هل بات التطبيع الثقافي مع إسرائيل ممكنا؟

ليست مجرد ترجمة ديوان للعبرية

TT

هل بات التطبيع الثقافي مقبولا في مصر، أو لدى بعض المثقفين المصريين؟ وكيف يمكن لنا أن نفهم التأييد الذي لقيته الشاعرة إيمان مرسال، بعد موافقتها على نشر ديوانها «جغرافيا بديلة» باللغة العبرية؟ موقف شبيه بما فعلته مرسال، كان يقابل بمقاطعة الأديب ومهاجمته ورجمه بأقسى النعوت. لماذا تفهّم كثيرون خيار الشاعرة مرسال؟ هل السبب علاقاتها الشخصية، أم تبدل جذري في المواقف من العلاقة مع الدولة العبرية؟

الضجة التي أثارتها إيمان مرسال بموافقتها على ترجمة ديوانها «جغرافيا بديلة» إلى العبرية ستهدأ مثلما حدث مع قضايا أخرى وطأتها الذاكرة، غير أن الشرخ الذي أحدثته سيظل باقيا، لأنها المرة الأولى التي تشهد فيها الحياة الثقافية المصرية ظهور آراء غير معتادة. فالبعض لم ير في ما فعلته إيمان خطأ، وآخرون رفضوا ما فعلته لكنهم يحترمون خيارها الفردي!

أعاد ديوان مرسال إذن ترسيم الحدود الجغرافية لمواقف المثقفين المصريين وقدم حدودا جديدة ساعدت في رسمها أطراف عديدة. إيمان نفسها اختارت ما فعلته بوعي كامل، ووقف عدد من شباب الصحافيين والأدباء ليدافعوا عنها بشراسة، حتى وصل الأمر إلى تكييف حوارات بالكامل تأسيسا على بيان لها نشرته في «أخبار الأدب» تحت عنوان: «لا أعتذر عما لم أفعل». قبل نشر المقال تم اشتقاق الأسئلة منه ليعاد تصدير الأجوبة إلى الشاعرة الشابة فترد عليها في النهاية وتصبح كلمة الفصل لها. بدا هذا بوضوح في حوار مع الدكتور جابر عصفور «مدير المركز القومي للترجمة» ونشر قبل صفحة من مقال إيمان الذي اختتم ملفا يطالب بإعادة تعريف مفهوم التطبيع! مضى الملف كله يناصر إيمان بطريقة مباشرة أو غير مباشرة إلا مقالا واحدا للدكتورة رضوى عاشور أكدت فيه على أهمية المقاطعة ومقاومة التطبيع لأنه: «من المخزي أن يتراجع بعض المثقفين العرب أو تختلط عليهم الأمور في وقت أصبحت فيه القضية واضحة تماما لكل ذي ضمير، عربيا كان أو غير عربي». بخلاف هذا المقال تم استحضار حزمة من القضايا المرتبطة بالتطبيع والمقارنة بينها في محاولة لتذويب ما فعلته مرسال بداخلها، وبحيث يبدو فعلها أقل وطأة. وهو خلط للأوراق يهدف إلى تحسين صورتها التي ترى هي نفسها أنها لم تفعل ما يشوهها. في العدد الذي سبق نشر الملف، أشار عزت القمحاوي، مدير تحرير «أخبار الأدب» إلى أن هناك موقفين يؤيدان الشاعرة كليا أو جزئيا انطلاقا من علاقات الصداقة: «هذا الموقف يجمع فريقا من أصدقاء الشاعرة التي تتمتع بعلاقات جيدة مع الكثير من الكاتبات والكتاب من جيلها أو خارجه». الأمر إذن يهمش القضية الكبرى من أجل علاقات شخصية، وهو ما يجعلنا مواجهين بحالة مراهقة في وجهات النظر لا تختلف كثيرا عن قضية أخرى ثارت قبل سنوات. فعندما ثبت تهرب المغني تامر حسني من الجندية حاول عدد من المراهقين التأثير على سير المحاكمة بتنظيم مظاهرات لا تطلب التسامح معه، بل تتساءل: وماذا فعل ليحاكم؟!! وهو أمر رأى الكثيرون وقتها أنه يضرب الانتماء في مقتل. حالة تامر لا تختلف عن حالة إيمان، غير أن خطورة الحالة الأخيرة أكبر بكثير. فمراهقو الفن لم يمنعوا حبس تامر حسني بينما نجح مراهقو الثقافة في تمييع القضية، وأن يفرضوا خطابا جديدا لم يكن متداولا في الساحة الثقافية المصرية، بعد أن خلطوا الأوراق. والنتيجة غياب المناقشة الموضوعية.

