مناطق خطرة في فكر كلود ليفي ستروس

على هامش رحيل مؤسس الفلسفة البنيوية

كلود ليفي شتراوس
TT

كاد كلود ليفي شتراوس يكمل العام الواحد بعد المائة. والواقع أنه لم يتبق له إلا أسبوعان أو ثلاثة لإكماله، لأنه ولد في 28 نوفمبر من عام 1908. وكثيرا ما صرح قائلا: أن أكبر دهشة في حياتي هي طول عمري! فما كنت أتوقعه على الإطلاق..

فزملاؤه كلهم ماتوا بل وحتى تلامذته. سارتر الذي كان زميله على مقاعد الدرس في الجامعة مات قبل ثلاثين عاما تقريبا. وميشيل فوكو الذي يمكن اعتباره أحد تلامذته مات قبل ربع قرن. وهكذا دواليك.. والآن نطرح هذا السؤال: ماذا سيبقى من ليفي شتراوس عالم الأنتربولوجيا الشهير؟ أولا هو معروف في العالم كله بأنه مؤسس الحركة البنيوية. ولكن البنيوية الآن أصبحت في خبر كان ولم يبق منها شيء يذكر لحسن الحظ. اللهم ما عدا تعليمنا على الصرامة والدقة الموضوعية في البحث العلمي: أي في دراسة النص أو دراسة المجتمع. وهذا ليس بالقليل بالطبع. ولكنها بالغت في الموضوعية الجافة والباردة بل والصقيعية إلى درجة أنها قضت على نداوة الإبداع ورطوبة الخيال. بل وحولت النص إلى جثة هامدة من كثرة ما شرحته وفككته وهشمته في نهاية المطاف. لقد ارتكب ليفي شتراوس خطيئة كبيرة عندما اعتقد أنه يستطيع تحويل علم الأنتربولوجيا إلى علم يقيني مطلق مثله في ذلك مثل علم الفيزياء أو الكيمياء. فالإنسان لا يمكن أن يدرس بشكل موضوعي جاف كل الجفاف ولا يمكن تحويله إلى معادلات رياضية أو مجرد أرقام حسابية. الإنسان كائن من لحم ودم ومشاعر وأحاسيس وينبغي أن نأخذ كل ذلك بعين الاعتبار. وبالتالي فكفانا جريا وراء وهم العلمية المطلقة على طريقة علم الرياضيات أو الفيزياء. بقدر ما أن زميله سارتر بالغ في النزعة الذاتية المفرطة بقدر ما بالغ هو في النزعة الموضوعية المفرطة. نحن بحاجة إلى الذاتية والموضوعية في آن معا وليس إلى التطرف في هذا الاتجاه أو ذاك. نقول ذلك ونحن نعلم أن البنيوية حلت محل الوجودية وسيطرت على الشارع الفرنسي والعالمي. سارتر هيمن في الأربعينات والخمسينات بل وحتى منتصف الستينات وليفي شتراوس هيمن في أواخر الستينات وحتى نهاية السبعينات. ولكن الموضات الفكرية تمضي والحياة تبقى أكبر من أي موضة. لا يمكن لأي فلسفة مهما كبرت وعظم صاحبها أن تستنفد غزارة الحياة.

