ثمار الحرية الاقتصادية ليست دائما حلوة المذاق

«قطط وول ستريت» وليس الإرهاب هي التي تشكل التهديد الأكبر لحياة الأميركيين اليومية

TT

ديفيد راينولدز هو بروفسور للتاريخ العالمي في جامعة كامبريدج ومختص في التاريخ الأميركي. عنوان كتابه هذا «أميركا إمبراطورية الحرية» اقتبسه من تعبير لتوماس جيفرسون، ثالث رئيس للولايات المتحدة الأميركية وأحد الذين كتبوا إعلان الاستقلال. في هذا الكتاب يلقي راينولدز بنظره عبر الأطلنطي ليتناول بشكل شامل التاريخ السياسي والاجتماعي الأميركي منذ الأزمنة الغابرة، أي ما قبل العصور الكولومبية وحتى باراك أوباما.

يقول مؤلف هذا الكتاب، في جزئه الأول، إن الاعتقاد في الأفعال التي يحسب أنها عدائية، بأنها توسعية أو جائرة تصبح عند أمم أخرى مقبولة، إذا ما نظر إليها أناس لهم مصالح وأهداف عالية مثل أولئك اللذين يعتقدون في ما قاله جورج بوش عام 2004: «نحن لسنا قوة إمبريالية، نحن قوة تحررية». مثل هؤلاء الأميركيين تسكنهم أوهاما «جذابة» ولعلهم لا يعلمون بأنهم أنفسهم «قد أسسوا على قارتهم أكبر إمبراطورية في التاريخ». وعلى الرغم من إعجاب المؤلف بالمنجز الأميركي، فإنه لا يغفل أسطورة أميركا التاريخية، مسجلا إخفاقاتها ومشيرا إلى قسوتها وضراوتها. أميركا أقامت إمبراطورية غالبا من خلال الحرب «ضد فرنسا، وإسبانيا، وبريطانيا، ومكسيكو وقبل كل هذا ضد الهنود البائسين» الذين طردهم من بلدهم الأصلي القادمون البيض الجدد، كما إن أميركا اكتسبت مكانها بالقوة وذلك من خلال الهجرة نحو الغرب ومن خلال عملية الشراء: لويزيانا من فرنسا عام 1803 حينما كان نابليون يحتاج إلى عملة صعبة لتمويل عملية اجتياحه إنجلترا، نيومكسيكو وكاليفورنيا من المكسيك عام 1848 بقيمة (15) مليون دولار، وألاسكا من روسيا عام 1867 بقيمة (7.2) مليون دولار.

المهاجرون البيض لم يحتلوا بلدا غير مأهول، حيث الدلائل الآثارية تشير إلى وجود مجتمعات أهلية أميركية في القرن الحادي عشر تتألف من بنائين متقدمين، ولكن منذ القرن السابع عشر وما بعده، قام الأميركيون الجدد بقتل القدامى بالجملة، أولا بواسطة نشر الطاعون، ثم بواسطة حروب التوسع. ويسجل المؤلف راينولدز انتعاش المستعمر الذي وصل من الأقاصي في السبعينات من القرن الثامن عشر فيقول: «كان سعر الأرض من الرخص بحيث يمكن للمرء أن يشتري بأربعين أو خمسين جنيها إسترلينيا أرضا تساوي ألف جنيه إسترليني في بلده. الضرائب كانت قليلة جدا أو تكاد تكون معدومة في ذلك الوقت. الطقس بشكل عام صحي... لم يكن هناك لوردات من حملة الأسماء لكي يضطهدوا من هم أدنى منزلة. الرجال كانوا أعلى مستوى، قياسا مع قابلياتهم، مما هم عليه في أسكوتلندا».

لكن الذي يغاير هذه الصورة هي شهادة مواطن اسمه جون روس، ثبتها المؤلف في كتابه، وهو من السكان الذين اتجه قومه غربا عبر الميسيسيبي أواخر الثلاثينات من القرن التاسع عشر، والذين ماتوا بالمئات لكي يفسحوا الطريق أمام المستوطنين المتعطشين للأرض. يقول روس: «منذ ذلك الحين الذي وصل فيه الرجل الأبيض، بدأنا نشرب من كأس الذل المرة، وعوملنا كالكلاب. حياتنا، حريتنا، بلادنا وقبور أجدادنا، كلها سلبت منا». كان لدى المستوطنين حشدا هائلا من السود المكبلين. وداخل أميركا، كان كل من جورج واشنطن وتوماس جيفرسون يملك عبيدا يقدر عددهم بنحو 700 ألف من مجموع ثلاثة ملايين وتسعمائة ألف شخص هم سكان الولايات الجديدة عام 1790. إن الأزمة الأكثر تكلفة في تاريخ الأمة الأميركية، كما يرى المؤلف، كانت الحرب الأهلية التي نشبت في الستينات من القرن التاسع عشر حول موضوع العبودية، حيث قتل فيها من البشر أكثر مما قتل في الحربين العالميتين اللتين اندلعتا في القرن العشرين. والآن، وبعد مرور قرن من الزمان على خوض غمار حرب من أجل الحقوق المدنية لجعل الأميركيين السود فعلا يشعرون بالحرية وإلغاء التمييز العنصري، لا بد من تذكر الرجل التكساسي الذي جعل من حرية الأميركيين السود واقعا حقيقيا.

