المبارك: انشغلنا بـ «قفا نبك» وأهملنا البحث العلمي

استغرب خلو الموروث الجاهلي من مفردة «فكر»

د. راشد المبارك: لم اتهم التراث وانما اشرت الى ظاهرة واضحة
TT

الدكتور راشد المبارك واحد من قلائل المثقفين في العالم العربي المهتمين بقضايا الفكر. وفي هذا اللقاء من الرياض، يتحدث عن رؤيته للتراث العربي والإسلامي، وعن مفهوم «الطبقات»، و«العلماء»، وقضايا فكرية أخرى.

* جاء في كتابكم «قراءة في دفاتر مهجورة» ما يعتبره البعض اتهاما للموروث العربي والتراث الإسلامي، وهو ضعف أو قلة ما حمله هذا التراث من اهتمام بالفكر والمفكرين أو توجه إليه وإليهم، وقد كررتم ذلك في كتابكم «أوراق من دفاتر لم تقرأ».. فهل تبسط لنا وجهة نظرك في ما يتعلق بذلك؟

ـ من طبع الناس في الماضي والحاضر أن يجفلوا مما يشير إلى نقص ينسب إليهم أو خطأ يؤاخذون عليه، وما قلته عن بعض جوانب التراث ليس اتهاما ولكنه إشارة إلى ظاهرة شديدة الوضوح، الغريب فيها أنه لم يلتفت إليها أو يتحدث عنها أحد، فيما أعرف. هذه الظاهرة هي أن حظ الفكر، من حيث هو نشاط عقلي، لم يجد من الاهتمام به والتوجه إليه ما ينبغي أن يعطى له، والشواهد على ذلك يتعذر إحصاؤها، وأحسب أنه يكفي أن أذكر من ذلك التالي:

1ـ أنه لم يرد في الموروث الجاهلي، شعره ونثره، في ما عرفت، مفردة «فكر» بالمعنى والمفهوم الذي أشرت إليه.

2ـ أنه مع ما ورد في القرآن في مواضع كثيرة من دعوة إلى التفكر والتأمل وجعله من صفات المؤمنين «الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا»، فإن «التفكير»، ومن ثم «الفكر»، لم يكن محورا من المحاور التي دار حولها الموروث من ماضينا، ولم يتغير الحال في حاضرنا تغيرا كبيرا، لقد أطلق على الأعلام كثيرا من الصفات مثل: الفقيه، والمحدث، والطبيب، والشاعر، والأديب، والحافظ، ولم يحدث أن تطلق صفة «المفكر» على واحد من هؤلاء الأعلام.

3ـ أنه أُلفت كتب كثيرة عرفت باسم «كتب الطبقات»، مثل طبقات الفقهاء، وطبقات المحدثين، وطبقات الأطباء، وطبقات الشعراء، بل لقد أُلف عن ذوي العاهات، ولم يعرف أنه وُضع مؤلَف واحد عن طبقات المفكرين.

4ـ أن من اشتغل ببعض جوانب الفكر مثل الفلسفة أو العلم الطبيعي لم يكونوا موضع الاحتفاء والتقدير من أغلب أفراد مجتمعاتهم، فجابر بن حيان، وهو من هو في مكانته، مات في سجن العباسيين، والكندي مات معتزلا للناس، وابن الهيثم كان يكسب قوته من نسخ الكتب، ولم يكن حال أبو بكر بن الطفيل وأبو الوليد بن رشد يختلف عن ذلك كثيرا، أما نهاية لسان الدين ابن الخطيب ـ رحمه الله ـ فقد كانت مأساة.

* كذلك جاء في كتابيكم السابقين ما له صلة بما تقدم، وهو اتهامكم للسابقين بانشغالهم بما سميتموه «صناعة الكلام»، وأن هذا الأمر شغلهم، بل وصرفهم عن كثير مما هو أهم منه. هل توضح لنا ذلك؟

