الحياة داخل أسوار عكا القديمة

المستوطنات الإسرائيلية والحرب بين الحلفاء والمحور في مذكرات فلسطينية

TT

في كتاب «ما يشبه السيرة لرجل من عكا» يبدأ التاريخ من عام 1938، حين فتحت حيفا لاستقبال الوافدين من المدن والقرى التي حولها، ومن مدن وقرى فلسطين بأكملها، ومن جميع البلدان العربية لتحسين أحوالهم المعاشية. وفيما يشبه الذاكرة يتحدث سليمان عبد المنعم، عن جده الذي عرف باسم ضاهر العكاوي، لأنه قادم من عكا، وكان يعرف في عكا بضاهر الحلاق نسبة إلى مهنته، أما اسم العائلة الصحيح فقد استتر في الأوراق الرسمية لا يتذكره أحد.

ثم يصف لنا عكا، وبحرها فيقول: «عكا القديمة تحيطها الأسوار، تغلق أبوابها عند المساء، ويشعر الناس عندما تغلق الأبواب الكبيرة أنهم أسرة واحدة أغلقت باب دارها».

ولد أبو سالم، في عكا في عام 1898، في ذلك الزمن كانت المؤامرة تحاك ضد الأرض والناس وأدارها ببراعة هرتزل اليهودي، الذي زعم أن فلسطين أرض بلا شعب لشعب يهودي بلا أرض، يعيش في جميع أصقاع العالم ولا بد من جمعه في دولة واحدة. هذا الوالد توفي في مخيم حمص، عام 1951 بعد الهجرة، وقد قال يوم وفاته «ليقرأ ولدي سالم القرآن فوق رأسي، وإذا عدتم خذوني معكم إلى عكا ولو كنت ترابا».

خاض الوالد الحرب العالمية الأولى، في منطقة القرم، والمعروف أن هذه الحرب أودت بالآلاف من أبناء العرب فالذاهب مفقود والعائد مولود، يفر الوالد من القتال مع أربعة. ويعطينا الكاتب وصفا دقيقا لبغداد التي أوصلتهم أقدامهم إليها ونهر الفرات الذي عبروه إلى مدينة حمص إلى لبنان فعكا التي تشرق الشمس فيها من البحر وتغرب في البحر، ثم يقبض عليه ويؤخذ إلى الترعة على الحدود المصرية التي كانت تتعرض إلى هجمات الجيش البريطاني الذي عبر القناة أخيرا وانسحبت القوات التركية إلى الشمال ودخلت مدينة القدس إلى دمشق.

عاد ضاهر إلى عكا، ليعمل في أحد الصالونات الكبيرة، واحتل الإنجليز عكا وقسمت فلسطين لتقع تحت الانتداب البريطاني بحسب اتفاقية «سايكس بيكو»، فكان لمدينة حيفا حظ كبير من المشاريع الحديثة (الميناء، المصفاة، مستشفى حكومي كبير، منشآت تجارية وصناعية وسكة حديد، وغيرها). صارت حيفا سوق العرب جميعا وقرر ضاهر الوالد الانتقال إليها ليعمل فيها. جاء أيضا اليهود إلى حيفا، جاؤوها من جميع أنحاء العالم، بشكل نظامي وغير نظامي، استوطنوا مرتفعات جبل الكرمل، وأطلوا على المدينة التي كانت تنهض في أحضان الجبل، شارك هؤلاء اليهود في الحركة الناشطة، وصارت لهم في الكرمل أسواق على الطراز الأوروبي، وتجارة واسعة وأعمال صناعية كبيرة، ويوما بعد يوم أخذ البناء يتسع في الكرمل ويمد جناحيه على المدينة، اليهود يتوسعون ويحاولون السيطرة على المراكز الهامة في البلد، الصناعية والتجارية، وفي المراكز يوجد فيها عرب ويهود، ثم بدأ الصراع، وكان صراعا حقيقيا وعلى أرض الواقع، الإنجليز ينحازون إلى اليهود، فهم أصحاب الوعد وهم يحاولون تثبيته وتنفيذه على الأرض.