وسط هذا الجدل جددت «ورشة الزيتون» الكلام حول قضية التطبيع، وبطبيعة الحال كان موضوع إيمان مرسال حاضرا. ناقشت الندوة موضوعات عديدة تدور في فلك التطبيع غير أن جملة قالها مدير الندوة الشاعر شعبان يوسف اختزلت الموقف كله: «معظم المثقفين لم يدينوا ترجمة ديوان إيمان». سألناه عما يعني فأشار إلى وجود حالة تراخ شديد في التعامل مع القضية. وأضاف أن هناك مواضيع ليست من حقوق الإنسان وهي الثوابت الوطنية. ما هي أسباب التراخي في التعامل مع حالة مرسال تحديدا؟ يجيب: «علاقاتها الوطيدة بالكثيرين الذين يحاولون أن يظهروها بريئة رغم أنها ليست كذلك». ويقول شعبان: «بعد هذه الأزمة عرفت لماذا كانت إيمان تناضل من أجل اقتران اسمها بترجمة رواية وجيه غالي «بيرة في صالة البلياردو». بطل الرواية، كان يحب فتاة يهودية ويبدو متعاطفا مع اليهود المصريين. لقد كانت تحاول مغازلة اليهود بشكل ما». ألا تعتقد أن تحليلك هذا يقوم على نوع من التجني؟ يعلق شعبان: «لا ليس تجنيا. لقد توقفت كثيرا أمام قصيدة تضمنها الديوان المترجم وعنوانها «دكتور ليفي» تدور حول يهودي ترك إسرائيل لأسباب أخلاقية، وتتحدث عن اليهودي التائه في العالم. إن إيمان شاعرة رغم أنف الجميع، وهي بديوانها هذا تحاول رسم جغرافيا بديلة بالفعل، حيث إن لها حواريين وأتباعا. وهي منذ بدايتها تحاول خرق التابوهات وتؤثر في هؤلاء الأتباع بالتأكيد. غير أن خرق التابو تخطى كل الحدود هذه المرة». كلمات شعبان لا تخلو من انفعال، وتحتاج إلى مراجعة، خاصة أن اكتشافه لمحتوى القصيدة جاء في أعقاب موافقتها على الترجمة. لقد سبق أن ناقش الديوان نفسه في «ورشة الزيتون» حسبما يؤكد، فلماذا لم تستوقفه القصيدة في ذلك الوقت؟

التباس

تشرف الناقدة عبلة الرويني على صفحة ثقافية في «جريدة الأخبار». نشرت الصفحة موضوعا تضمن آراء أدباء شباب رفضوا فيه ما حدث. وفي العدد ذاته نشرت مقالا ربطت فيه القضية بحزمة أخرى من القضايا المرتبطة بالتطبيع، مؤكدة أن هناك تراجعات عديدة ليس من إيمان وحدها بل من كتاب كبار آخرين لم يروا غضاضة في حضور حفل لموسيقار إسرائيلي في الأوبرا والجلوس معه على مائدة واحدة في حفل عشاء. لكن الجملة اللافتة في مقالها كانت: «يزعجني أكثر ألا يثير ذلك غضبا وسؤالا حقيقيا»، تقصد واقعة الموافقة على الترجمة. ورغم انزعاجها فإن الرويني ـ عند توجهنا لها بالسؤال ـ قالت إن: «واقعة الترجمة ملتبسة، والموقف يختلف في حالة زيارة أهداف سويف لإسرائيل مثلا أو زيارة رؤوف مسعد، أما الترجمة فتظل فعلا ثقافيا ومن هنا ينشأ الالتباس». وتضيف: لأن «المكسب من ترجمة الديوان ليس ثقافيا فهناك لغات أخرى أكثر قراءة من العبرية، لهذا أرى أن المكسب سياسي».

تشير الرويني إلى أن موقفها لا يتضمن موافقة بقدر ما يعتمد على تفهم: «لست مع فكرة أنها تغازل الإسرائيليين للوصول إلى العالمية، كل ما في الأمر أنها لا تجد مشكلة في الترجمة لأي لغة. ومن هنا ينشأ الالتباس». وتتحدث عن مفهوم الانزعاج فتشير إلى أنه ليس مرتبطا بفعل إيمان فقط بل في كون الترجمة من وإلى العبرية والزيارات أصبحت أمرا طبيعيا. فالتراجعات ليست عند الشباب فقط: «هناك تحولات حدثت في وعي المثقف المصري، خلخلت الاتفاق العام حول التطبيع وغيبت معناه». بمناسبة الموقف العام، في الماضي كان من يمارس فعلا تطبيعيا ينبذ، حتى أن المثقفين كانوا يتحاشون السلام عليه. إذا قابلتِ إيمان مرسال الآن ـ نقول لعبلة الرويني ـ ماذا ستفعلين؟ سؤال ترد عليه بسرعة: «سأسلم عليها، إنها قناعتها وهي لا تمارس فعلا سياسيا، إن فعلها ناتج عن قصور. هناك فارق بينها وبين آخرين تماما مثل الفارق بين من يقتل مع سبق الإصرار والترصد ومن يقتل بالخطأ»!!

