانتماء وحق الأفراد في الانتماء إلى الجماعة، وهذا على خلاف ما يذهب إليه القوميون (الذين يتعاملون مع الانتماء إلى جماعة فرعية على أنه تمزيق لوحدة الأمة، وتقسيم للمجتمع، وتشجيع التعصب والتخندق الطائفي، والخروج على الإجماع القومي) والتقدميون والطليعيون بصورة عامة.

ويطرح الكتاب مقاربة تأصيلية وتأملية في قضية التعددية الثقافية، وما تنطوي عليه من تقدير ضمني تجاه الجماعة وتجاه الهوية الثقافية أو العرقية. إلا أن الكاتب ينتقد كذلك التعددية الثقافية والجماعية القمعية التي تهدد باختزال الإنسان، وتقليص وجوده إلى كونه مجرد عضو في جماعة من الجماعات، بحيث يكون انتماؤه الثقافي أو العرقي هو عنوان هويته المفردة، ومحور وجوده كله.

إن مقاومة هذا النوع من الاختزال هي موضوع هذا الكتاب. ويذهب نادر كاظم إلى القول بأن هذه المقاومة ينبغي أن تكون مزدوجة، فالمطالبة بالحرية السلبية ضد «تدخل الدولة» تعني أن من حق المرء أن ينتمي إلى الجماعة التي يريدها ويطمئن إليها، وتعني كذلك أن من حق المرء أن يبقى «خارج الجماعة» بحيث لا ينتمي إلى أي جماعة، كما أن من حقه أن يتعامل مع انتمائه الثقافي بمرونة تسمح له بالانتماء إلى أكثر من جماعة في الوقت ذاته، ومن حقه كذلك أن يقاوم ممارسات الاختزال التي تستهدف تقليص وجوده في انتماء مفرد ومعزول ومغلق إلى جماعة من الجماعات. فليس من المهم أن يكون المرء منتميا لجماعة أو يعيش «خارج الجماعة»، بل المهم أن تكون له الحرية في اختيار الجماعة التي يريد الانتماء إليها، وحرية البقاء داخلها أو مغادرتها، وذلك بعيدا عن سلطة الإكراه التي تمارسها الدولة أو الجماعات بحق أفرادها. ويتجاوز الكتاب قضايا الذاكرة وسياسات التذكر والنسيان، التي كانت محور كتاب نادر كاظم الأخير «استعمالات الذاكرة» (2008)، ويركز، بدل ذلك، على قضايا التعدد والجماعية وسياسات الاعتراف، إلا أن هذا الكتاب يلتقي مع «استعمالات الذاكرة» في كون الكتابين ينهضان على نقد كل أشكال الاختزال التي تمارس بحق الإنسان وبحق التنوع والتعدد. وإذا كانت الذاكرة مكونا أساسيا من مكونات هوية الجماعة، فإن النسيان، في المقابل يسمح للمرء بأن يبقى «خارج الجماعة». و«خارج الجماعة» ليس موقعا مريحا بالضرورة، بل هو عزلة وغربة وهامشية وحالة من الحرمان والقلق، وهي لا تكون إلا من نصيب «الخوارج» الذين يكتب عليهم أن يعيشوا حياة غير مطمئنة ولا مؤمَّنة، وهي أشبه بحياة المنفى، إلا أنه منفى داخلي، فأنت تعيش بالقرب من الجماعة، إلا أنك لست جزءا منها، وتمتنع، بإرادتك، عن التمتع بفضائل الانتماء إليها، وتحرم من كل الامتيازات التي يتحصل عليها أعضاؤها المنتمون.

يقع المنفى على النقيض من وطن الإقامة الذي يمنح الشعور بالألفة «البيتوتية» مع الجماعة القومية أو الدينية أو القبلية أو غيرها. إلا أن المنفى الذي نتحدث عنه هنا ليس غربة مكانية عن وطن الإقامة، بل هو غربة تعاش داخل الوطن ولكنها «خارج الجماعة». إلا أن لهذا النوع من المنفى فضائل وامتيازات، فهو يسمح بالتحرر من ضغوط الجماعة والتزاماتها وذلّ المديونية إليها. صحيح أن الانتماء إلى الجماعة يمنح صاحبه شعورا بالأمان والطمأنينة والاستقرار، إلا أن الصحيح كذلك أن هذا الشعور ليس مجانيا، بل هو شعور مدفوع الثمن، والجماعات بارعة في تحصيل حقوقها من أفرادها بطرائق شتّى.

ينتقد الكتاب تلك الفرضية كثيرة التداول التي تقول إن العلاقة بين قوة الدولة وقوة الجماعات علاقة تناسب عكسي، فكلما قويت الدولة ضعفت الجماعات، والعكس صحيح. إلا أن الحاصل على خلاف هذه الفرضية، فالجماعات حين تضعف فإنها لا تنقرض، بل تزداد قسوة تجاه أي تقصير من قبل أفرادها. وقد كان نيتشه على حق حينما ربط قسوة الجماعة بضعفها، وتهاونها وتسامحها بقوتها، فـ «كلما ازدادت قوة الجماعة كلما نقص اهتمامها بتقصير أفرادها، ذلك أنهم لا يبدون لها خطرين على وجودها ولا مخربّين مثلما كانوا من قبل (...) وبمجرد ما يظهر فيها ضعف أو خطر محدق تظهر كذلك أشكال العقاب الصارمة. لقد كان «الدائن» دائما يتأنسن بقدر ما يغتني». وبما أن الدولة قد أضعفت من قوة الجماعات بشكل أو بآخر، فلن يكون من المستغرب أن تكشف هذه الجماعات عن وجهها المكفهرّ، بحيث تتعامل بقسوة تجاه أي تقصير من قبل أفرادها، كما تتعامل مع أي نقد قد يطالها على أنه خطر يهدد البقية الباقية من وجودها.

وفي الجهة الأخرى، لا يمثل الكتاب دفاعا عن الليبرالية أو عن الجماعية، بل هو دفاع عن حرية الاختيار ضد الليبرالية القمعية وضد الجماعية القمعية سواء بسواء. فمن حق المرء أن يختار العيش «داخل الجماعات» إذا كان يشعر أن هذا يمنحه الراحة والطمأنينة ومعنى لوجوده، ومن حقه كذلك أن يختار البقاء «خارج الجماعة»، ومن حقه تغيير هذا الانتماء بأن يعيش «داخل الجماعة» وخارجها في الوقت ذاته. فالعبرة هنا ليس في أن يكون المرء «فردانيا» أو «جماعيا»، ليس في أن يكون «خارج الجماعة» أو»خارج الجماعة»، بل في أن تكون للمرء حرية الاختيار لأن يعيش إنسانيته في غناها الكثيف الذي تنطوي عليه. ويقول المؤلف أن قضية الكتاب النهائية أن المرء قد يجد نفسه مضطرا للانخراط في صراعات قاسية من أجل انتزاع حرية الاختيار وانتزاع إنسانيته من محاولات الاختزال والتقليص والقولبة التي تمارس عليه.