أقام اليهود مستوطناتهم في المرتفعات المشرفة على المدن والقرى، كما في حيفا، واستيطانهم لجبل الكرمل وإعماره على الطريقة الأوروبية الحديثة: شوارع عريضة ذهاب وإياب وحدائق عامّة ونظام مرور حديث، هذه المنطقة لا يسكنها إلا اليهود الأجانب حصرا، أخذت هذه المنطقة من جبل الكرمل تستقطب مراكز الصناعة والتجارة ومراكز المال لجميع نشاطات «الحركة الصهيونية» في فلسطين.

أقيمت هذه المستوطنات في الأماكن الاستراتيجية من الناحية العسكرية، ففي «الهدار» أقاموا الأبنية البرجية للإشراف على كل صغيرة وكبيرة من المدينة حتى البحر، من هذه المستوطنات يمكن أن ترى أبعد من عكا بكثير.

توسع العرب في المدينة بشكل كبير، ففي شارع الناصرة الطويل، الذي يمتد من شرق المدينة إلى غربها، افتتحت «قهوة الراديو»، وسميت بذلك لأنها أول مقهى في حيفا تضع في صدرها الراديو (المذياع)، وكان المذياع حينها كبير الحجم ويعتبر «أعجوبة العصر»، وافتتحت محلات لم تكن معروفة من قبل مثل: الدراجات الهوائية والنارية والخياطة الإفرنجية والسينمات والمسابح، ومن أشهرها سينما «عين دور» ومسبح «بيت كليم» اللذين كانا بإدارة بعض اليهود.

نشأت في حيفا أحياء جديدة وضمت قرى قريبة إليها لاستيعاب القادمين فنشطت أعمال البناء ونشط سوق بيع البيوت وإيجارها. كما اتسعت شبكة المواصلات وشركات النقل بين حيفا والمدن الفلسطينية، وصارت القرى ترتبط بخط من خطوط المواصلات الحديثة، فصارت حيفا عروس البحر المتوسط.

في هذه الفترة اشتعلت الحرب بين الحلفاء والمحور، واشتد وطيسها وصارت حيفا هدفا للطائرات الألمانية والإيطالية، وطبق في كل المدن الفلسطينية نظام التعتيم وطلاء زجاج النوافذ والمحلات باللون الأزرق، وقصفت مصفاة البترول والسكة الحديد وكثير من المصانع ومعسكرات الجيش الإنجليزي، بالإضافة إلى الميناء. وفي هذه الفترة تم تقنين المواد التموينية للمواطن بالبطاقات الشهرية.

كانت الحكومة البريطانية تحارب دول المحور من جهة والثوار الفلسطينيين من جهة أخرى، فوسطت رؤساء وملوكا عربا ونجحت في مسعاها، فتوقفت الثورة وأفرج عن المعتقلين والموقوفين من الثوار إظهارا لحسن نوايا بريطانيا تجاه الشعب الفلسطيني. وعندما تساقطت القنابل على حي وادي الصليب، قال ضاهر لزوجته: «لا بد أن ننتقل إلى عكا، الألمان لم يضربوا عكا، فليس فيها مركز استراتيجي مثل حيفا». وتم الأمر فعلا.

سافر ضاهر إلى عكا وسكنها، استأجر دارا عربية كبيرة في الطابق الأرضي وسكنها، تقع هذه الدار بجانب «حمام الباشا» وتقابلها الزاوية الشاذلية، اشترى دكان حلاقة وجهزه واشترى مطعم أخيه وجهزه بثمن البيوت التي كانوا يملكونها في عكا. البيت (عقد كبير) غرفة لها أقواس، ولها نوافذ قرب السقف، بالإضافة إلى عقدين صغيرين وغرفة يمكن استعمالها كمطبخ وحمام، ويمر الكاتب على الطرقات والأزقة والدواب والأرصفة «فعكا مدينة مرصوفة بحجارة كبيرة، لونها أصفر غامق، ملساء، جميلة، وكأنها ساحات الدور المبلطة، هذه الطرقات والأزقة تبدو كأنها مسقوفة نظرا لتقارب البناء من بعضه، النوافذ متقابلة مما يدعو النساء إلى الحديث والمسامرة من النوافذ يحتسين القهوة، وكأنهن في غرفة واحدة، ويقال إن أهل عكا جميعهم رجال ونساء وأولاد، مصابون بعشق المكان، فالعكاوي يحب أرضها وبحرها وسورها وسماءها وهواءها، إلى درجة الوله. والفلسطيني كذلك، فلكل حجر حكاية ولكل بيت قصيدة ولكل قرية أو مدينة تاريخ، والبحر يحضن المدينة يلفها بذراعيه كما يلف الرجل العاشق حبيبته.