ـ الاتهام هو إطلاق دعوى من دون أن يُقدم مطلقها بينات ثبوتها، وما جاء في الكتابين المذكورين لا يعدو كونه إشارة إلى واقع، فقد كان الانشغال بأمثال «قفا نبك» وأخواتها، أكبر ما ينصرف إليه الناس ويشتغلون به، وكان مما اكتشفه نقادُنا الأقدمون تلك المعجزة البلاغية في قول امرؤ القيس: «قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزلِ»، فقد وقف واستوقف وبكى واستبكى وذكر الحبيب والأطلال في نصف بيت. لقد اكتشف ـ في نظرهم ـ قانونا من قوانين الكون الكبرى، وبقينا قرونا نردد هذا القول وأمثاله، وغاب عن من قاله والمرددين له أنه لو شرعت عصابة في محاولة السطو على مصرف مالي، ولمح أحد أفراد العصابة أفراد شرطة قادمين إليهم وقال لعصابته «الشرطة.. الحقوا بي» فإن هذا اللص قد كشف مصدر الخطر وعرّفه وعرّفَ به ونبه إليه ودلهم على طريق النجاة في كلمتين فقط، فعلى مقياس نقادنا ينبغي أن يوضع هذا اللص في رأس قائمة البلغاء، ومن المعلوم أن أكثر ما تزدحم به المكتبة العربية هو الكتب المتعلقة بصناعة الكلام، ولعل أضخم مؤلف عرف، أو من أضخم المؤلفات، كتاب «صبح الأعشى في صناعة الإنشا»، وأما أن ذلك قد صرف الناس عما هو أهم، فيكفي أن نعرف أنه كان لقلة من النابهين في تاريخنا بدايات لو وجدت بذورها التربة الصالحة لكنا قادة العالم في ما تفوق فيه وبه الآخرون وهو البحث العلمي وما أعطاه من تقانة ملأت الدنيا وشغلت الناس، وقد أعطى هذا التفوق أصحابه ما هم عليه من قدرة وسيطرة وغنى، لقد حضّر جابر بن حيان حامض الكبريت وعرف قانون النسب المتضاعفة، وكانت أبحاث ابن الهيثم في الضوء والإبصار من الفتوح العلمية التي استفاد منها الآخرون، ومثل ذلك اكتشاف ابن النفيس الدورة الدموية الصغرى، ولكن هذه البذرات لم تجد التربة الملائمة فتوقفت عن أن تكون شجرة ذات ثمر وأغصان، وابن خلدون الذي يُعد من العقول الكبيرة في تاريخنا يقول في مقدمته عن جابر ابن حيان: «وكبيرهم الذي علمهم السحر».

* من الأشياء التي سبقتم إلى الإشارة إليها والتنبيه لها عدم وجود أثر لخطب النبي صلى الله عليه وسلم في أيام الجمعة في كل أو معظم كتب الحديث، فهل تحدثنا عن ذلك؟

ـ هذه المسألة ـ بل القضية ـ من الأمور المشكلة، وكان من الظن أن تكون محل المساءلة والاستشكال من طلبة العلم السابقين ومن المشتغلين بالحديث، على وجه خاص، ومع ذلك فإنني لم أجد من وقف عند هذه القضية مستشكلا لها. وفي ما يخص هذه القضية في ذاتها نستغرب عدم توقف أحد عندها واستشكاله لها. وهناك أمر أكثر غرابة من ذلك، وهو أن صلاة الجمعة فرضت في السنة الأولى للهجرة أو قبلها، وذلك يعني أن النبي صلى الله عليه وسلم ظل يخطب في أيام الجمعة على مدى هذه الأعوام، فإذا عرفنا أن في العام 52 أسبوعا، أي 52 جمعة، وأن في كل جمعة خطبتين، فهذا يعني أن هناك 1000 خطبة أو أكثر من ذلك، وإذا افترضنا أن هاتين الخطبتين لا تأخذان من الوقت أكثر من 10 دقائق لكلتيهما، فإن هذه المدة تكفي لما يملأ 3 صفحات من مقاس «A4»، والحديث في الغالب لا يزيد على 3 سطور أو نحوها، أي أن في الصفحات الثلاث ثلاثين حديثا أو ما يقرب منها، وهذا يعني أن مجموع خطب النبي صلى الله عليه وسلم خلال المدة السابق ذكرها قد تصل إلى ما يقرب من 25 أو 30 ألف حديث. فإذا تذكرنا أن حضور الجمعة فرض، وأن الإنصات إلى الخطبة جزء من الجمعة، وأن هذه الخطب تمثل ما يمكن أن نسميه، بلغة العصر الحاضر، المنشور الديني والاجتماعي والسياسي، فيترتب على ذلك أن يكون أكثر ما يحفظ عن الرسول صلى الله عليه وسلم هو خطبه، وأنها ستكون أصح الأحاديث لأنها متواترة أو يمكن أن تكون متواترة، على أن المذهل أن الباحث يلتمس هذه الخطب في كتب الحديث، فلا يكاد يجد لها أثرا يذكر، ولا يجيب على هذا الاستشكال أن هناك كتبا أُلفت في خطب النبي، إذ ليس موضع البحث هو عدم وجود خطب له صلى الله عليه وسلم، لأن ذلك أمر لم يختلف عليه أحد، ولكن الاستشكال هو أين موضعها من كتب الحديث، وقد تحدثت في هذا الشأن مع كل من فضيلة الشيخ مصطفى الزرقاء ـ رحمه الله ـ فلم يزد على أن قال هذه معضلة وليس عندي لها جواب، كما أثرت ذلك مع فضيلة الشيخ محمد الغزالي ـ غفر الله له ـ فقال لعل النبي صلى الله عليه وسلم كان يخطب بسورة «ق»، فلما قلت له لو كان النبي فعل ذلك والتزم به لكان الخروج عن عمله بدعة، فقال ـ رحمه الله ـ لقد أصبت وأخطأت أنا، كما ناقشت هذا الأمر منذ أعوام مع فضيلة د. فاروق النبهاني، رئيس مدرسة الحديث الحسنية في الرباط، وقد كنت في ذلك الوقت رئيسا للمجلس التنفيذي للمنظمة الإسلامية للتربية والعلوم والثقافة، وقد أبدى الرجل دهشته لعدم التنبه لهذا الأمر، ووعد بأن يكون موضع أبحاث للدكتوراه، إلا أن ذلك لم يحدث.

