المسلمون في هولندا.. ذاك التعايش القاتل!

«الشرق الأوسط» مع أصدقاء فان غوغ بمناسبة مرور 5 سنوات على اغتياله

هل كان مقتل فان غوغ نقطة تحول في المجتمع الهولندي؟ («الشرق الأوسط»)
TT

أحيت هولندا أخيرا الذكرى الخامسة، لمقتل مخرجها ثيو فان غوغ على يد أصولي مسلم. هذه الذكرى ترافقت مع جدل ساخن حول الوجود الإسلامي في أوروبا عموما، وفي هولندا بشكل خاص. «الشرق الأوسط» كانت حاضرة مع أصدقاء المخرج، ومحبين له، لتسجل آراءهم ووجهات نظرهم، التي بدت في بعض الأحيان شديدة القسوة، ولا تبشر، مع مطلع العام الجديد، بتعايش سهل بين المسلمين والمسيحيين في القارة العجوز.

نصب تذكاري تمت إقامته في الذكري الخامسة لمقتل المخرج الهولندي فان غوغ في حديقة عامة بغرب أمستردام، تعبيرا عن الألم الذي يشعر به الهولنديون لمقتله على يد الشاب المغربي محمد بويري في نوفمبر (تشرين الثاني) 2004. النصب التذكاري جاء على شكل وجه بفم مفتوح، يعبّر عن حرية التعبير -التي يؤمن بها الهولنديون ويعتبرونها جزءا هاما من ثقافتهم ويفتخرون بها- ثم يتضاءل هذا الفم المفتوح بصورة تدريجية حتى يغلق تماما في النهاية. أي أن النصب يعبر عن إسكات الصوت الذي يؤمن بحرية التعبير وحرية النقد. لقد صمت وإلى الأبد فان غوغ بسبب شاب جاء من وجهة ثقافية مختلفة، استطاعت التأثير على ثقافة المجتمع المضيف!

ثيو فان غوغ (47 عاما) هو حفيد الرسام الشهير فنسنت فان غوغ الذي قطع أذنه ليهديها إلى فتاة أحبها، فهو سليل عائلة غريبة الأطوار! كان مخرج أفلام بارزا ومؤلفا وصحافيا وممثلا ومنتجا، ويعمل أيضا مدافعا عن حرية التعبير مستخدما الإعلام للتعبير عن آرائه المثيرة للجدل في الدين والسياسة والقيم الاجتماعية مما جعله محط الأضواء في هولندا. آراء فان غوغ النقدية، جعلته غير محبوب عند عدد من الأوساط، ووصفه أحد الكتّاب في عام 2004 بالـ«محارب الكاميكازي» أي الانتحاري، لأنه يعرب عن آرائه دون أن يحفل بالجهة التي ينتقدها أو برد فعلها. هاجم المسيحية واليهودية بقسوة، ولم يسلم المجتمع المسلم من نقده، فقد وصف المهاجرين المسلمين الهولنديين بوصف فاحش فأثار غضبهم. وبلغ الغضب مداه في أغسطس (آب) 2004 عندما عرض فيلمه «الخضوع» على التلفزيون الهولندي بمشاركة السياسية الصومالية آيان هيرسي يصور فيه أربع نساء نصف عاريات عليهن أخمرة غامقة اللون وشفافة ونصوص من القرآن الكريم، تتحدث عن العقاب الجسدي للنساء الناشزات مكتوبة على أجسادهن العارية. الفيلم الذي لم تتجاوز مدته 10 دقائق كان كعود ثقاب أُلقيَ على برميل بارود. خرج المجتمع المسلم في مظاهرات احتجاجية عارمة، وبعدها تلقى فان غوغ تهديدات بالقتل، لكنه لم يكن يعتقد أن التهديدات يمكن أن تصل مرحلة التنفيذ! مقتله كان نقطة تحول في السياسات الهولندية الخاصة بالمهاجرين، ووضعت على الأثر قوانين صارمة. وبات الكل يتوجس من الثقافات الزاحفة التي لم يحفل بوجودها الكثيرون في أوروبا إلى أن قوي عودها وأينعت وباتت تفرض وجودها ورؤاها على البلاد المضيفة.

«الشرق الأوسط» كانت حاضرة في جلسات نقاش تضمنت جيس أن ويستلاكن، المدير العام لشركة «كولمن» للأفلام ومنتج أفلام المخرج فان غوغ، والمخرجة الهولندية ماتيا نيفيان التي أخرجت فيلما وثائقيا عن فان غوغ تم بثه في ذكراه الخامسة على التلفزيون الهولندي وموقع «يو تيوب»، والدكتورة ميكا كولك أستاذة الأدب والمسرح بجامعة أمستردام.

نسأل ويستلاكن: «ألا تعتقد أن هذه الذكري تؤجج مشاعر سلبية في المجتمع الهولندي تجاه الإسلام والمسلمين وتعيد ذكرى الحدث حية إلى الأذهان؟»، يجيب: «ذكرى مقتله لا تقتصر على هذه المناسبة فقط. أنا أتذكر فان غوغ كلما شاهدت فيلما له أو مررت بمسكنه، بل رأيت قرب منزله شخصا يبدو عليه مسلما محافظا (بجلابية) ويقود دراجة كما كان قاتله لحظة القتل، وأهتف محمد بويري! هذه الذكرى الأليمة يتم بالطبع استغلالها من قِبل اليمين المتطرف الذي لا يرغب في وجود أجانب في البلاد. والمتطرفون موجودون في كل مكان، والغريب أن فان غوغ كان يساريا يرفض التطرف والتعصب. وبمناسبة الذكرى الخامسة لوفاته تجمع أصدقاؤه ووالداه وكان الشعور بالأسف هو السائد».

