رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية: ما يدور في الساحة الأدبية العربية صدى للمذاهب الأدبية العالمية

د. عبد القدوس أبو صالح يقر بأن شيخه محمود شاكر رفض فكرة ما يسمى بـ«الأدب الإسلامي»

د. عبد القدوس أبو صالح
TT

رغم أن الدكتور عبد القدوس أبو صالح رئيس رابطة الأدب الإسلامي العالمية يفخر بتلمذته على يد محمود شاكر الذي يعتبره علامة فارقة وشيخ العربية دون منازع، بخاصة في تحقيقه لديوان ذي الرمة، إلا أنه أقر بأنه لم يسمع منه ما يفرحه عن قيام رابطة الأدب الإسلامي في ذلك الزمان، رغم أنه يعتقد أن فيها قوة ممانعة أمام المذاهب الأدبية المستغربة من الواقعية الاشتراكية، إلى الأدب الوجودي، إلى البنيوية، وغيرها من المذاهب الشكلانية، إلى الحداثة التي يعتقد أنها كانت دعوة إلى التحديث في ظاهرها وإلى التدمير في حقيقتها ومقاصدها.

واعترف أبو صالح في حديثه لـ«الشرق الأوسط» بأن شيخه محمود شاكر صب جام غضبه على هذه الدعوة، وعلى من دعا ويدعو إليها، مؤكدا بأنه أطال في هجومه العنيف، وكان كلما أمعن في الكلام ازداد غضبه وانفعاله.

ولم يعجب الدكتور الأنصاري لموقف شيخه من الأدب الإسلامي، ومن تعصبه للأدب العربي، مشيرا إلى أن أحدا سأله ذات مرة عن أبي نواس: أهو شاعر إسلامي؟.. فقال للسائل: «نعم، هو شاعر إسلامي رغم أنفك».

وبرأي أبو صالح فإن شيخه وغيره ممن يقاربونه في نشأته وعمره كانوا يخافون أن تكون دعوة الأدب الإسلامي دعوة شعوبية تنمو على حساب الأدب العربي، وتعمل على تجزئة الأدب إلى أدب عربي وإسلامي.. ولم يكونوا يقبلون من دعاة الأدب الإسلامي قولهم: إن الأدب العربي أدب منسوب إلى اللغة العربية، كما ينسب الأدب الإنجليزي إلى اللغة الإنجليزية، والأدب الياباني إلى اللغة اليابانية، وهذه النسبة اللغوية للأدب لا تعني ما في مضمونه من مذاهب أدبية متصارعة. وقال: إن هذه المذاهب انتقلت من الآداب الغربية والشرقية إلى أدبنا العربي فجزأته، وجعلته أدبا مقلدا ومزورا، وقسمت أدباءه إلى أتباع للواقعية الاشتراكية، أو للوجودية، أو للشكلانية، أو مذهب الفن للفن، وأخيرا للحداثة التي وصفها الدكتور محمد مصطفى هدارة بأنها أشد خطورة من الليبرالية والعلمانية والماركسية.

وعن اعتراض بعض النقاد على تصنيف الأدب إلى أدب إسلامي وأدب غير إسلامي، قال أبو صالح: إن الأدباء المسلمين ينتمون إلى شعوب متعددة، ويكتبون بلغات شتى، ويصدرون في أدبهم عن نظرتهم إلى الوجود، وعن ظروفهم الشخصية وتجاربهم في الحياة، وشأنهم في ذلك كله هو شأن غيرهم من أدباء الأمم الأخرى.

وبرأيه أنه من البدهي أن يكون نتاج الأديب المسلم موافقا للإسلام أو لا يكون مخالفا لثوابته، موضحا أنه عندما يصنف الأدب مهما كان قائله أو لغته أو عصره إلى أدب إسلامي وأدب غير إسلامي، فهذا التصنيف يعتمد على مضمون النص الأدبي بغض النظر عن شخصية صاحبه ودينه وتوجهه الفكري.

