بريطانيا تستثمر في الريادة الثقافية العربية

بينما يبحث المثقفون العرب عن تمويل «موثوق»

TT

التمويل هو مشكلة المثقفين العرب. في المقابل تخصص الدول الغربية مبالغ كبيرة لاستثمارها في الثقافة العربية. وبرزت بريطانيا في السنوات الأخيرة كأحد الناشطين الوازنين في هذا المجال. فبعد الاهتمام بالكتب وقضايا المرأة والمهارات المهنية، ها هي تعنى بالاستثمار في الريادة الثقافية. لكن هذه التمويلات لا تريح المثقفين العرب، كما أنهم غير مطمئنين إلى التمويلات الوطنية التي تقدمها لهم دولتهم. فمن يمول؟ ولماذا؟ وما الذي يترتب على قبول التمويل؟

التفاؤل الذي أظهرته إليزابيث وايت، مديرة «المجلس الثقافي البريطاني» في سورية، قبل انعقاد مؤتمر «الريادة الثقافية في العالم العربي» مؤخرا في دمشق، تحت رعاية نائب رئيس الجمهورية، الدكتورة نجاح العطار، لم يكن كافيا لتبديد التشاؤم الذي لا بد وأن ينضح من أي لقاء ثقافي عربي يبحث في هموم الثقافة والمثقفين. فما بالنا بمؤتمر يبحث في دعم المشاريع الثقافية الشبابية ضمن برنامج دولي أطلقته بريطانيا في مايو (أيار) العام الماضي، بهدف «تدريب مجموعة من الشخصيات البارزة من أوروبا والعالم العربي على قيادة منظماتهم وإنشاء شبكة ثقافية دولية». وبحسب إليزابيث وايت، فقد قررت (بريطانيا) «التوجه نحو الاستثمار في الريادة الإبداعية والثقافية»، وذلك بعد تجارب «ناجحة» في التدريب الريادي في عالم الأعمال. الأمر الذي شجع على تجريب «تطبيق المبادئ نفسها وتطوير التدريب على مهارات الريادة في القطاعات الثقافية»، لا سيما أن «العامل الاقتصادي لعب دورا في ذلك حيث يشكل عائد الإبداع في المملكة المتحدة ما يزيد على 9% من الناتج المحلي الإجمالي». وقد حقق البرنامج نجاحا كبيرا في دعم أصحاب الإمكانات والمواهب كي يصبحوا روادا كبارا في عالم الفنون».

فإذا كان البريطانيون مهمومين بالبحث عن الرواد الثقافيين في العالم العربي، فإن المثقفين العرب مهمومون بالبحث عن ممول موثوق لمشاريعهم. وعلى الرغم من أن «الثقة» نسبية، فإنها ضرورية لأي تمويل يقدم للعرب. ليس فقط لأن التمويلات الخارجية، لا بد وأن نفتش فيها دائما عن «مسمار جحا» ـ حسب الكويتي نايف المطوع أحد المشاركين في مشروع الريادة ـ إذ غالبا ما تمنح تمويلات غربية للمشاريع العربية وفق أجندات سياسية معين، وهناك سوابق كثيرة في هذا الخصوص، بل لأن «الثقة» أيضا ضرورية لضمان موافقة الحكومات المحلية على الحصول على التمويل، وإلا دخل المشروع في دائرة الشبهات في دول لا تزال تفرض رقابة صارمة على الاتصال مع الخارج. ذلك في الوقت الذي يشهد التمويل الحكومي المحلي للمشاريع الثقافية الأهلية شحا قاتلا.

الفنانة الممثلة السورية نورا مراد قالت إن «المشكلة ليست في وجود أجندات سياسية للمؤسسات الثقافية الأجنبية التي تقدم الدعم، فهذا واضح ومفهوم، لكن المشكلة في غياب أجندات واضحة عند المؤسسات الثقافية العربية. فلا نعرف ـ نحن المثقفين الذين في حاجة إلى التمويل ـ إلى من وإلى أين نتوجه؟!». لكن عروة نيربية، رأى استنادا إلى تجربته في تنظيم مهرجان سينما الواقع (دوكس بوكس) أن «مسمار جحا» موجود أيضا في الدعم الحكومي المحلي، وأن الثقة بين الحكومة والمشاريع المستقلة مفقودة. و«لا تزال النظرة الحكومية إلى دور الثقافة كأولوية استراتيجية نظرة قاصرة»، لافتا إلى أن مشكلة المشاريع الثقافية المستقلة في سورية هو أن «الأجندة المحلية لديها أولوياتها». وكذلك وجود «رهاب من الفضاءات المفتوحة»، بمعنى التمويل الأجنبي. ولا مناص ـ في رأي نيربية ـ من تشجيع «الاستشهادية الثقافية». واتفقت مع تلك الآراء صاحبة مشروع «الفن الآن» نسرين بخاري، وشكت من شح التمويل الذي يعوق تطوير مشروعها الذي يهدف لتنشيط الفن التشكيلي، لا سيما المعاصر داخل سورية، ودعم الفنانين الشباب والتعرف على الفن في البلاد الأخرى.

