رامبو: ظاهرة شعرية عصية على التفسير

سيرة بريطانية جديدة عن صاحب «المركب السكران»

دين لا دولة: علي عبد الرازق المؤلفة: سعاد تاج السر علي الناشر: مطبعة جامعة يوتا
TT

منذ وفاته في مستشفى مرسيليا عام 1891 عن سبعة وثلاثين عاما، اعتُرف بالشاعر الفرنسي أو «المراهق الرهيب»، آرثر رامبو رائدا للحداثة من قبل التعبيريين والدادائيين والسورياليين والوجوديين حتى الستينات من القرن الماضي حينما بلغ تأثيره الكبير على بوب ديلون، ووصفه جيم موريسون «بالمعلّم ».

إلى جانب تأثيره الشعري، كان رامبو نوعا من أسطورة، بطلا أسطوريا وجوديا، جوالا هائما، متمردا ضد كل شيء، حتى ضد عبقريته الشعرية. اللافت حول رامبو هو أن شعره الوحشي، الهلوسي الجميل كتبه جميعه قبل أن يبلغ الحادية والعشرين، وبعد ذلك أدار ظهره وبشكل حاسم للبوهيمية وعالم باريس ولندن الذي غذى مواهبه بالاقتصار على الشراب والحشيش «لا كلمات بعد الآن، إنني أدفن الميّت في بطني».

الروائي والببليوغرافي الأميركي أدموند وايت، الذي كتب في ما سبق سيرة حياة متمرد آخر هو جان جينيه، يعيد الآن سرد حكاية رامبو الفريدة «رامبو: الحياة المزدوجة لمتمرّد»، بأسلوب بسيط وشفاف. إنه يعيد كل ما تخمر من طيش الشباب بصفحات مركزة لا تتجاوز المائتين. وكان وايت قد عاش لفترة طويلة في باريس وتعرف على أجوائها الأدبية وما كان يحيط برامبو بالذات. وقد رسم ببليوغرافيته هذه مستعينا بمصادر اللغة الفرنسية والإنجليزية مثل ببليوغرافية جان جاكس ليفريه الصادرة عام 2001 في اللغة الفرنسية (1242 صفحة)، ومجموعة رسائل رامبو التي صدرت في الآونة الأخيرة وحررها ليفريه أيضا (1032 صفحة)، إضافة إلى ترجمات المؤلف الخاصة لأعمال رامبو الشعرية. تقريبا ثلث حجم الكتاب يغطي فقط السنوات الخمس من عمر رامبو القصير، وهي مرحلة ارتباطه بالشاعر الأكبر منه سنا باول فيرلين. وهذه العلاقة شكلت الأرضية الخصبة لتحدي رامبو الشعري، التي كتب خلالها «فصل في الجحيم» و«إشراقات»، لكنها كانت أيضا مرحلة السكر والعربدة والعنف السيكولوجي.

لعل رامبو كان أسوأ ضيف يحل على عائلة في التاريخ الأدبي. فقد كان «قليل الأدب بشكل مخز، ورائدا للسلوك البدائي». حينما ظهر في باريس قادما من الأقاليم في سبتمبر (أيلول) 1871، قبل أسبوع أو أسبوعين من عيد ميلاده السابع عشر، كانت استجابته لكرم مضيفه الشاعر باول فيرلين وزوجته بأن هجم والتهم جميع طعامهم، مجيبا عن أسئلتهم المهذبة من خلال أسنانه، مدخنا من غليون ملأ الغرفة بدخان نتن. وقبل التوجّه إلى النوم استهجنت العائلة عدم خلعه جزمته أو أن يغتسل أو حتى تغيير ملابسه. في الأيام التالية «أصبح الصبي رامبو، حقا، شخصا بغيضا». اقتحم رامبو حياة فيرلين كفتى ريفي من آردين حاملا معه مسودة عمله الشعري الشهير «المركب السكران». في حينها وصف صديق لفيرلين حالة رامبو قائلا: «ولد طويل، أخرق، عنيف جدا، ذو نظرة رجل عربي قاسية». أما فيرلين فقد كان مأخوذا ونشوانا بهذا «الصبي»، فهجر زوجته وطفله القاصر وانطلق مع رامبو إلى لندن. أقاما في منزل قذر في فيتسروفيا، في غرفة وصفها رامبو بأنها «مليئة بضوء نهار قذر وضوضاء العناكب»، وهي الآن القاعدة الكبيرة لبرج مكتب البريد، وفي ما بعد سكنا في منطقة كامدن تاون، في بيت صغير يقع في شارع رويال كوليج، وفي الآونة الأخيرة أنقذ هذا البيت من الهدم بسبب هذا الرابط الشهير. من هذا البيت نشرا إعلانا في صحيفة «ديلي تلغراف»: «سيّدان باريسيان يعرضان دروسا في الفرنسية واللاتينية».

