المسلسلات أقصر الطرق للترويج السياحي

«ضيعة ضايعة» صنع ما تعجز عنه مئات الإعلانات

TT

مسلسل «ضيعة ضايعة» استطاع أن يخرج قرية السمراء السورية الحدودية مع تركيا من غياهب النسيان والإهمال ويحولها كما كل المنطقة المحيطة بها إلى وجهة سياحية. وهذه ليست المرة الأولى التي يتسبب فيها نجاح مسلسل تلفزيوني بتغيير أقدار البشر والمناطق، ويفتح أبواب الرزق لأناس كانوا خارج دائرة الاهتمام. لقد سبق لأعمال كثيرة أن قلبت حياة أحياء بأكملها، لكن «ضيعة ضايعة» بما له من خصوصية، جعل سكان المنطقة، التي اختارها للتصوير، نجوما وبيوتهم مجلبة للرزق، وحيواناتهم لها وظائف ثمينة، ومنتوجاتهم المحلية موضع اهتمام. تحقيق لـ«الشرق الأوسط» في قرية السمراء، يلقي الضوء على ما آل إليه حال ناسها في حياتهم الجديدة.

حياة ماريا (أم يعقوب) قبل تصوير المسلسل الكوميدي المتميز «ضيعة ضايعة» ليست هي ذاتها بعد تصويره وعرضه، الذي ما زال مستمرا منذ أكثر من عامين على القنوات الفضائية العربية. حياة أم يعقوب انقلبت رأسا على عقب. ومع أنها لم تظهر على الشاشة ضمن أبطال العمل، لكنها نالت نصيبا كبيرا من النجاح والشهرة الواسعتين اللتين حققهما المسلسل. وبمعنى أدق، ليست هي من نال ذلك، وإنما (منزلها) الريفي البسيط، الذي كان له دور البطولة، فتحول إلى محجة يؤمها السياح من كل حدب وصوب.

مسلسل «ضيعة ضايعة» كتبه ممدوح حمادة، وأخرجه الليث حجو، يحكي قصة قرية على الساحل السوري، ما زالت تعيش خارج عصر التكنولوجيا، ومهمومة بنفسها مثل كثير من القرى المنسية في عالمنا العربي. ويمكن القول إن هذا العمل اكتملت أو كادت أن تكتمل فيه كافة العناصر الفنية والفكرية ليكون واحدا من الأعمال الكوميدية القليلة، التي لا يمل المرء من مشاهدتها مرارا وتكرارا، وهناك الكثيرون ممن أدمنوا على متابعته. فمثلا السيدة فاطمة، وهي مديرة مركز تجميل، تتابع العمل كلما أعيد عرضه على الفضائيات، كما تحتفظ بنسخة (دي في دي) عنه، تراها كلما شعرت بالضيق، وتقول: «الشخصيات التي قدمها العمل بسيطة وتلقائية وأشعر أني أعرفها. الكوميديا لم تكن مفتعلة، وإنما واقعية، وكل مرة أشاهده كأنها أول مرة وأضحك من قلبي مهما كنت منزعجة».

التمثيل قامت به نخبة مميزة من نجوم الدراما السورية: نضال سيجري، باسم ياخور، زهير رمضان، فادي صبيح، تولاي هارون، جرجس جبارة.. وآخرون. هذا التمثيل تكامل مع المكياج الخاص الذي أعطى للشخصيات ملامح خاصة، جاءت لتعبر ببلاغة عن نص كتب بمفردات عامية مهملة تنبع من مكان بعيد عن دائرة الاهتمام. فاللهجة المعتمدة في المسلسل واحدة من أصعب لهجات سكان الساحل السوري، وآيلة إلى النسيان. فكانت بحق لهجة «ضيعة ضايعة» بفضل إخراج، رسم صورة شاملة للبشر والحجر والشجر ككل لا يجزأ. وربما هذا ما جعل محبي المسلسل، يضعون قاموسا خاصا بهذه الضيعة الضايعة جرى تداوله على الإنترنت، كما تم اختيار مشاهد معينة للتداول كمقاطع فيديو في الموبايل، عدا عن وضع الموسيقى التصويرية أو صرخات ومؤثرات صوتية رنة للموبايل. ولذا فلا عجب حين تتحول أمكنة التصوير إلى مقصد سياحي لالتقاط الصور التذكارية. وهكذا لم يعد ممكنا لزائر الساحل السوري في محافظة اللاذقية إلا التعريج على بيت أسعد وجودي، وبيت المختار لإلقاء التحية على سكان تلك المنازل والسؤال عن موعد تصوير الجزء الثاني.