يتحدث الكاتب عن العادات والتقاليد التي تستهوي أهل عكا، فهم يعيشون في مدينة متعايشة ومتداخلة، كذلك يأتي على ذكر الأعياد وشهر الصوم، وكل فترة يذكرنا بالمثل الذي يقال بهذه المناسبة، يأتي على ذكر الحلويات والمشروبات الباردة (العصائر) ويزور الأسواق ويعرفنا على الباعة، وأهم مبيعاتهم من خضار وفواكه، ويأتي على ذكر المؤونة فكل أسرة تأتيها بموسمها، أكياس الطحين والبرغل وصفائح الزيت والزيتون والجبنة وتحضير اللبنة وتجفيف الملوخية والبامياء، صناعة الشعرية والكشك، ثم يذكر الألعاب للصغار والسباحة للصغار والكبار ويذكر أسماء العائلات من ترك أثرا في المدينة ولو صغيرا. ويزور الكتاب حيث البنات يجلسن في طرف والصبيان في طرف آخر والعصا من الجنة، كما كانت تقول الشيخة، فقد كان الكتاب امرأة. ثم يصف لنا ميناء الصيادين ومحطة القطار وشارع بيروت وجنينة البلدية، وساحة اللومان وسبيل الطاسات وجامع الجزار والمدارس ولباس الصبيان والكتب والدفاتر والشوارع التي تضاء بالفوانيس، عيد الفصح حيث يخرج الأهالي إلى جنية البلدية وإلى تلة النبي صالح، وهناك يخيمون تحت الشجر يرقصون ويغنون حتى الصباح، يذكر المقاهي والطربوش والصرماية والسترة البيضاء المقلمة، إنه ذاكرة شعب تتفجر بحلوها ومرها، يحكي لك عن الأعراس والأغاني الشعبية والحمام، يظل يحكي ويحكي إلى أن وقعت الفأس بالرأس، فقد أخذت حوادث الصدام تحدث بين العرب والصهاينة في جميع أنحاء البلاد، وأخذ الناس يتحدثون عن ضرورة التسلح والاستعداد للدفاع عن أرضهم وحقوقهم وعرضهم ودينهم.

ففي حيفا قام الصهاينة بتفجر عدة مناطق، حيث تم تفجير برميل كبير داخل السوق وذهب ضحيته أكثر من خمسين قتيلا ومئات الجرحى من المدنيين، وفي أحد الكراجات القريبة من ساحة الحناطير وضعوا متفجرات انفجرت وقت الازدحام الشديد وذهب ضحيتها العشرات، وحادثة وقعت في مصفاة البترول شرق مدينة حيفا، وحضرت سيارات الجيش وسيارات الإطفاء والإسعاف لإنقاذ العمال العرب المصابين، فقد وضع الصهاينة برميلا من المتفجرات مع البراميل التي كانت أمام المصفاة وانفجر في الساعة الثانية عشرة حيث كان عدد كبير من العمال العرب ينتظرون هناك، الضحايا كثر والقتلى بالعشرات والجرحى أكثر من مائة جريح. قامت قوة من العصابات الصهاينة بدخول بلد الشيخ وقرية حواسة، وذبحت النساء والأطفال والشيوخ، وقامت في المدن الفلسطينية مظاهرات إدانة لما تقوم به عصابات الهاغاناه واشتيرن. فيما بعد عرف أهالي عكا أن صهاينة مستوطنة «مستكن» ينصبون كمينا للقافلة الذاهبة إلى «حيفا». بعد جزء قليل من الساعة سمع دوي انفجار هائل، لقد أصابوا ست عشرة ضحية بينهم نساء وأطفال، ورد العرب عليهم بقصف قافلة تتجه من «نهاريا إلى حيفا»، فأسروا أربعة وسلموهم إلى الجيش الإنجليزي وقتلوا أربعة وأسروا مصفحة فيها يهوديان أحياء.