وقسم أبو صالح النتاج الأدبي أيا كان نوعه أو عصره أو قائله إلى دوائر ثلاث: أولاها دائرة الأدب الملتزم بالتصور الإسلامي، وهي دائرة لا تقتصر على أدب الدعوة، بل تتسع لتشمل أي موضوع يدور حول الكون والحياة والإنسان. والثانية دائرة الأدب المباح، وهو أدب لا يخالف التصور الإسلامي وإن لم يلتزم به، وهي دائرة تتسع للأدب الجمالي المحض أو لأدب التسلية والترويح عن النفس. أما الدائرة الثالثة فهي دائرة الأدب الذي يخالف التصور الإسلامي ويضاده، وهذا الأدب هو الذي يرفضه الأدب الإسلامي، ويعد التصدي له من أول واجباته ومهماته، لأنه أدب العقائد والمذاهب «الآيديولوجيات» المنحرفة عن الإسلام، أو أدب العبث الهدام، أو أدب الجنس والانحلال، أو أدب الحداثة الفكرية المدمرة، لا أدب الحداثة بمعنى التجديد في المضمون والشكل.

ويعتقد أبو صالح أن العالم العربي كان يتعرض قبل المد الشيوعي لما يسمى بتيار التغريب الذي رفع لواءه الدكتور طه حسين وعدد من مريديه، ولكن سرعان ما تعاظمت الاتجاهات اليسارية لدى كثير من الأدباء العرب حتى لم يعودوا يعدون الدكتور طه حسين حاملا لواء التجديد، بل كتب أحدهم، وهو الشاعر صلاح عبد الصبور، في مجلة «صباح الخير» المصرية يقول: «لقد أصبحت يا دكتور طه إماما للرجعيين».

وقال أبو صالح إن المد الأدبي والثقافي اليساري حاول إكمال ما كان يقوم به دعاة التغريب من مصادرة الهوية والثقافة الإسلامية بما أتيح لهم من السيطرة على كثير من وسائل الإعلام، وبما مكنوا به في أجهزة الدولة للوقوف على ما بقي للأمة من مناعة ذاتية وتمسّك بالهوية والثقافة الإسلامية.

ويضيف: «عندما سقط النظام الشيوعي في الاتحاد السوفياتي كان لسقوطه صدى كبير أدى إلى إحباط الداعين إلى الواقعية الاشتراكية من الأدباء والنقاد الملتزمين بها.. وسرعان ما تخلوا عن الانتساب المباشر إليها ليعملوا مع ألفافهم من الوجوديين ودعاة الواقعية المنحرفة، وسائر الملتزمين بتيار التغريب تحت اسم جديد هو «التنويريون»، وتحت خيمة واحدة استظلوا بها على اختلاف مشاربهم وأهوائهم، وهي خيمة «الحداثة» الفلسفية الشاملة التي كان أدونيس وما يزال رافع لوائها ومنظرها الأول.

ويعتقد أبو صالح أن حقيقة الحداثة التي يدعو إليها أدونيس تجلت في كتابه «مقدمة الشعر العربي» حيث يقول: «إنها ـ أي الحداثة ـ تجاوز الواقع أو اللاعقلانية، أي الثورة على قوانين المعرفة العقلية، وعلى المنطق، وعلى الشريعة من حيث هي أحكام تقليدية.. وهذه الثورة تعني التوكيد على الباطن، وتعني الخلاص من المقدس وإباحة كل شيء».

ويرى أبو صالح أن معظم ما يدور في الساحة الأدبية في العالم العربي يكاد يكون صدى للمذاهب الأدبية العالمية، ولن ينقلب هذا الصدى إلى صوت أصيل متفرد إلا إذا كان مذهبا مستقلا عن تلك المذاهب وعن مضمونها العقدي (الآيديولوجي) الذي تقوم عليه، ولن تجد هذا إلا في الأدب الإسلامي الذي يراد له أن يكون مذهبا أدبيا للشعوب الإسلامية كلها، وإن ظلت لغته الأولى هي اللغة العربية لأنها لغة القرآن، ولغة العبادة، واللغة الأولى للحضارة الإسلامية.

وكان أبو صالح قد عالج في بحثه «قضية الأدب الإسلامي»، في ثلاثة محاور: أولها إثبات أن الأدب الإسلامي موجود في عصورنا الأدبية المختلفة، ومنذ انبلاج فجر الإسلام إلى يومنا هذا، مستعرضا خصائص الأدب الإسلامي في كل عصر من عصورنا الأدبية، مستشهدا بعدد من النماذج الشعرية والنثرية، مؤكدا أن التوجه الإسلامي كان هو الأصل في سائر أغراض الشعر والنثر. وتناول في المحور الثاني مفهوم الأدب الإسلامي، مستظهرا هذا المفهوم من تعريف رابطة الأدب الإسلامي لهذا الأدب بأنه «التعبير الفني الهادف عن الإنسان والحياة والكون وفق التصور الإسلامي».