الحال في لبنان أو أي بلد عربي ليس أفضل منه في سورية. مايا زبيب من لبنان قالت إن فرقتها المسرحية «زقاق» مضطرة لتسليم مقرها، لعدم قدرتها على دفع أجره. وعبثا حاولت صاحبة مشروع «المورد الثقافي» المصرية بسمة الحسيني، بث بعض من التفاؤل بدعوتها إلى وضع تصورات استراتيجية للثقافة، لافتة إلى تجربتها مع مؤسسة «مورد»، التي تتخذ من القاهرة مقرا لها، في دعم الأفراد ثقافيا وفنيا، والبحث عن المواهب الجديدة في المنطقة العربية متوقفة عند نموذجين عمليين لمبدعين من المغرب وموريتانيا استطاعا أن يقدما مواهبهما الثقافية رغم الصعوبات التي كانت تقف في وجهيهما، مستفيدين من الفرص التي أتاحتها لهم بعض المؤسسات الثقافية. إلا أن الكاتبة رشا السلطي من لبنان رفعت درجة التجهم في حديثها عن الانقسام في الواقع الثقافي العربي إلى «عالمين ليس بينهما تواصل»، فهناك ثقافة تشرف عليها المؤسسات الرسمية وهناك الثقافة التي يصنعها المثقفون وحدهم، متهمة وزارات الثقافة العربية «بطمس الثقافة العربية الأصيلة»، وأنها بذلك تلتقي مع الأجندات الأوروبية والأميركية. ورأت السلطي أن ما يجمع بين العالمين هو «الدكتاتوريات والفشل».

وكما اتفق غالبية المشاركين العرب على غياب «الثقة» اتفقوا أيضا على غياب «الحرية» بمعنى «الاستقلالية» عن النظام. فالكاتب الجزائري أمين الزاوي شدد على ضرورة أن تأخذ مؤسسات المجتمع المدني دورها، وأن تدخل الثقافة في عملية التنمية، وأن لا تبقى الثقافة مجرد «تزويق»، وأن لا يبقى العمل الثقافي «ترقيعيا» و«مناسباتيا»، مشيرا إلى أن القطاع العام ليس لديه ثقافة، بل هو يمثل النظام. وكذلك الأمر في القطاع الخاص الذي يملكه رجال النظام. ولفت الزاوي إلى أن ذلك سمح للفساد الذي أصاب الاقتصاد بالوصول إلى الثقافة.

من جانبه اتفق الشاعر والكاتب الأردني، جريس سماوي، مع ما طرح حول «غياب الحرية»، معتبرا أن المؤسسات الحكومية لا تنتج الثقافة، ولذلك فإن عليها «رعاية الثقافة والفن اللذين ينتجها المجتمع المدني». كذلك الباحث في المعهد الفرنسي للشرق الأدنى، حسان عباس، اعتبر أن كل الدول الأخرى «سبقتنا باهتمامها بالمجتمع المدني» وأن «المجتمع المدني هو الحاضن الوحيد الفعال للثقافة... والخبرة التاريخية تؤكد أن المؤسسات أصبحت عاجزة عن متابعة الإبداع».

إلا أن ما لم يقله المشاركون، الذي قد يكون السبب الحقيقي وراء شح الدعم الحكومي وارتباك الموقف من الدعم الأجنبي، هو غياب مشاريع عربية سياسية واضحة تكون حاملا للثقافة المنتجة. وهنا لا بد من الإشارة إلى المرحلة التي شهدت المد القومي للمشروع العربي، وكيف أن الحكومات العربية من المحيط إلى الخليج مولت مشاريع ثقافية كبرى ذات توجه عروبي، كان لها الفضل في احتضان جيل من عمالقة المبدعين العرب، ذاك عدا عن وجود تيارات سياسية دولية يسارية ويمينية تنافست على الساحة العربية، خلقت جيشا من المثقفين المبدعين. الآن مع غياب هذا التنافس وتراجع المشروع القومي، واستفراد قطب واحد بإدارة العالم، خلَّف هذا الوضع، حالة من اللا توازن وانعدام الثقة. فإما اللحاق بهذا القطب أو الاحتماء بتيارات المقاومة.