في بداية عام 1948، تحدد انسحاب الإنجليز من فلسطين في 15 مايو (أيار)، فقد ازدادت الحوادث والصدامات بين العرب والصهاينة من شمال فلسطين إلى جنوبها وكان لعكا وقضائها نصيب كبير في هذه الصدامات والحوادث، وخاصة معركة «بعدين» شمال عكا. والصدامات الأقوى فكانت في مدينة حيفا، وأما الجرائد مثل جريدة «الدفاع» وجريدة «فلسطين»، فقد كانتا تضخمان للمذابح التي يرتكبها العدو، وأعلن في فلسطين أن الجيوش العربية سوف تدخل وتضع حدا لهذه العصابات، والسؤال الذي كان يتردد بين الناس لماذا الجيوش العربية؟ سلحوا شعب فلسطين وادعموه وهو قادر على رد العدوان وطرد المحتلين.

اشتد الضغط الصهيوني على حيفا بمساعدة القوات البريطانية، وذلك في أوائل شهر أبريل (نيسان) 1948، وأخذ الأهالي يعانون نقصا بالمواد التموينية وقطع الكهرباء والماء، صار القتال من شارع إلى شارع، ومن بيت إلى بيت، وانسحبت القوات العربية من حيفا وترك السكان يواجهون وحدهم الوضع الصعب الدامي، وأخذت العصابات الصهيونية تطبق على المدينة من جميع الجهات وبات السفر إلى حيفا يواجه صعوبات كبيرة تصل حتى الموت، وبدأت القوات البريطانية تسلم المراكز الحكومية والعسكرية للعصابات الصهيونية، التي أخذت تتصرف تصرف الدولة المنتدبة وتحل محلها.

وقررت العصابات إفراغ المدينة من سكانها، فعلى سكان المدينة أن يتجهوا إلى الميناء لا يحملون معهم سوى الملابس التي يرتدونها على أجسادهم، البيوت بقيت مفروشة والمحلات عامرة والأسواق أغلقت على ما فيها، روع سكان حيفا من الطرق الإجرامية والهمجية التي مارستها العصابات الصهيونية، ورحل سكان حيفا إلى عكا، ثم باتت عكا مطوقة من كل جهاتها، وأخذ العدو يدكها بالمدفعية، ويقصفها بالقنابل. في 15/4 كان الهجوم الأول على المدينة من جهة «تل الفخار» ودامت المعركة ساعات طويلة، كان السكان يخرجون من بيوتهم وهم يحملون العصي والرفوش والمعاول، خرجوا والتحقوا بالمقاتلين وعادوا في الصباح من دون خسائر، وقالوا: «لقد رجع العدو عن عكا بعون الله».

بعد أيام قصفت المدينة قصفا مركزا من المقبرة الإسلامية، وشمل القصف كل المدينة، وكانت هناك إصابات بين السكان، على أثره قامت بعض العائلات بالرحيل، خاصة عندما سمعوا أن العدو سمم مياه الكابري.

بقية المناضلين نفذت ذخيرتهم فانسحبوا واختلطوا بالأهالي الذين طردوا من عكا باتجاه الشمال إلى لبنان وعمل جنود الاحتلال بكل وحشية بحثا عن الرجال والمقاتلين، وتابع تنفيذ خطة (D) داخل المدينة وطرد السكان لضمان مدينة فارغة وقرى فارغة.

يقول الكاتب: «كنا نحو سبع أسر حشرنا في سيارة صغيرة من نوع «دودج» خرجت من بوابة عكا الشمالية إلى شارع بيروت تحت إشراف قوات العدو التي تابعتنا بإطلاق النار حتى لا يتمكن أحد من النظر إلى الخلف، وكان يا ما كان وصلنا من فلسطين إلى لبنان. ومن مخيم المية مية إلى صيدا، ومنها إلى حمص الأبية على طرفي الشارع كان الناس يصفقون وهم يصرخون: فلسطين عربية.

* الكتاب: ما يشبه السيرة لرجل من عكا

ـ المؤلف: سليمان عبد المنعم

ـ الناشر: دار عبد المنعم ناشرون ـ حلب، سورية

ـ 416 صفحة ـ قطع متوسط