لكن كلود ليفي شتراوس أحسن صنعا إذ اتخذ من علم الأنتربولوجيا كأداة فعالة لتفكيك الايديولوجيا العنصرية أو العرقية المركزية الأوروبية التي كانت مسيطرة إبان مرحلة الاستعمار. وهي ايديولوجيا استعلائية بغيضة تحتقر الشعوب الأخرى وتراثاتها الثقافية ومن بينها تراثنا العربي الإسلامي بالطبع. هنا لا يمكن إنكار عطائه الأخلاقي والإنساني وليس فقط العلمي. وخطابه الشهير في اليونيسكو عام 1952 عن العنصرية والثقافات البشرية أعطى دفعة قوية لحركات التحرر الوطني ضد الاستعمار أو قل خلع المشروعية العلمية على هذه الحركات بالذات. فقد برهن فيه على وحدة الجنس البشري فيما وراء تنوع الثقافات وعدم تفوق أي ثقافة على ثقافة أخرى إلا بقدر انفتاحها على الآخرين وتفاعلها مع المستجدات العالمية. الانغلاق هو الذي يؤدي إلى فقر الثقافات بل وحتى انقراضها أحيانا. لقد تجرأ ليفي شتراوس وقطع مع العقلية العنجهية الاستعلائية للغرب داعيا إياه إلى احترام الثقافات البشرية الأخرى أيا تكن بما فيها تلك المدعوة بالبدائية. فهي ليست بدائية إلى الحد الذي نتصوره. وإنما لها منطقها الخاص و«عقلانيتها» الخاصة إذا ما نظرنا إليها عن كثب. هذا ما برهن عليه في كتابه الشهير: «الفكر المتوحش». صحيح أنها عقلانية حسية وعملية براغماتية لا تجريدية نظرية أو فلسفية على عكس عقلانيتنا المتطورة في أوروبا، ولكنها عقلانية وتستحق الاحترام لا الاحتقار. وبالتالي فكما قال برنار كوشنير: إنه يمثل الضمير الكوني وأحد ورثة عصر التنوير الكبار لأنه خلع الكرامة الإنسانية وبالتساوي على كل الثقافات وكل الشعوب. وانتقل بنا من علم الأنتربولوجيا العنصري والكولونيالي للقرن التاسع عشر، إلى علم الأنتربولوجيا الإنساني الحديث الذي لا يؤمن بتفوق أزلي مسبق لعنصر بشري على عنصر آخر. فكل الشعوب قادرة على صنع الحضارات إذا ما واتتها الظروف وعرفت كيف تنفتح وتتفاعل وتستفيد دون أن تفقد خصوصيتها ونكهتها.. والحضارة ليست حكرا على الشعوب الأوروبية الشقراء كما حاول أن يوهمنا منظرو العنصرية الكبار من غوبينو إلى هتلر!

لكن هنا أيضا لا ينبغي أن نسقط في الاتجاه المعاكس أو التطرف المضاد: أقصد أنه ليس من مصلحتنا نحن أبناء العالم الثالث أو الرابع أن نسقط في الغوغائية والديماغوجية. لا ينبغي أن نصدق ليفي شتراوس عندما يقول لنا إنه لا يوجد أي فرق بين المجتمعات البدائية والمجتمعات الحضارية، أو بين المجتمعات المتخلفة والمجتمعات المتقدمة. فبعد أن تحدثنا عن إيجابياته ينبغي أن نذكر سلبياته ومخاطر فكره. لا ينبغي أن نتبعه عندما يحاول التقليل من فكرة التقدم أو الوقوع في فخ النسبوية الثقافية التي تقضي على القيم الكونية الجامعة بين البشر على اختلاف تراثاتهم الدينية والثقافية. يقال إنه تراجع عن هذه الحماقة مؤخرا واعترف للثقافة الغربية ببعض التفوق على سواها من حيث ديناميكيتها وحسها النقدي وانفتاحها على كل تيارات العلم والفلسفة. ثم من حيث سماحها بحق الاختلاف والتعددية الفكرية والحوار الديمقراطي كمنهجية فعالة لتشخيص المشاكل تمهيدا لحلها. هل يمكن أن نساوي بين الاستبداد في الرأي والحوار الديمقراطي؟ هل يمكن أن ننكر وجود تقدم وتراكم وتطور حضاري في التاريخ؟ هل حقا أن ثقافة القبائل البدائية في أميركا اللاتينية أو أفريقيا تساوي ثقافة الحضارة الأوروبية التي بلغت أوجها؟ ما هذا الهراء؟ من المعلوم أن إخواننا الأصوليين صفقوا كثيرا لأفكاره هذه وسرعان ما استولوا عليها وجيروها لمصلحة ايديولوجيتهم كما فعلوا مع كتاب إدوارد سعيد عن «الاستشراق». وحاولوا استغلال نظريته هذه للقول بأننا نحن والغرب على مستوى واحد، وأننا لسنا بحاجة إلى تقليده أو الاستفادة من تجربته الحضارية. بمعنى آخر فنحن لسنا بحاجة إلى تنوير فكري ولا من يحزنون لأن لكل ثقافة خصوصيتها الاختلافية التي ينبغي أن تظل متشبثة بها كما هي إلى أبد الدهر. وهكذا يلغون فكرة التقدم وفكرة الكونية أيضا: أي فكرة الالتقاء مع جميع الثقافات البشرية على عدة قيم كونية دون أن يلغي ذلك خصوصياتها.

