المسجد الأقصى.. وإصلاحات صلاح الدين

استمد أصوله من بعض الأنماط السابقة للإسلام

صورة جانبية للمسجد الاقصى
TT

تعد قبة الصخرة والمسجد الأقصى كما جاء في «وقائع الندوة العالمية حول الآثار الفلسطينية» من أهم العمائر العربية الإسلامية في القدس، لكونهما من أقدم الأبنية التي لا تزال تحتفظ بعناصر فنية معمارية متميزة، ترجع إلى عهد البناء الأول التي لعبت دورا بارزا في بلورة الطراز العربي الإسلامي.

كانت رحلة الإسراء والمعراج، وما ورد فيها من آيات القرآن الكريم والأحاديث النبوية بداية اهتمام المسلمين بهذه البقعة التاريخية، ثم كانت الخطوة الثانية حينما حرر العرب المسلمون القدس من أيدي الروم البيزنطيين وحضر أمير المؤمنين عمر بن الخطاب بنفسه ليشهد الفتح ويزور الصخرة الشريفة ويعنى بها على أنها غدت جزءا من تراث الإسلام والمسلمين، ومن أكثره قدسية، وقبل أن يغادر بيت المقدس أمر بإقامة مسجد للمسلمين عليها.

وما نعرفه عن مسجد عمر، لا يتعدى ذلك الوصف البسيط، الذي قدمه لنا الأسقف الفرنسي أركولف الذي زار فلسطين سنة 670م، ويقول فيه: «إنه بناء مربع مبني من اللبن والخشب»، كما ذكر أركولف أنه عاش في زمن الخليفة معاوية ملك المسلمين، وقد أقام أركولف في القدس تسعة شهور، كان في أثنائها يقوم بجولات في المناطق المجاورة، ويذكر أن سور القدس كان يضم أربعة وثمانين برجا وست بوّابات، ويقول إن جماهير غفيرة من المسلمين، من مختلف الأمم، تجتمع في القدس يوم الخامس عشر من سبتمبر (أيلول) من كل سنة لشراء البضائع التجارية أو بيعها.

ويذكر الطبري في «تاريخ الرسل والملوك» أن مسجد عمر قد أعيد بناؤه في العصر الأموي. فقد شيد الخليفة الأموي، عبد الملك بن مروان، المسجدين الهامين (الأقصى وقبة الصخرة)، وهذا ما أجمعت عليه أكثر الروايات التاريخية، والكتابة التاريخية التي لا تزال في أعلى قناطر مسجد الصخرة مكتوبة بالفسيفساء بالخط الكوفي وتتضمن تاريخ الإنشاء من عام 72 للهجرة، واسم عبد الملك الذي دخله التحريف ليوضع مكانه اسم المأمون.

ومن المؤرخين من ينسب أعمال البناء إلى الوليد بن عبد الملك، والأرجح أنه أجري تخطيط المسجدين والقيام بأعمال البناء في أيام عبد الملك، واستكملت الزخارف والرخام والفسيفساء في عهد الوليد، فقد عثر على بردية في مصر، تتضمن أمر الوليد لعامله، قرة بن شريك، بإرسال العمال إلى بيت المقدس للإسهام في أعمال البناء في المسجد الأقصى وقصر الإمارة. ويقع المسجد الأقصى على محور قبة الصخرة باتجاه الجنوب وبمحاذاة السور الجنوبي للحرم، وهو يتصف بميزات وخصائص معمارية وفنية نادرة الشيوع في المساجد الإسلامية، يرجع معظمها إلى العهد الأموي، وقد وصفه المقدسي بأنه كان أحسن من مسجد دمشق قبل انهدامه، وهو يخلو من الصحن أو الفناء الداخلي المكشوف، وامتاز بعدم توسط محرابه لجدار القبلة، ومن المستبعد أن يكون للأقصى الأموي قبة، كالموجودة حاليا، ولكن غناه بالزخرفة المكونة من الكسوة الرخامية والفسيفساء الزجاجية، على شاكلة مسجد دمشق وقبة الصخرة أمر لا شك فيه. وتقول الروايات إن المسجد تهدم في زلزال عام 130 هجرية، وأمر أبو جعفر المنصور بترميمه، ثم تعرض لزلزال آخر في عام 158 فأمر المهدي بإعادة بنائه، واستحدث في سنة 163 هجرية توسيعا في البلاطة الوسطى، بعد الاستغناء عن صف من الدعامات الذي كان يتوسط بيت الصلاة وغطاها بسقف جملوني ضخم يعلوه منور لإدخال الضوء وقبة خشبية مزدوجة مغلقة لصفائح الرصاص من الخارج ومزينة بالجبس من الداخل، وقد حوفظ على هذا الشكل بوساطة سلسلة من المساند (أو الكوابيل البارزة ترتكز عليها عضادات السقف الجملوني).

