لوحة للرسام مارسيل دوشان تثير نقاشا ساخنا في أميركا

بعد 50 سنة على وفاته

TT

الشهر الماضي، هرع نقاد وأساتذة فنون في جامعات أميركية نحو «متحف الفنون» في فيلادلفيا (ولاية بنسلفانيا) لمشاهدة معرض الفنان الأميركي ـ الفرنسي، مارسيل دوشان، وخصوصا لوحته «ايتان دونيه» (كما هو معلوم). والإشارة هنا إلى شيئين في اللوحة، أولا: شلالات تنهمر في مؤخرة اللوحة. ثانيا: مصباح كهربائي في أعلى اللوحة. لكن، لا يشير اسم اللوحة إلى الجزء الرئيسي فيها: امرأة عارية تماما، وتستلقي في وضع مخجل جدا.

ما هو مغزى الشلالات؟ ما هو مغزى المصباح؟ لماذا امرأة عارية تماما؟ قال نقاد فنيون، إن اللوحة ترمز لامرأة اغتصبت، وهي تستنجد برفع المصباح. وقال آخرون إن الشلالات ترمز إلى الطبيعة. توفي دوشان قبل 50 سنة، وأوصى بأن تحفظ اللوحة في متحف فيلادلفيا، الذي قرر كشفها مؤخرا. وربما اتفق كل النقاد على أن اللوحة ليست إثارة فقط، بل «إثارة مبالغ فيها».

قال هولاند كوتار، الناقد الفني في صحيفة «نيويورك تايمز»: «ليس في الأمر سر أو مغزى. قرر دوشان أن يخلد ذكرى امرأتين: زوجته، وعشيقته. تعود اليد اليسرى التي ترفع المصباح إلى الزوجة، وباقي الجسم إلى العشيقة. نعم هي لوحة فنية، لكنها لوحة إثارة شخصية له، ولوحة إثارة لكل من يشاهدها».

وقال بليك كوبنيك، الناقد الفني لصحيفة «واشنطن بوست»: «لا تمثل هذه اللوحة الإثارة المباشرة. إنها خليط.. إنها إثارة الفن، أو فن الإثارة». وأضاف: «حسمت اللوحة النقاش عبر التاريخ عن الهدف الحقيقي للرسامين والنحاتين، وهو أنهم، كلهم تقريبا، يريدون الإثارة، ثم يقدمونها كفن».

هذا حكم قاس لواحد من أشهر النقاد الفنيين في الولايات المتحدة، لكنه ليس أول رجل يصدر مثل هذا الحكم. أما ظهور ناقدات وأستاذات فنون جامعيات، خلال الثلاثين سنة الماضية، فقد أضاف إلى النقاش صوتا جديدا. وهو صوت، بالتأكيد، سلبي، أي أنه لا يشك لحظة واحدة في أن الرجال الذين رسموا، عبر التاريخ، النساء عاريات أو شبه عاريات لم يكن هدفهم الفن. اميليا جونز، واحدة من أوائل النساء اللاتي تخصصن في فن رسم النساء، قالت: «يجب أن لا نخدع أنفسنا. يريد الرجال أن يشاهدوا صور نساء عاريات أو شبه عاريات، والذين يجيدون الرسم أو النحت، يرسمونهن أو ينحتونهن».

هكذا، وصلت حركة تحرير المرأة الأميركية إلى نقطة أخرى، إلى إثارة الشكوك في ما صار يعتبر فنا، عبر مئات السنين.

في سنة 1953، جاء إلى واشنطن سير كينيت كلارك، وهو من أشهر مثقفي بريطانيا، وألقى محاضرة عن الفرق بين «نود» (العري) و«نيكيد» (التعري). وقال إن الفنانين الذين يرسمون وينحتون النساء يركزون على «العري»، أي يعتبرون جسد المرأة قطعة فنية. في الجانب الآخر، اعتبر كلارك أن «التعري» هو إثارة مباشرة.

لكن، كما قال ناقد «واشنطن بوست»، ربما لا يوجد فرق كبير بين الفن والإثارة. وقال: «ربما يريد الرجل الغربي أن يقول إنه متحضر جدا، وإنه، لهذا، لا ينظر إلى المرأة نظرة جنسية مباشرة. لكن، الحقيقة هي أنه، مثل كل رجل في كل بلد، في أعماقه ولد لعوب، (بلاي بوي)».

تاريخيا، بدأت ظاهرة رسم النساء بطرق مثيرة في أوروبا بعد بداية (عصر النهضة)، وكان ذلك نوعا من أنواع التحرر من سيطرة الكنيسة. في سنة 1520، انتشرت في روما رسوم نساء في أوضاع مختلفة، وقال رساموها وبائعوها ومشتروها إنها «فن مضاعف»، أي أن جسد المرأة فن، ثم إن رسمه في أوضاع مختلفة فن آخر. وكلما تعقد الوضع، زاد الفن فيه. لكن، أمر بابا الفاتيكان بمصادرتها.

ثم رسمت لوحة خالدة باقية حتى اليوم هي: «فينوس ومرآة»، التي رسمها الفنان الإيطالي تيتيان. وهي لفتاة عارية، مثل «فينوس»، إلهة الجمال عند اليونانيين القدماء، بالإضافة إلى امرأة يحملها طفل.

وفي سنة 1544، أرسل كاردينال في الفاتيكان مندوبا إلى منزل الرسام تيتيان لمنعه من رسم لوحة أخرى مثيرة. واتهمه بأنه يريد استغلال آلهة اليونانيين. (لا يعرف لماذا بقيت لوحة «فينوس ومرآة»). بعد اللوحة بأكثر من أربعمائة سنة، كتب مارك توين، الروائي والفكاهي الأميركي أنها «أقذر لوحة فنية في العالم».

وانتقد توين لوحة «نود مايا» التي رسمها، قبل ذلك بمائة سنة، عام 1800، الرسام الإسباني فرانسيسكو غويا، ولاحظ أن غويا رسم لوحتين: واحدة فيها مايا عارية، والثانية بملابسها. ووضع الثانية فوق الأولى. ومرة أخرى، غضبت الكنيسة الكاثوليكية الإسبانية، واستدعت غويا الذي وعد بأن تظل اللوحة الأولى مخفية وراء الثانية. لكن، في وقت لاحق انفصلتا. وقبل سنتين عرضهما متحف «ناشيونال غالاري» في واشنطن، الأولى إلى جوار الثانية.

عاصر غويا الإسباني أنطونيو كانوفا الإيطالي، الذي نحت «ناييد» من المرمر، وتوصف بأنها «فينوس مستلقية»، وأهداها إلى الملك جورج الخامس، ملك بريطانيا الذي كان رجلا لعوبا.

وعن هذا قال الناقد الفني في صحيفة «واشنطن بوست»: «مثال آخر على أن الفن لم يكن من أجل الفن، ولكن من أجل الإثارة». وأضاف: «باسم الفن، شاهدنا مئات اللوحات والتماثيل العارية. لكن، مثل كل شيء آخر، ما يزيد تقل قيمته». وأشار إلى أن لوحة الفرنسي ـ الأميركي، مارسيل دوشان، التي عرضت في فيلادلفيا الشهر الماضي، «ليست مثيرة.. ولكن مقززة». وقال إن صور النساء العاريات بسبب الإنترنت انتشرت مثلما لم ينتشر شيء آخر، وهذا «قلل من سحر التعري». وأضاف: «الذين يرسمون وينحتون من أجل الإثارة، لا من أجل الفن، يقفون الآن في مواجهة عدو قوي هو: الإنترنت».