مسلسل «الانفصال» يهدد بأزمة عربية ـ تركية

بعد أن أدخلت عليه تعديلات لاسترضاء إسرائيل

مشهدان من مسلسل «الانفصال» («الشرق الاوسط»)
TT

مسلسل «الانفصال» التركي، لا يزال يهدد بمزيد من الضجيج والإساءة لعلاقات تركيا مع جيرانها. فالاعتراض الإسرائيلي على المسلسل يبدو أن تسويته قد تمت بتنازلات تركية حفظت ماء الوجه لكل الأطراف. لكن الحلقات المقبلة من هذا المسلسل المثير للجدل، لن تكون هينة على قلوب العرب والفلسطينيين على وجه التحديد، حسب ما يتسرب، مما يجعل الأعصاب في تركيا مشدودة والفضول متحفزا. فهل يخرب مسلسل «الانفصال» ما بنته حكومة «العدالة والتنمية»؟

يردد الأتراك هذه الأيام طرفة معروفة تقول إن أحد جنود الانكشارية الذي كان يستمع إلى قصة صلب اليهود للمسيح، غضب وخرج إلى الشارع يبحث عن أول إسرائيلي لينتقم منه وكان له ما أراد، حيث صادف أحدهم وأمسك به على الفور يتوعد ويستعد لقتله. اعترض الإسرائيلي وهو يتصبب عرقا من الخوف بأن لا علاقة له بالحادثة وأنها وقعت قبل أكثر من ألف عام، فلماذا يحاول الانتقام اليوم فكان جواب صاحبنا أنه سمع بما جرى لتوه وأن مرور الزمن لا يعنيه في شيء.

هذه الطرفة تلخص ملف الأزمة القائمة اليوم بين الأتراك والإسرائيليين والفلسطينيين بسبب مسلسل تلفزيوني موله وأعده الأتراك، لا نعرف كيف ستنتهي قصته لكن ملامحها الأخيرة توحي انها ستتحول إلى قصة حب تدور رحاها على هامش العمليات العسكرية الإسرائيلية ضد أهالي غزة المحتلة بين الشابة الفلسطينية الحسناء كوثر ورجل المخابرات الإسرائيلية ايتان.

ففيما كانت حكومة بنيامين نتنياهو الإسرائيلية تعد الخطط لمواجهة ابن جلدتها ريتشارد غولدستون الذي قاد عمل لجنة التحقيق الدولية في الحرب الإسرائيلية على غزة، وخرج بتقرير مطول يدينها بارتكاب جرائم مخلة بالقواعد والأعراف المتعامل بها دوليا ويطالب بإحالتها إلى مجلس الأمن، إذا لم تحقق هي على الفور بمجريات عدوانها على غزة، دخلت القناة الأولى في التلفزيون الرسمي التركي «تي ار تي» على الخط بمسلسل جديد تحت عنوان «الانفصال». المسلسل أزعج الإسرائيليين وأغضبهم في البداية إلى درجة استدعاء القائمة بالأعمال التركية في تل أبيب، لتقديم احتجاج دبلوماسي شديد اللهجة، يطالب بوقف عرض المسلسل على الفور.

ما قيل لنا حتى الآن هو أن «الانفصال: فلسطين بين الحب والحرب»، مسلسل سيعالج قصة حب تدور أحداثها على هامش عملية «الرصاص المسكوب» التي قادتها إسرائيل ضد الفلسطينيين في غزة. مسلسل أغضب تل أبيب أولا لأنه قدم مشاهد لجنود إسرائيليين وهم يطلقون النار بدم بارد على طفلة صغيرة في غزة فيردونها قتيلة. وأغضب إسرائيل ثانيا ـ كما تقول تل أبيب ـ لأنه يندرج ضمن مخطط التآمر عليها، ويخدم أهداف بعض «المحرضين بغطاء رسمي». والمقصود هنا طبعا حكومة العدالة والتنمية التي تطارد السياسة الإسرائيلية في أكثر من مكان، وتحول دون تحقيق إسرائيل لرغباتها ومطالبها السياسية، كما كان يحدث في السابق. وهي غاضبة أخيرا بسبب توقيت عرض المسلسل الذي جاء متزامنا مع إلغاء حكومة رجب طيب أردوغان، قبل أيام، مناورات «نسر الأناضول» الجوية المشتركة، فسارعت إسرائيل لعدم تفويت مثل هذه الفرصة، ولتكون أحداث المسلسل الذريعة التي تقودها لمحاسبة أنقرة، رغم معرفتها التامة بحجم تراجع شعبيتها في صفوف الأتراك بسبب سياستها التصعيدية في الأراضي الفلسطينية المحتلة.