من بين هذه القيم الكونية التي ينبغي أن تشمل شعوب الأرض وليس فقط شعوب الغرب المتقدمة: احترام حقوق الإنسان وكرامته أيا يكن هذا الإنسان بغض النظر عن أصله وفصله، أو مشروطياته العرقية أو الدينية أو الطائفية. ومن بينها أيضا حرية الضمير والمعتقد، أي حرية التدين أو عدم التدين. ومن بينها أيضا الاعتراف بمشروعية الاختلاف في الرأي وكذلك مشروعية التعددية الروحية والفكرية والصحفية والسياسية. فالثقافة التي لا تحترم هذه القيم الكونية الحضارية لا يمكن أن نضعها على قدم المساواة مع الثقافة المستنيرة التي تحترمها أو تتقيد بها. لا يمكن أن نساوي أي شيء بأي شيء يا مسيو ليفي شتراوس! هذا ليس تسامحا أو كرم أخلاق معنا. هذا احتقار ضمني لنا. هذه فلسفة نسبوية: أي عدمية تجهض فكرة التطور والتقدم من أساسها. أو قل إنها حيلة ماكرة ولكن مكشوفة لمنع حصول التنوير الفكري في العالم الإسلامي. أقصد بأن الأصوليين يستخدمونها كحيلة لمنع التنوير وليس هو. ولكن النتيجة واحدة لأنهم يستخدمون أفكاره في هذا الاتجاه. فالثقافة التي تكرس قيم التخلف والانغلاق على الذات والتعصب وتكفير الآخرين بحجة الخصوصية أو الإخلاص للثوابت الفقهية الطائفية القديمة، لا يمكن أن تحظى بالاحترام أو أن يكون لها مكان في عصر العولمة الكونية.

أخيرا سوف أقول إن كلود ليفي شتراوس لم يكن تقدميا على طريقة فلاسفة التنوير كما يتوهم برنار كوشنير. أو قل إنه كان تقدميا بشكل جزئي فقط. بل ويمكن القول بأنه كان رجعيا بمعنى من المعاني. وسبب ذلك هو نزعته التشاؤمية المفرطة في سوداويتها على عكس فلاسفة التنوير الذين كانوا متفائلين بمستقبل الجنس البشري ويبنون آمالا كبارا على فكرة التقدم والتطور وتفكيك الخصوصيات الضيقة والانغلاقية. وبالتالي فلا يمكن اعتباره وريثهم من هذه الناحية. لم يكن يرى في التقدم العلمي والتكنولوجي والصناعي نورا على نور وغنما خطرا مهددا أو ماحقا. لا ريب في أنه كان محقا إلى حد ما من حيث تنبيهه إلى مخاطر هذا التقدم على البيئة بسبب تلويث الجو والقضاء على الطبيعة وسوى ذلك. ولكنه بالغ في هذا الاتجاه. بالغ في النعي على التقدم والتحذير منه. لكأنه كان يقول لنا نحن أبناء العالم الثالث أو أبناء الجنوب: إياكم أن تنهجوا خط التقدم على طريقتنا نحن في أوروبا، ابقوا حيث أنتم وكما كنتم دون تغيير أو تطوير فهذا أفضل لكم. أنتم «حلوين» هكذا. حافظوا على ثقافتكم كما هي. أنتم لستم بحاجة إلى شيء ولا تشكون من شيء.. فالتقدم لم يخلق لكم..

إذا كان هذا الموقف محمودا من حيث المحافظة على تنوع الثقافات البشرية وعدم تنميطها وتحاشي القضاء على خصوصياتها الرائعة المثرية لجمال الكون، فإن له مخاطره أيضا. بل إنه ينطوي على عنصرية خفية أو ضمنية كما قال لي ذلك بيير بورديو مرة عندما أجريت معه مقابلة في الثمانينات. فهذا الموقف يؤدي في نهاية المطاف إلى بقاء المتطور متطورا والمتخلف متخلفا: أي بقاء عالم الشمال مسيطرا على عالم الجنوب. إنه يعني بقاءنا نتخبط في جحيم التأخر بحجة المحافظة على الخصوصية والأصالة وجمال التخلف! وهكذا يجيء السيد كلود ليفي شتراوس كل سنة لكي يمضي عطلته الصيفية عندنا مستمتعا بتخلفنا وبدائيتنا الجميلة وهاربا من ضغط الحضارة الصناعية التي مل منها..