وكان من السمات التي ذكرها للأدب الإسلامي أنه «أدب رباني يقوم على تصور عقدي ثابت هو التصور الإسلامي السليم، وهو بالتالي أدب ملتزم بثوابت الإسلام، وهو أدب شمولي واسع الآفاق، وهو أدب متوازن، يستمد توازنه ووسطيته من وسطية الإسلام، وأدب إنساني بمقدار ما في الإسلام من إنسانية، وهو أدب متصل عبر القرون، وهو بعد ذلك أدب ملتزم يهدف إلى صياغة الوجدان الإسلامي وبناء الشخصية الإسلامية، ويعبر عن آمال الأمة الإسلامية وآلامها، ويعمل على رفع الأمة إلى معركة المصير التي تخوضها الآن ضد التخلف والفرقة، وسوف تخوضها في المستقبل ضد العدو الإسرائيلي المتربص بها».

أما المحور الثالث في قضية الأدب الإسلامي تناول فيه مسوغات الدعوة إلى هذا الأدب، وذكر أن أهم هذه المسوغات يتجلى في أهمية الأدب وتأثيره ثم في تصحيح العلاقة بين الأدب والعقيدة، وفي السعي لتغيير واقع الأدب العربي، وواقع الأدب في العالم الإسلامي، وفي التصدي لتيار التغريب، وللحداثة المنحرفة وليس للحداثة بمعنى التحديث والتجديد الذي لا يخالف ثوابت الإسلام ولا يقطع صلته بالتراث.

وكان بحثه «شبهات حول الأدب الإسلامي» ردا على معارضي الأدب الإسلامي من شبهات وإشكالات ضد هذا الأدب، وانتهى إلى أن المعارضين يدورون حول سبع شبهات: شبهة المصطلح، وشبهة النظرية، وشبهة تصنيف النصوص، وتصنيف الأدباء، والعلاقة بين الأدب الإسلامي والأدب العربي، واتهام الأدب الإسلامي بالتقريرية والخطابة والوعظ المباشر، وأخيرا دعوى أن الأدب الإسلامي بدعة لا ضرورة لها. وقال أبو صالح في هذا السياق: «إن مفهوم النظرية الأدبية لا يطابق مفهوم النظرية في العلوم المادية والتطبيقية، وإنما أصبحت كلمة (نظرية) مصطلحا في الدراسات الأدبية المعاصرة للإشارة إلى الحقل المعرفي والفكري الناتج عن التقاء النقد الأدبي بالعلوم الإنسانية، أو الاجتماعية الأخرى، أو بالفلسفة على وجه الخصوص».

ويرفض أبو صالح المبالغة والتعميم في هذه التهم الموجهة إلى الأدب الإسلامي، غير أنه يقر بأنه لا يشفع للنماذج الأدبية الإسلامية حسن نية أصحابها ولا سلامة المضمون (وإسلاميته) في أشعارهم، بل ينبغي رفض الأدب المصطنع بتجاربه الكاذبة وبهارجه الخادعة أيا كان قائله ومهما كان مضمونه.

وأما عن الشبهة التي تذهب إلى أن الأدب الإسلامي بدعة لا ضرورة لها فيقول أبو صالح: «إنه لا بد لنا من أن نفرق بين الأدب الإسلامي نتاجا وبين الأدب الإسلامي مصطلحا أو مذهبا أدبيا، أما مصطلح الأدب الإسلامي، ونظرية الأدب الإسلامي، ومذهب الأدب الإسلامي، فكلها مصطلحات ومسميات جديدة مستحدثة، وهي إذا سميت بدعة فهي بدعة حسنة، بل ضرورة لازمة يقتضيها تطور العصر ومقتضى الصراع على البقاء، وليست تقليدا لما وضعه الغرب أو الشرق، وإنما هي وضع بديل إسلامي عن النظريات الأدبية والمذاهب الأدبية العالمية حيث يقف الأدب الإسلامي ليكون شاهدا ومقوما لهذه النظريات والمذاهب، التي سيكون وريثا لها في العالم الإسلامي الذي اجتاحته تلك النظريات والمذاهب الدخيلة، إذ ليس في عالم الأدب فراغ مطلق، وحينما لا تحل العملة الجيدة محل العملة الرديئة فإن العملة الرديئة سوف تسيطر على السوق، سواء في عالم المبادئ العقدية، أم في عالم المذاهب الأدبية».