العربية بين التحصين والتعبئة والكشف

TT

أشار الدكتور عبد السلام المسدي خلال إحدى جلسات مؤتمر من المؤتمرات التي جمعت بيننا، كما تحدث زملاء لنا آخرون عن ضرورة كشف النيات والخطط الاستعمارية الرامية إلى تقويض الأسس النفسية والوجدانية للغة لدى الإنسان العربي، وتعرية تلك الأيدي التي تعمل في الخفاء على إذابة هذه اللغة وتشويه ثقافتها لتمهد في النهاية لذلك الاختراق والنفوذ الاستعماري الكامل.. والواقع هو أن النيات أو الخطط التي ما زال يحوكها المستعمر ويسعى لتنفيذها بوسائله الداخلية والخارجية المختلفة لا يجوز تجاهلها. ولا شك أن في الكشف عنها ما يدعو إلى المزيد من اليقظة والحذر أو إلى التحرك والمواجهة والتصدي. إلا أن الأهم من ذلك كما نظن هو العمل أولا، أو بنحو متواز ومتواصل، على خلق الحصانة الكافية ضدها وضد تأثيراتها السلبية الواقعة والمحتملة. وذلك ببث الوعي القومي والثقافي المطلوب، وشحن الفكر بما يعزز الولاء الصادق للغة ولتراثها ولمجتمعها ويعمل على إيجاد مناعة طبيعية كافية لدي المستهدفين من أبنائها.

مثل الحياة الدنيا مثل الغابة الممتدة الواسعة، والكشف عن مكمن للوباء أو مصدر للدمار في مجاهل هذه الغابة لا يعني الخلاص الكامل أو الأمان من وجود مكمن آخر، كما أنه لا يمنع عن نشوء مصادر أخرى للخطر في الحاضر أو المستقبل. ومن جانب آخر فإن من سنن الحياة المعروفة أن يتسلط القوي على الضعيف، وأن تسعى كل دولة تقوى وتشتد إلى بسط نفوذها على ما هو أضعف منها وضمه تحت سلطانها بقدر ما تستطيع. وأول ما تسلكه في ذلك هو التوجه لغزو لغته، لأن غزو اللغة يمهد لغزو الفكر والثقافة وغزو الفكر والثقافة يمهد للتبعية وإلغاء الهوية، وذلك هو الطريق لبسط النفوذ واحتلال الأرض وفرض السيطرة. وليس ما يراد من الغزو اللغوي الذي نعاني منه في مشرقنا العربي ومغربه في وقتنا الراهن غير ذلك. ومن الواضح أنه لا يحبط غزو اللغة أو يقلل من التأثير عليها سوى تحصين اللغة نفسها، وذلك عن طريق تطويرها وتنميتها وتوسيع آفاقها، ومدها بكل عناصر القوة والمنعة التي تمكنها من المقاومة والصمود ومن دحر اللغة الغازية أو الانتصار عليها أو عدم التراجع أمامها على الأقل.. وعمليات الإصلاح والشحن هذه لا تتحقق أو تتحقق ثمرتها إلا بأن تبدأ من القواعد الأولى، ومن حيث المنطلقات الرئيسية، وهذا هو ما يجعل العمل على تنمية لغة الطفل العربي خطوة أساسية بالغة الأهمية على طريق الإصلاح الجذري للغة القومية وإرساء الأسس القوية للارتقاء بها والنهوض بثقافتها وفكرها.

غير أنه لا مناص من التسليم في الوقت نفسه بأن الطريق الأساسي الأول المؤدي إلى إصلاح لغة الطفل وإلى تنميتها وتطويرها والارتقاء بها، هو رعاية المرأة: لأن المرأة هي الحضن الذي ينشأ فيه الطفل ويترعرع، وهي الحانية التي تغذي هذا الطفل حروف اللغة وكلماتها وعباراتها وأنغامها منذ مراحله الأولى، وتفتح عينيه على هدهدات أحلامها وتدغدغ سمعه الطري بتراتيلها وأغنياتها. وهي المعلم والملقن الأول للغته والمؤسس لشخصيته ولكيانه المعرفي العام، المرأة هي الأم والأخت والمربية والقرينة والشريكة وهي المنبع الذي يستمر عطاؤه منذ بواكير الحياة حتى نهايتها، فهل تُرى أعددنا للطفل ما ينمي لغته وثقافته الأصيلة؟! وهل أعددنا للمرأة ما يسمو بثقافتها وفكرها ووعيها اللغوي، أم أننا مشغولون بإعدادهما معا لاستقبال اللغة الغازية واحتضانها، بحجة التمدن والتحضر والتطور؟ هذا سؤال مفتوح نوجهه إلى رعاة الفكر ورجال الساسة في بلادنا!