* أيضا مما تحدثتم عنه أن مفردة «علماء» المحلاة بأداة التعريف «ال» المستغرقة في هذا الموضع للصفات، كما ذكرتم، لم ترد إلا مرة واحدة في القرآن وقد استخلصتم أنها تشير إلى علماء العلوم الطبيعية، وليس سواهم، فكيف وصلتم إلى هذا الاستنتاج؟

ـ مفردة «علماء» المحلاة بأداة التعريف «ال»، وهي تعني في هذا الموضع استغراق الصفات، لم ترد إلا في موضع واحد هو قول الله سبحانه: «أَلَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً فَأَخْرَجْنَا بِهِ ثَمَرَاتٍ مُخْتَلِفً أَلْوَانُهَا وَمِنَ الْجِبَالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَحُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهَا وَغَرَابِيبُ سُودٌ * وَمِنَ النَّاسِ وَالدَّوَابِّ وَالْأَنْعَامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوَانُهُ كَذَلِكَ إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ» وهاتان الآيتان من سورة «فاطر». والسورة في أغلبها تتحدث عن الظواهر الكونية، وجاءت مفردة «العلماء» بعد أن ذكر الله الماء والنبات والجبال والإنسان والحيوان، فالخشية هنا منسوبة إلى العالمين بالعلوم المتعلقة بتلك المواضيع، وصرفها إلى غير ذلك صرف للآيات عن سياقها، وعلى ذلك فما استنتجته هو الدلالة المباشرة للآيات.

* نشرتم في مجلة «العربي» الكويتية منذ 25 عاما أو أكثر مقالا انتظرتم فيه سقوط المذهب الماركسي وأعدتم نشر ذلك في كتابكم «أوراق من دفاتر لم تُقرأ»، وقد صدقت نظرتكم وسقط النظام الماركسي في مركز منشئه بعد مقالكم بعدة أعوام، فعلى ماذا بنيتم وجهة نظركم حينذاك؟

ـ لقد انتظرت سقوط النظرية الماركسية، وأن يسقط معها النظام الشيوعي، وليس ذلك رجما بالغيب ولكنني أراه من الشيء الطبيعي، لأن النظرية الماركسية مخالفة لطبيعة البشر، ذلك أن مما جبل عليه الإنسان أن يحب النفع لنفسه وأن يؤثرها بما يحب، وليس ذلك أمرا مستغربا ولا سيئا، فالسيئ أن تسلك النفوس كل طريق إلى ذلك وإن كان ضارا بالآخرين، ومحاولة النظام الشيوعي أن يرغم الفرد على ما ليس من طبعه لن يطول من باب أنه يمكن أن تخدع أو تُرغم بعض الناس بعض الوقت، ولكن غير الممكن أن تخدع أو تُرغم كل الناس كل الوقت، لقد ضحى النظام المستبد في روسيا الشيوعية بملايين البشر في سبيل إرغام الناس على مخالفة ما هو من طبعهم، ومن هنا كان انتظاري لسقوط النظام وما قام عليه من تنظير.