إن المسجد الأقصى يمثل من حيث التصميم والعناصر المعمارية والفنية نمطا جديدا في العمارة العربية الإسلامية، استمد أصوله من الأذواق العربية ومن بعض الأنماط السابقة للإسلام، ولكن المعمار الفنان لم يقف عند حد الاقتباس، بل جاوزه إلى التحوير والابتكار والتطوير، معتمدا على ذوقه وخياله، مراعيا النواحي الدينية والمناخية والهندسية والجمالية، مما أدى إلى ظهور طراز جديد في فن العمارة، هو الطراز العربي الإسلامي، الذي بدأ مع نهاية القرن الأول الهجري، السابع الميلادي.

إن غالبية الأبنية الحالية في المسجد الأقصى هي من أعمال الملك المعظم عيسى، ابن الملك العادل أخي صلاح الدين، وكان صلاح الدين قد أمر بتجديده وزخرفته بالفسيفساء وذلك بعد فتحه بيت المقدس في 27 رجب 583، بعد ثلاثة أشهر من موقعة حطين، قام بإزالة آثار الفرنج، وإجراء الإصلاحات الضرورية، وأمر بصنع منبر له، ولكنه علم بمنبر فخم كان قد صنع بأمر من الملك العادل نور الدين بن زنكي الشهير بـ«الشهيد»، وكان الفنانون المهرة من أبناء حلب قد أنجزوه على أروع مثال، في عام 564 هجرية، واستمر بناؤه عاما كاملا، فأمر بإحضاره وإقامته في المسجد، ويبدو على جانبه عبارات تتعلق بمنشئه وصانعيه وتاريخ الصنع، وقد صلى صلاح الدين في المسجد الأقصى وخطب منه الناس.

استعمل الصناع لبناء المنبر الخشب المأخوذ من أشجار السرو الروماني، الذي كان ينتشر بكثرة في البساتين المحيطة بحلب، واستخدمت له دهانات مصنوعة من الصباغات المحلية المعجونة بصمغة الفستق الحلبي وماء الذهب، لطلاء التاج والأقسام المذهّبة، كما استورد له خشب الأبنوس لملء الزخارف الهندسية بالحشوات، وجلب العاج من أفريقيا وبلاد الهند لصنع لوحات رقيقة تنزّل فوق الحشوات، وتتميّز صناعة المنبر بانعدام المسامير فيه، ويجمع إلى بعضه بطريقة التعشيق، وزخرف المنبر القدسي في نوعين من الخطوط (النسخ والكوفي) كتبت فيها بعض الآيات القرآنية ولفظ الجلالة وسيرة الملك العادل.

حينما أمر الملك العادل بصناعة المنبر، كان ذلك من أجل وضعه في المدرسة الحلاوية، وبعد أن انتهت صناعته فيها أودع في باحتها، ثم حصل حريق في الجامع الأموي الكبير بحلب، وأتى الحريق على منبره، فأمر السلطان بنقل المنبر إلى هذا الجامع، ليقوم بوظيفته، وكلف الصناع بعمل منبر توأم خاص بالجامع، أتمه ثم أقامه في الطرف الثاني من محراب القبلة، وحين تم الفتح على يد صلاح الدين، أمر بنقل المنبر إلى المسجد الأقصى، وقد ظل المحراب يزين المسجد كأحسن منابر الإسلام، ويحمل إصلاحات صلاح الدين والكتابة التي تؤرخ للفتح، إلى أن أحرقه الصهاينة في حادث إحراق الأقصى المشهور 21 أغسطس (آب) عام 1969.

وفي أغسطس من عام 1974، أطلق سعد زغلول كواكبي، في حفل افتتاح قاعة العرش بقلعة حلب، نداء لإعادة بناء المنبر على شاكلة سابقيه، وفي المكان ذاته، على أن ينقل إلى الأقصى يوم الفتح، وشكلت لجنة خاصة من لجان الجمعية، وضعت الخطوط العامة وأسماء الصناع والفنانين، وبقي الأمر حبرا على ورق.