العلاقة بين رامبو وفيرلين انتهت بحادث مروع، حيث أطلق فيرلين النار على رامبو، مسببا له جرحا في رسغه الأيسر. وعلى الرغم من إحجام رامبو عن توجيه التهمة إلى فيرلين، فإنه حكم على فيرلين بالسجن لمدة سنتين مع الأشغال الشاقة جراء القيام بعمل إجرامي. وبعد قطع العلاقة مع فيرلين والتخلي عن المجد الأدبي، عاش رامبو حياة تجوال وتنقل قاتمة ومنعزلة، عاملا كمحصل لسيرك في هامبورغ، وكشخص مطارد في قبرص، وكهارب من الجيش الهولندي في جاوا. غطى مسافات طويلة سائرا على قدميه:

* أنا المتسكّع على الطرق السريعة - عبر الغابات الصغيرة

* هسهسة مياه بوابات السدود - تغطي خطاي

* هذه «النزهات» كررها عند عودته إلى موطنه في آردين، ولكن عام 1880 تخلى عن أوروبا «للذهاب إلى المجهول». العقد الأخير من حياته أمضاه في عدن، على الجانب الجنوبي من الجزيرة العربية، وفي مدينة هراري في إثيوبيا. عمل تاجرا للبن والجلود والألبسة والعاج والتمور. وفي منتصف الثمانينات من القرن التاسع عشر أخذ يعمل في تهريب الأسلحة من ميناء طاجورة على البحر الأحمر إلى الأراضي النجديّة. عاد إلى فرنسا وهو يعاني من تنامي ورم في ساقه اليمنى، أدى في النهاية إلى بترها. أيامه الأخيرة من الألم والهذيان سجلتها شقيقته المحبّة إيزابيل.

من المؤكد أن هناك كثيرا من الإشارات المعروفة حول رامبو، لكنها، كما يعتقد الكاتب وايت، لم تستوعب أو لم تهضم جميعها بشكل جيد، مثل: شعره المؤثر والمبدع، رسائله المعبرة، اعتزاله المفاجئ، وكرهه لشعره وازدرائه له، وأقاويل وروايات معاصريه التي تصفه بالشاذ والسكير، ثم التاجر الناضج، الناجح والمحافظ والمثابر في عمله. كل هذه الخطوط، ربما لا يمكن أن تحتويها ببليوغرافيا لا تتعدى صفحاتها المائتين. لذا فقد جاءت موجزة، لكنها قاطعة ونقدية، تمزج الفعل مع التحليل، وتعرض كيف مارس رامبو حياة مزدوجة، متعددة الوجوه، وكيف اعتزل الحياة الأدبية لأكثر من خمسة عشر عاما. الكاتب أدموند وايت يرسم رامبو مرة ككاهن ساحر، ومرة كمدمن كحول ومخدرات، وأخرى كقديس كاثوليكي. ذات مرة قال الشاعر الإنجليزي ييتس، إن على الكاتب أن يختار بين الحياة أو التجارة، لكن «المراهق المعجزة»، المتمرد البدائي والمغامر الأفريقي آرثر رامبو اختار الاثنين. وعلى أية حال، مهما قيل في رامبو، فهو، من دون ريب، يبقى يشكل ظاهرة شعرية غير قابلة للتفسير، ليس فقط في الأدب الفرنسي، وإنما أيضا، في الأدب العالمي.