ومع ذلك، يعتقد المؤلف أن الأميركيين البيض في الثلاثينات من القرن التاسع عشر كانوا أكثر تحررا وانعتاقا من أية أمة أوروبية، وكانت هناك كراهية متنامية ـ على الأقل في الشمال ـ لممارسة العبودية. إن هذا الهيجان الأخلاقي إنتشر بقوة أثناء الحرب الكبرى بين الشمال والجنوب 1861 ـ 1865. أما خلال القرن العشرين، فقد اكتسبت لغة الحرية القديمة هذه، مفردات جديدة مثل الحقوق المدنية، حقوق السود، حقوق الشواذ..إلخ. وباسم الحقوق المدنية، تدخلت الحكومة الفيدرالية المسيطرة على الشمال لتكملة الأعمال التي لم تنجزها الحرب الأهلية، وذلك بإجبار الولايات الجنوبية على إنهاء التمييز العنصري القانوني، ومنح حرية التصويت للمتحدرين من سلالة العبيد. ويطرح المؤلف قضية الإيمان الذي اشتهر به الأميركيون بقوله: «على الرغم من دستور البلاد الذي ينص على فصل الدين عن الدولة، فإن الإيمان تشكل بقوة في التاريخ الأميركي وفي عقيدة الناس أنفسهم». ويشير راينولدز إلى الانبعاثات البروتستانتية المتعاقبة التي سادت أميركا منذ الأربعينات من القرن الثامن عشر. إذن فإن البروتستانتية الأميركية كان لها تأثير بعيد يمتد خلف عالم المعتقد والوعي. وقد منح هذا التأثير البروتستانتية الأميركية، في القرن التاسع عشر، روح الجماعة الديمقراطية المتميزة، وبذا مارست بشكل مهيمن، كقوة للتغيير والتحرير، خاصة في ما يتعلق بموضوع العبودية.

ولكن، في القرن العشرين أنتجت النظرة البروتستانتية الثنائية للعالم تركة ساعدت على توضيح ردود فعل أميركا إزاء تحديات العصر الكبرى، وكذلك في توضيح، لماذا، بالنسبة لمعظم الأميركيين، كانت سياسة الاحتواء والانفراج، دائما الخيار الثاني والأفضل في الصراع مع روسيا السوفياتية خلال الحرب الباردة، ولماذا، بعد الحادي عشر من سبتمبر (أيلول)، استطاعت إدارة بوش ـ لفترة من الزمن ـ أن تعيد «تغليف» سياسة أميركا الخارجية كصراع جهنمي لما أطلقت عليه «إنقاذ العالم».

وعلى صعيد الحريات الشخصية، يمكن القول إن الفترة المكارثية قد شكلت في بداية عقد الخمسينات من القرن الماضي بقعة سوداء في تاريخ الولايات المتحدة الأميركية. والمكارثية هي نزعة سياسية أميركية تتسم باصطناع العنف في مقاومة العناصر التي تعتبرها الدولة هدامة، وبشن حملات التشهير على الأفراد والشخصيات من غير تحرٍ أو تحقيق. والمكارثية مارست إرهابا فكريا مشينا، يتناقض ومبادئ ودستور أميركا الذي يحترم حرية الأفراد ومعتقداتهم. وهذا الإرهاب يتمثل في رفض الرأي الآخر وتصوره على أنه معادٍ للقيم الأميركية. المكارثية ظهرت في عهد الرئيس ترومان الذي تم خلال فترة رئاسته ضرب هيروشيما وناغازاكي اليابانيتين بالقنابل الذرية في أغسطس (آب) 1945. ينسب هذا الفكر اليميني المتشدد إلى السناتور المتعصب جوزيف مكارثي الذي انتخب عضوا في مجلس الشيوخ الأميركي عام 1946. وركزت لجنة مكارثي على شخصيات مثقفة، بل ومبدعة في عالم الفن مثل شارلي شابلن والمخرج الأميركي مارتن رايت والمخرج إيليا كازان الذي تعرض لإرهاب وضغوط أعضاء اللجنة وأجبروه على أن يبلغهم عن أسماء فنانين يساريين. وكذلك الكاتب آرثر ميلر الذي رفض أن يكشف عن أسماء أصدقائه الذين كان يشتبه بهم وسجنوه بتهمة ازدراء اللجنة. يومها قال ميلر كلمته الشهيرة «أرفض أن يكون الفرد واشيا ليمارس عمله بحرية في أميركا».

وفي ما يتعلق بالجانب الاقتصادي، كان التزام أميركا بسياسة عدم التدخل قد عزز من نهوضها في السيطرة الصناعية والاقتصادية خلال القرن التاسع عشر. ولكن حتى هنا، فإن «ثمار الحرية الاقتصادية ليست دائما حلوة المذاق»، ويرى راينولدز أنه قد أسيء إلى هذه الحرية إساءة بالغة، وذلك من خلال القطاع البنكي في العقد الأخير. الأميركيون عام 2009 لهم الحق في أن يسألوا «إن كان الإرهاب أم قطط وول ستريت السمان هي التي شكلت التهديد الكبير لحياتهم اليومية؟».

يتميز كتاب راينولدز بطرحه موضوعات سياسية كبرى، تناولها بشكل مسهب، لكنه أيضا يعرض موضوعات أخرى بصورة مقتضبة، على سبيل المثال؛ الكساد الأميركي في التسعينات من القرن التاسع عشر، الذي أحدث موجة من الخوف والهلع بين صفوف المهاجرين. كما استطاع المؤلف أن ينقل موضوعه بشكل متسلسل إلى حرب العراق وحتى مجيء أوباما. الصحافة أيضا أخذت قسطها من الموضوع في صفحات الكتاب الأخيرة. ومثل كثير من المؤرخين، حاول راينولدز أن يبسط التاريخ ويضعه في متناول الجميع سواء كانوا من العامة أو من الدارسين الأكاديميين.