لا بل إن الرد الإسرائيلي الانتقامي الذي أعقب الخطوة الأولى، وهو قرار الدعوة لمقاطعة القهوة التركية على المستوى العالمي وفي المؤسسات المقربة من اللوبي الإسرائيلي، لم يؤد إلى أي نتائج تدفع بتركيا إلى التراجع. لهذا رجحت كفة اللجوء إلى لعب ورقة وسائل الإعلام وكبار الشخصيات اليهودية النافذة في العالم للاستعانة بها في إطلاق حملة سياسية واسعة ضد حكومة أردوغان وسياستها الإقليمية، معلنين أن أنقرة بدأت تتخلى عن حيادها المعروف وتصر على قلب التوازن القائم في العلاقات بين إسرائيل والعرب لصالح الطرف العربي، وبشكل علني. لكن حكومة نتنياهو لم تكتف بذلك فسارعت لإصدار تعليماتها إلى قنصلها في إسطنبول موشي كمحي، التركي الأصل للدخول على الخط والدفاع عن الجيش الإسرائيلي المستهدف الأول في المسلسل، معلنا أن القوات الإسرائيلية هي التي تعطي الدروس للكثيرين، حول أخلاقية الحرب. فمن هو هذا الجيش الذي يتصل مباشرة بأصحاب المنازل لإعلامهم أنها ستفجرها، مطالبا بإخلائها قبل مهاجمتها؟

التطورات المتلاحقة على الأرض خصوصا اللقاءات والمواقف التركية والإسرائيلية الأخيرة التي شهدتها تل أبيب وأنقرة، تشير إلى تراجع في الموقف التركي، بدا واضحا، خلال تقديم الحلقة الثانية من المسلسل. فقد تدخل مقص الرقابة لمدة أكثر من 8 دقائق، وعمل على حذف بعض المشاهد التي تتعلق بالعمليات العسكرية التي نفذها الجيش الإسرائيلي في غزة.

ويبدو هنا أن قرارا بهذا الاتجاه أرادته إدارة القناة، وهذا ما أكده المنتج والمخرج على السواء، معلنين أن لا علاقة لهما بما جرى، فهو ترجيح المؤسسة التلفزيونية التي تعتبر صاحبة الحق والتصرف كما تشاء في الشرائط المسلمة إليها.

ما قيل لنا في بداية المواجهة بين أنقرة وتل أبيب حول أن مؤسسة التلفزيون التركية هي شركة مستقلة تختار برامجها ومواضيعها باستقلالية لا يتدخل أحد فيها، أعيد النظر فيه وبات يقال: إن التدخل ممكن عندما تكون مصلحة تركيا وأمنها هما بين المسائل المطروحة.

بعض المشرفين على المسلسل أعلنوا أن الخارجية الإسرائيلية التي تعترض اليوم على السيناريوهات والمشاهد سبق لها وصادقت على جميع صفحات النص المقدم إليها، لا بل إن شركات إسرائيلية ساعدت في تصوير المشاهد التي تم التقاطها في المسجد الأقصى وحائط المبكى، هذا إذا لم نرد التوقف مطولا أمام مسألة وجود شركة تمويل إسرائيلية معروفة بين الداعمين لهذا المشروع. المشرفون على المسلسل يحذرون اليوم من أن مقص الرقابة قد يعرض العمل والجهد المبذول للضياع. ومن هؤلاء لطفي شاه سوار أوغلو المشرف الفني على المسلسل الذي يقول إن التدخل في العمل مرفوض ومقص الرقابة سيضر بتكامل وفكرة المسلسل وترابطه ويدفعه للخروج عن غايته الأساسية.

من بين ما فعلته أنقرة أيضا لتليين المواقف، كان استعدادها لإصدار قرار تعيين أحد كبار شخصياتها الدبلوماسية أوغوز شليك كول الذي سبق وعمل في أكثر من عاصمة وأشرف على إدارة ومعالجة أكثر من أزمة بين تركيا وجيرانها خصوصا مع دمشق وبغداد وأثينا ليتولى ملف العلاقات المتأزمة بين تل أبيب وأنقرة، وإيصاله إلى بر الأمان. خبر مفاجئ آخر يؤكد تطرية الموقف التركي، جاء في نهاية المطاف، مع إدخال عبارة توضيحية، قررت المؤسسة إضافتها قبل عرض حلقات المسلسل تقول: «إن الأحداث والأشخاص في هذا العمل هي من محصول الخيال وأن شخصياته وأحداثه لا علاقة لها بالواقع».