أخذت «ضيعة ضايعة» اسم «أم الطنافس الفوقا» في المسلسل، من (قرية السمراء) الواقعة في منطقة نائية من جبال الساحل السوري، حيث ينحدر الجبل مباشرة نحو البحر، قريبا من الحدود مع تركيا. يسكن هذه الضيعة الأرمن المعروفون بذوقهم الرفيع وولعهم بالنظافة. الأمر الذي ميز منطقتهم سياحيا، من حيث الحفاظ على البيئة الطبيعية، ولغاية الآن لم تفسد المنطقة سياحة الخمس والسبع نجوم، وما تزال ملاذا لأبناء الطبقة الوسطى، إلا أن نجاح المسلسل سلط الأضواء عليها فراحت تستفيق على منافذ رزق جديدة. فجرى افتتاح الكثير من المطاعم أخذت أسماءها من المسلسل، كما تحولت بعض المنازل القديمة إلى مواقع سياحية يمر بها الزوار ويلتقطون الصور في فنائها، ويشترون منتجات طبيعية من أهلها كخل التفاح والعنب وعلكة الصنوبر وشاي الأعشاب والزعتر البري... إلخ. وظهرت في المنطقة محلات بيع الهدايا التذكارية والبطاقات تحمل صور شخصيات وأمكنة المسلسل. ومع أن هذا لا يعد سابقة في الدراما السورية، إذ إنه سبق لموقع تصوير مسلسل (الكواسر) الذي أخرجه نجدت أنزور، أن تحول إلى موقع سياحي مع فارق أنه في مسلسل (الكواسر)، تم بناء ديكور لقبيلة افتراضية، بيوت من الأخشاب وأثاث وسط إحدى غابات جبال اللاذقية من تصميم الفنان أحمد معلا. وبعد انتهاء التصوير، بقي الديكور في الغابة كملكية عامة، متاحا للجميع زيارتها واستخدامها. وكذلك الأمر لكن بشكل استثماري أعد موقع تصوير (باب الحارة) الذي تم بناؤه كديكور في مجمع مطاعم ليكون مقصدا سياحيا، بينما في مسلسل «ضيعة ضايعة» المنازل (مواقع التصوير) كانت وما تزال مأهولة بالسكان مع أنها من نمط معماري قديم جدا شارف على الزوال، وربما هذا ما أضفى عليها جاذبية مضاعفة. فهي مبنية من الحجارة المتراصة، وأسقفها من الخشب. يقول أحد قاطني تلك المنطقة، إنهم كانوا يستعملون لب جذوع الشجر الحرجي لتدعيم السقوف، لأن اللب أشد قوة ومقاومة من الحديد الصلب، نقطة ضعفه الوحيدة هي سرعة الاشتعال، لذلك تدهن بمواد خاصة مثل القطران لتقاوم الاشتعال. التعرف على أسرار العمارة في تلك المنطقة، واحدة من الجوانب الثقافية المهملة أيضا. وقد لعب التلفزيون دورا هاما في التنبيه إليها، من حيث استقطاب الناس للتعرف على ما يجهلونه من طبيعة وتاريخ بلادهم. ومن يشاهد تلك المنازل في المسلسل لا يمكن أن يصدق أنها حقيقية وما تزال مأهولة، ويظن أنها عبارة عن ديكور، لذلك يتصرف زوارها وكأنهم في أملاك عامة، فيدخلون الغرف دون استئذان، أو يجلسون في فناء الدار ويتناولون مشروبات حملوها معهم مخلفين وراءهم عبواتها الفارغة، أو يكتبون على الجدران أسماءهم، وتصرفات أخرى تنم عن ثقافة سائدة في مجتمعاتنا العربية. وهي حق المواطن في انتهاك الملكية العامة. هذا ما دفع غالبية سكان تلك المنازل إلى إغلاق أبوابهم في وجه الزوار، وأحيانا كثيرة إلى طردهم. ومن المواقف الطريفة التي رواها أحد سكان المنطقة، حادثة تتعلق بالأرمني العجوز صاحب منزل المختار، حين جاءته سيارة «فان» تضم عائلة عدد أفرادها أكثر من عشرة بين نساء ورجال وأطفال. وعندما أخرج رب الأسرة رأسه من نافذة السيارة قائلا، إن عائلته تريد التفرج على بيت المختار، ارتعب صاحب البيت وراح يصرخ من خلف النافذة بلغة عربية ـ أرمنية تؤنث المذكر وتذكر المؤنث، مفترضا أن اسم الرجل هو محمد باعتبار أن كل عربي مسلم اسمه محمد، فراح يصرخ (روحي محمد روحي)، أي ابتعد من هنا يا محمد. لكن الرجل في السيارة، كان كما يبدو غير ملم بالصيغة الأرمنية للغة العربية، ففهم منه أنه يقول له تحببا وترحيبا (روحي يا محمد) بمعنى حبيبي محمد، وما كان منه سوى النزول وهو أسرته واقتحام المنزل.