وعلى الرغم من أن طاولة النقاش تناولت أربعة محاور رئيسية موزعة على أربع جلسات، فإن النقاش حولها تضمن طيفا واسعا من المواضيع الحساسة والهامة، التي في معظمها لم تخلص إلى نتائج واضحة يتفق حولها الجميع. فهناك مسألة اللغة العربية التي لم تكن على جدول المناقشات، إلا أن حوارا حارا دار حولها. وانقسم المناقشون إلى فريق يدعو إلى ضرورة الاهتمام بسلامتها كوعاء للثقافة، وفريق آخر رأى أن الأهم من الانشغال بسلامة اللغة هو الاتفاق على المضمون الذي تحمله هذه اللغة.

الأفكار التي طرحها الحضور، لا تقل أهمية عن الأفكار التي وردت في أوراق المشاركين، والتي تناولت إمكانية الوصول إلى الثقافة، ودور الفنون في المجتمع، والحداثة العربية في مرحلة ما بعد العولمة وانعكاسات الخصوصية الثقافية العربية على قطاع الفنون الحالي في المنطقة، والمتأثر في شكله إلى حد كبير بالنماذج الأوروبية ـ الأميركية، والخاضع لنفوذها على كل المستويات. كذلك كانت حوارات حول الفنون والواقع الاقتصادي والاجتماعي في الوقت الراهن، وهيمنة الأجندات السياسية والمؤسساتية، والتوترات الاجتماعية السياسية المعقدة، وأثر هذه الظروف على الفنانين والمشتغلين في مجال الفن. والريادة الثقافية والاستدامة من خلال النماذج الحالية للريادة في قطاع الثقافة في المنطقة من المنظور الفردي والمؤسساتي.

من جانب آخر، كشف النقاش الذي شارك فيه متحدثون من أوروبا وأميركا والعالم العربي عن وجود هوة واسعة بين الهموم الثقافية العربية والهموم الثقافية في المجتمعات المتقدمة. ففي حين بدا الرواد الثقافيون العرب كالأيتام على طاولة اللئام، يشكون من العين البصيرة واليد القصيرة، شكا الغربيون من أزمة التواصل مع الآخر والاستدامة وتأثير الأزمة المالية على القطاع الثقافي، وتوحش الرأسمالية. وقد توقفت عند هذا مليا الأميركية راسيل ويليس تايلور التي تعمل في مؤسسة تتشارك مع مراكز ثقافية أخرى في إدارة الأعمال والنشاطات الثقافية. وقالت تايلور، إن أميركا وأوروبا تعانيان من أزمة في المؤسسات الثقافية وليس بالفن أو الثقافة. وهناك الكثير من التساؤلات حول الهدف الذي أقيمت من أجله هذه المؤسسات. فهناك خشية في أميركا من كلمة «ناشط سياسي» إذ يفضل المثقفون الابتعاد عن السياسة، حرصا منهم على «أن لا يكونوا واجهة لأعمال أخرى غير الثقافة». أي أنها مشكلة «ثقة» في النظام! وقد شكل طرح هذه الفكرة مفارقة حول اختلاف سبب التشكيك في الناشطين السياسي» في أميركا والدول العربية. فبينما السبب في أميركا هو التوجس من أهداف السياسيين، يبدو السبب في عالمنا العربي هو الخشية من القمع واحتكار العمل السياسي. ولعل هذا يعطي مثالا على نوعية الاختلاف بين الشرق والغرب، كما نم عنه النقاش في المؤتمر. كما نرى مثالا آخر، ربما يوضح أسباب الهوة الثقافية، أشار إليه المغربي، رشيد أربين، من بريطانيا خلال عرضه لتاريخ الحداثة وبدايتها في العالم، والهدف الذي ظهرت لأجله في أوروبا خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر، وقال: «إنها ظهرت كجزء من أفكار التنوير في أوروبا لوضعها على طريق التقدم والتطور، لكنها أصبحت وسيلة لهزيمة الآخرين والسيطرة عليهم».

قد لا يكون مؤتمر الريادة الثقافية في العالم العربي قد توصل إلى نتائج عملية، لكنه بلا شك فتح مساحة لنقاش تفاعلي ضروري وهام، وجريا على العادة كان مناسبة للدعوة إلى «إيجاد وسائل للحوار والتواصل حول الريادة الثقافية على المستويات المحلية والإقليمية والدولية، إضافة إلى تمكين الرواد الثقافيين من التواصل مع مجتمعاتهم، فضلا عن استكشاف طرق يتم فيها إشراك ممثلين عن مؤسسات رسمية في الحوار حول الريادة الثقافية».