يحاول بعض النقاد الأتراك، الإيحاء بأن وراء كل هذا الضجيج المفتعل رغبة القائمين على العمل منافسة مسلسل «وادي الذئاب» الذي يحتل المرتبة الأولى بين المسلسلات التركية منذ أكثر من 7 سنوات ولم يتمكن حتى الآن أي عمل تلفزيوني آخر من زعزعته، لكن مسار التطورات المتعلقة بالأزمة تشير إلى عكس ذلك، مع أن كل هذا الضجيج والأخذ والرد وفر لمسلسل «الانفصال» تحقيق بعض مبتغاه من خلال ارتفاع نسبة المشاهدين إلى الضعف في الأسبوع الثاني من العرض بالمقارنة مع الحلقة الأولى التي لم تحقق غايتها المرجوة.

تل أبيب أعلنت الهدنة على ما يبدو، بعد مقابلة سفيرها في أنقرة غابي ليفي لنائب رئيس الوزراء التركي بولند ارنش وخرج من اللقاء معلنا «أنه اقتنع بأن التدابير والإجراءات الضرورية تم اتخاذها». وفي كل هذا إشارة واضحة إلى أن إسرائيل لن تفرط بأنقرة بمثل هذه السهولة، وهي ستظل تطاردها وتلتصق بها رغم كل التصريحات الصادرة عن تل أبيب التي تتساءل: ما الذي سيكون عليه الموقف التركي لو فعلنا الشيء نفسه معها في الموضوع الكردي؟

الصحافي التركي والكاتب في جريدة «يني شفق» الإسلامية، هاقان البيرق الذي استشارته الشركة المنتجة في سيناريو الفيلم كان يقول «لتنظر إسرائيل في المرآة قبل التهجم على التلفزيون التركي وتنتقد المسلسل؟ أليست المعاناة اليومية لسكان الأراضي المحتلة هي الحقيقة عينها؟» واليوم عاد هاقان البيرق ليتخلى عن صمته، ويفجر علاقاته مع القائمين على العمل معلنا انسحابه، طالبا شطب اسمه من اللائحة الاستشارية، بعد بيان مطول دعا فيه المشاهدين لمقاطعة البرنامج بسبب الخروج عن المتفق عليه وإدخال تعديلات على السيناريو تتعارض مع الواقع الفلسطيني، كما الإساءة إلى صورة هذا الشعب ومعاناته.

ردة فعل البيرق تزامنت مع رسالة مطولة وقعها معين نعيم، باسم «لجنة مقاومة الحصار المفروض على غزة»، قدمها إلى القناة التلفزيونية يطالب بإلغاء عرض المسلسل، لما يتضمنه من مشاهد ومواقف تتعارض مع القيم والعادات والتقاليد الفلسطينية، وتتنافى مع الواقع ولا صحة لها، خصوصا لناحية تقديم المقاومة الفلسطينية في غزة وكأن كل همها هو الانتقام من الفتيات اللواتي يغبن عن منازلهن لساعات، لأنهن يقعن تحت الظن والشبهة. وكان البيرق قد رفض منذ البداية هذه المسائل في السيناريو داعيا للحذر والدقة في التعامل معها.

أمامنا المزيد من الحلقات قبل إطلاق الحكم النهائي، حيال هذا العمل الذي ترك الإسرائيليين والأتراك والفلسطينيين مرة أخرى وجها لوجه. وآخر ما يقوله لنا كاتب السيناريو والمخرج اللذان لا نعرف بعد كيف سيتلاعبان بنا جميعا في الأسابيع المقبلة، أن الحكاية تدور في فلك غرام بين الشابة الفلسطينية كوثر ورجل مخابرات إسرائيلي متزوج هو ايتان، الذي حماها أثناء محاولتها الفرار من غزة ووقع في غرامها على ما يبدو.

ويخشى بعد كل ما حصل أن يتسبب «الانفصال» في تباعد شعبي كبير بين الأتراك والعرب بالدرجة الأولى، بعدما أبعدت إسرائيل في هذه الآونة عن مسرح العمليات. والمطلوب إما إيقاف عرض المسلسل بسبب التناقضات والجهل الكبير في تحليل الأحداث والمعطيات على الأرض، أو تعديله ليكون مسلسلا يتابع ما بدأته حكومة العدالة من سياسة غنية بالمواقف، حصدت حتى الآن الكثير من الثمار على الأرض، على المستويات الشعبية والرسمية في العالم العربي.