* فاصل قصير

* عندما بدأت القضية تشتعل أرسلتُ لإيمان عددا من الأسئلة عبر بريدها الإلكتروني ولم تجب. قبل عامين كنت أعد تحقيقا عن رواية وجيه غالي التي أشار إليها شعبان يوسف. أرسلت لها الأسئلة وفي اليوم نفسه وصلتني الإجابات من كندا. الأمر اختلف هذه المرة. ويبدو أن إيمان اكتفت ببيانها الذي نشرته في «أخبار الأدب» على هيئة مقال ورد فيه: «هل يمكن أن يوجد حوار بين من يعاملون «التطبيع» كعقيدة دينية، بينما كل مواقفهم الأخرى من الحكومات العربية الديكتاتورية ومن القمع للإثنيات العرقية والأديان وحرية التعبير لا تقل عنصرية عن الفكرة الدينية التي قامت عليها دولة إسرائيل؟ هل يمكن أن يقوم حوار مع من يرون أنه ليست هناك قضية وأن إسرائيل دولة ديمقراطية أو أنها قطعة من أوروبا ويبشرون بذلك مجهضين الأصوات المعارضة حول العالم والأصوات التي تتحدث عن تشريد وتجويع وقمع الشعب الفلسطيني في إسرائيل نفسها؟ هل كل حوار مع الكسالى من الاتجاه الأول وفاقدي الأمل من الاتجاه الثاني هو أشبه بمعركة صوتية يصرخ فيها كل طرف في البرية حيث لا توجد أرض ولا لغة مشتركة؟ بالطبع توجد أرضية أكثر تعددا? ?وقابلية للحوار من هذين الجانبين».

* خيار فردي

* أثناء مناقشة القضية على صفحات الصحف، أكد مبدعون شباب أنهم يرفضون ترجمة أعمالهم للعبرية لكنهم يحترمون موقف إيمان باعتباره خيارا فرديا، من بين هؤلاء الروائية منصورة عز الدين. اتفقنا مع منصورة على سؤالين تتم الإجابة عليهما عبر البريد الإلكتروني، لأنها رأت أن القضية حساسة وتستدعي تركيزا ودقة. وجاء الكلام على النحو التالي: «أحترم خيار إيمان مرسال. وأرى أن اللغط الدائر حول الموضوع بلا معنى. الجميع الآن يخوّن الجميع ويزايد عليه. وفي مصر من الصعب أن تجد حوارا عقلانيا حول موضوع ما، سواء كان تافها أو خطيرا. لو راقبنا ما يحدث سنجد أن «الحوارات» الدائرة كلها أقرب إلى مونولوجات صاخبة يصم كل طرف فيها آذانه عن الاستماع لآراء الآخرين».

وتضيف عز الدين: «إيمان شاعرة مهمة ومثقفة عصامية كونت نفسها بمثابرة ودأب، ودفعت ثمن خياراتها الشخصية، وأرى أنه من المضحك أن يسحب البعض اعترافهم بها كشاعرة لأسباب خارجة عن الشعر. بالمناسبة أنا لا أدافع عنها، فهي قادرة تماما على الدفاع عن نفسها، إنما فقط أدافع عن قيمة الفردية. فرديتي وفردية الآخرين في مواجهة مجتمع ضاغط وقاهر. أعلنت منذ البداية أنني ضد أن تترجم أعمالي إلى العبرية. ورفضي ربما يرجع لأسباب نفسية في الأساس أو ربما أن سؤال الترجمة للعبرية ليس من الأسئلة التي تشغل معظم الكتاب العرب في ظني».

وفقا لكلامك هل يمكن اعتبار التعامل مع الإسرائيليين ولو على مستوى الترجمة خيارا شخصيا يمكن تقبله؟ سؤال ترد عليه منصورة قائلة: «كل شيء وأي شيء هو خيار شخصي علينا مناقشته بطريقة حضارية بعيدا عن الهستيريا وتصفية الحسابات. علينا أيضا أن نناقش موضوع إيمان مرسال في حدوده دون خلط الأوراق ببعضها. ففكرة «التعامل مع الإسرائيليين» واسعة وتساوي بين جاسوس أو خائن، وبين شاعرة قالت: «من حق أي لغة أن تترجم ما تريده من اللغات الأخرى».

«مشكلتنا طوال عقود أننا وضعنا عددا من التابوهات المتوارثة التي لم نتناقش حولها ولم نطرحها للمساءلة. فيما يخص فلسطين نجد أن هناك من يصر على تحويل فلسطين إلى فكرة مطلقة أو أرض مقدسة، مع تجاهل مأساة الفلسطينيين أنفسهم كبشر يتعرضون لأسوأ أنواع الاحتلال.القضية كلها إشكالية، ومن الصعب البت برأي قاطع، لكن وبالرغم من كل اللغط الدائر، هناك بدايات لمحاولة إدارة نقاش عقلاني حول معنى التطبيع وحدوده ثوابته ومتغيراته».