(أم يعقوب) بالعربي، و(أم آكوب) بالأرمني ـ كما تقول ـ وجدت أن الحل الأمثل لمثل تلك الحالات هو تقاضي المال من الزوار، فإذا كان ولا بد من استقبالهم ليكن ذلك مفيدا لها، فمنزلها آخر منزل في قرية السمراء، يقع على الطريق المؤدية للشاطئ، والزوار بشكل طبيعي يمرون من أمامه، ومن يرغب بالتوقف للالتقاط صورة عليه دفع مبلغ معين. الزوار غير المعتادين على ذلك يشتمون أم يعقوب بمجرد أن يديروا لها ظهورهم، ويقولون عنها إنها جشعة، تميز بين الزوار، فهناك من تأخذ منه خمسين ليرة، وآخرون أكثر بكثير، وأحيانا لا تأخذ مالا، وذلك في حال ارتاحت لتصرفاتهم. عمران زار مع أسرته منزل أم يعقوب وتحدث مطولا عنها وهو يضحك عن كيفية وقوفها مترصدة أمام المنزل حاملة عصاها الطويلة والكيس الأسود، مشترطة على كل شخص يريد الدخول، وضع مبلغ في الكيس، وأنها حددت تسعيرة الصورة مع المنزل بـ 25 ليرة سورية. يقول عمران، لكن أم آكوب راعت عائلتنا وكنا خمسة أشخاص، فأخذت منا جميعا خمسين ليرة، ربما لأننا استأذنا منها وتقيدنا بتعليماتها، ولأنها تعاملت معنا بلطف اشترينا منها خل تفاح وزعترا بريا، وأعتقد أننا لم نكن خاسرين.

عندا زارت «الشرق الأوسط» المكان أمكنها تخمين سبب تلك التصرفات. فـ(أم آكوب) تعزز أهمية منزلها، كما أنها التقطت سر الكوميديا في التعامل الاجتماعي، فهي تستخدمها وسيلة للسيطرة على المواقف المحرجة، فتضيع عندها الحدود بين الجد والهزل. والهدف تقليل الأضرار الناجمة عن انتقال مكانها لا بل حياتها من الحيز الخاص إلى الحيز العام. وتقول أم يعقوب إن حياتها بعد انتشار المسلسل انقلبت رأسا على عقب. فهي تعمل بزراعة التفاح وهو لا ينتظر كثيرا على الأشجار، فإذا لم تنهض باكرا جدا وتتناول قهوتها قبل السابعة صباحا، ستبقى طيلة النهار بلا شرب القهوة، وحتى بلا عمل في البستان.

ومع ذلك وعندما يكون مزاجها معتدلا، تخاطب الزوار بلهجة المسلسل وتقلد شخصياته، ولعلها تبرع في تقليد شخصية «أسعد» التي أداها باقتدار الممثل الموهوب نضال سيجري. فهي تتحدث مثله وتعمل تعبيرات بوجهها وعينيها مثله تماما، ما يجعل الزيارة ليست للمكان فقط وإنما للتحدث مع شخصية من شخصيات مسلسل ما زال مستمرا في الواقع، حتى عندما تتذمر أو تصرخ في وجه من تعتبرهم ضيوفا ثقلاء، فهي تعتمد الكوميديا في إيصال رسالتها. وعندما زارها فريق كرة قدم مع عدد كبير من مشجعيه في طريقه إلى اللاذقية، تقول مع إنهم كانوا كثرا جدا وملأوا الضيعة صخبا وضجيجا في ساعة متأخرة من الليل، مازحتهم واستقبلتهم بمودة شديدة، لأنهم كانوا بحاجة لرفع معنوياتهم قبل المباراة.

لا تعتني أم آكوب كثيرا بمظهرها، وإنما تظهر كما هي بملابس المنزل أو العمل في البستان، ولا تمانع في التقاط صور لها، كونها على قناعة بأن الواقعية وعدم التكلف هو ما يجذب الناس. ويكاد حديثها يكون واحدا مع الجميع، فلا تظهر اهتماما بالصحافة ولا بالمسؤولين حتى لو كانت تضمر عكس ذلك. فهي تتقن سلوكيات الشخصيات العامة، فتحرص على بث رسائل تطالب بتحسين الخدمات في المنطقة والاهتمام بها، ورسائل للمجتمع ليكون أكثر عناية بالطبيعة وبالنظافة، وضرورة تهذيب سلوكياتهم حين دخول المنازل. فهي تتيح للزوار التوقف أو الاستراحة في فناء البيت الخارجي، الذي هو منزل (أسعد). أما الداخلي فهو منزل جودي وممنوع منعا باتا، يساعدها على هذا التدبير كلب شرس لحراسته، ومن يتذاكى ويغافلها ليدخل الأماكن المحظورة يتعرض للهجوم من الكلب. المشكلة بحسب (أم آكوب) أن «هذا الكلب لا يفهم العربية ولا بد من التحدث إليه بالأرمينية لردعه». فعندما يتعرض أحد للهجوم يضطر للاستغاثة بصاحبة البيت التي غافلها. وهذا بحد ذاته مشهد كوميدي يضحك (أم آكوب) ويضعها في موقع الشامت والمؤنب والقول: «لازم الواحد يكون مؤدب وأن لا يدخل مكانا غير مسموح له بالدخول إليه».