بدلا من أن نبقى رهائن لهواجس الكشف عن النيات والخطط التي تستهدف لغتا وثقافتنا ونظل ندور حولها، ينبغي أن نعيش هواجس التعبئة والتحصين ونحياهما بالفعل. إن عوامل التعبئة والتحصين عديدة ووسائلهما العملية كثيرة، ليس من غرضنا هنا عدها أو الحديث عنها، ولكن يمكن القول إن من أبسط هذه الوسائل وأولاها أن نقرن تلك الحملات اللاهثة لتعليم اللغة أو اللغات الأجنبية الغازية ونشرها ونشر ثقافتها وفكرها في بلادنا العربية بحملات أخرى خالصة للتوعية بأهمية اللغة الأم، العربية، نتبعها بحركات ناهضة ونشاطات عملية فعالة و مستمرة لتمكين هذه اللغة بين أهلها وتمكين أدبها وثقافتها وفكرها في بلادها وبين ناسها، بكل الوسائل والآليات المتاحة. أن نرصد من الأموال والإمكانيات لحماية هذه اللغة التي نراها تُغزى في عقر دارها كل يوم، مثلما نرصده لدعم اللغة الغازية ورعايتها، ونعد لحمايتها من الوسائل والطرق والآليات مثلما نعده لنصرة ضرتها. هذا هو أقل المعروف وأيسره.

ولا يكفي أن تتركز الجهود في المؤتمرات والندوات المتعلقة باللغة أو بثقافة العربية وآدابها على معالجة القضايا النظرية، وإنما يجب أن يقترن ذلك بالتفكير في وسائل التطبيق العملي لكل ما تتم معالجته نظريا. وبالعمل المباشر على تفعيل هذه الوسائل بالطرق الممكنة وفي كل لأماكن المناسبة: أن تعرض البحوث والكتب والمصنفات الورقية والآلية المتعلقة بتطوير اللغة القومية عموما وبتنمية لغة الطفل ولغة المرأة العربية وتوضع بين يدي المستفيدين من كل منهما، أن يقرب الإنسان العربي من كل ما يسهم إسهاما عمليا فاعلا في توثيق علاقته بتراث أمته وبفكر مجتمعه وبالإبداعات الأصيلة المثمرة التي صيغت بلغته القومية وبرزت بها، أن تعرض اللغة في أطرها المختلفة وبصورها النقية الصافية وأشكالها الجميلة الجاذبة، على هامش المؤتمرات والندوات، في وسائل الإعلام، في دور التعليم والتدريب، في المعارض والملتقيات على اختلافها... بذلك يتعمق إيمان الإنسان العربي بفاعلية لغته وتقوى ثقته بها وبأهلها فيأنس بها وينجذب إليها ويعتنقها ويعانقها في حميمية وشوق. والوسائل إلى ذلك كثيرة ومتاحة ويسهل الوصول إليها، ما دامت الجهود حاضرة والنيات خالصة. مناهج التعليم المطورة، أساتذة اللغة المؤهلون، البرامج العلمية والإعلامية الرصينة، القصص والأعمال الشعرية القريبة من النفوس، كتب الأطفال التراثية منها والحديثة، أفلام الكرتون المنتجة عربيا والمدبلجة، الكتب الثقافية ذات الأثر في توعية المرأة وتنمية طلاقتها الفكرية واللغوية وتدعيم رعايتها اللغوية لطفلها، الأعمال الفكرية التي تنطلق بالعقل العربي وتشجعه على المزيد من البذل والعطاء والتكوين والبناء الحضاري، النتاجات الأدبية التي تخصب خيال الإنسان العربي وتصقل قريحته وتسمو بذوقه وتؤصل انتمائه إلى قوميته وتوثق علاقته بمجتمعه وتضاعف ولاءه لأمته. المصطلحات والألفاظ الحضارية العربية التي يلمس الناشئ أصالتها وفاعليتها ويدرك بها ثراء لغته وحيويتها في واقعه. هذه كلها وسائل للتعبئة الثقافية والتنمية اللغوية التي تقوي مناعة الناشئة وتحصنهم وتمكنهم من الإعداد لمواجهة التيارات المعاكسة.

* أستاذ الدراسات الإسلامية والعربية بجامعة الملك فهد للبترول والمعادن