ماتيا نيفيان تقول: «في البدء كان هناك غضب عارم والآن حل محله شعور بالألم والحزن، وكل الإيميلات التي وردت إليّ بعد عرض الفيلم تحمل شعورا بالحزن. في دواخلنا جرح عميق. وبات الناس يتساءلون: لماذا حدث هذا؟ وكيف حدث؟» وتضيف: «مقتل المخرج فان غوغ أثار رعبا كبيرا في الأوساط الثقافية الهولندية وخوفا على حرية التعبير التي نتمتع بها من عقود. بعد الحرب العالمية الثانية والجرائم التي وقعت على أيدي النازية ومقتل الملايين وُضعت قوانين صارمة في كل الدول الأوروبية للحدّ من مشاعر العنصرية. علّمونا في المدارس أن لا نتعصب أو نفخر كثيرا ببلادنا خوفا من أن يأتي هتلر آخر. ويقولون لنا إذا أحببتم بلادكم فستضطهدون الآخرين وكانت القومية حينها أشبه بالفاشية. ولذا لم نعد نهتم ببلدنا، وفي السبعينات كانت أبواب هولندا مشرعة لكل المهاجرين واللاجئين السياسيين والاقتصاديين والمضطهدين. لم نقل لهم لا ولم نرفض وجودهم وعيشهم بيننا، ونسينا أنهم بمثابة القنبلة الموقوتة التي يمكن أن تنفجر في أي لحظة وتودي بحياتنا، وجودهم محميّ بتلك القوانين. لقد أثر هؤلاء المهاجرون بصورة كبيرة على حرياتنا التي نتمتع بها. ومقتل فان غوغ كان القمة في ذلك. لقد كانت صدمة حقيقة لنا وأدركنا أننا لا نعيش وحدنا بل بيننا جميع الثقافات التي قد تنجح يوما في محو ثقافتنا. لقد اجتمعنا كلنا نحن أصدقاء فان غوغ مع والديه في الحديقة أمام النصب التذكاري الذي أقامه الفنان الهولندي جيروين هينمان والذي أعتقد أنه نجح من خلاله في التعبير باختصار عما نشعر به».

ميكا كولك تقول: «أعتقد أن مقتل فان غوغ كان نقطة تحول في المجتمع الهولندي. لقد تم قتله بوحشية بطعنه عدة مرات ومحاولة ذبحه. هذا النوع من القتل جديد على المجتمع الهولندي. لقد فتحنا أبوابنا للمهاجرين من كل مكان وقدمنا لهم المسكن والتعليم والدعم المالي والطعام. لو كان الذي ارتكب الجرم يشعر بالغبن من الجوع والتشرد ونقص التعليم لوجدنا له العذر، لكنه شاب على مستوى عال من التعليم. ونعتقد أن مقتل وزير البيئة بعد مقتل فان غوغ بعامين من قبل شاب هولندي لم تعجبه سياسات الوزير، نوع من التأثر بتلك الثقافة الوافدة في قتل صاحب الرأي المخالف! بل هناك ما يعرف بجرائم الشرف التي ترتكب ضد مهاجرات أردنيات ومغربيات يُقتلن في محطات الحافلات والقطارات هنا بواسطة مجرم مأجور ويهرب. بدأنا نتساءل: لِمَ أدخلناهم؟ معظمهم لا يريد العمل أو الدراسة ومع ذلك يحلمون بركوب السيارات وبالمال الوفير، ومعظمهم لا يريدون الزواج بهولنديات فيحضرون زوجاتهم -وهن من الريف غالبا- ويحبسونهن في البيوت. أما الأطفال فينشأون في رياض الأطفال والمدارس ويتعلمون اللغة الهولندية، ثم ينقطع التواصل بينهم وبين أمهاتهم فيؤثر هذا على نشأتهم بشكل كبير. هذا هو صراع الثقافات كما أعتقد. لقد تم وضع قانون عام 2007 ينص على إجبار المهاجرين على تعلم اللغة الهولندية. اللغة مسألة جوهرية، إذا ما أراد المهاجرون العيش هنا عليهم أن يندمجوا في المجتمع الهولندي عبر تعلم لغته وثقافته. والآن هناك مليون مسلم يتحدثون الهولندية».

وتقول ماتيا نيفيان: «الهولنديون يتقبلون اختلاف الثقافات. وكما رأيت هنا توجد المحجبات والمنقبات والسافرات، ولكن في بعض الدول العربية تفرض سياسة اليمين (الإسلامي) المتشدد على كل المجتمع، وهذا غريب جدا. ولذا بعد تلك الحادثة صعد تيار متطرف هنا ينادي بطرد الناس والحفاظ على ثقافتنا، ليس هنا فقط بل في فرنسا وألمانيا. وهي حركات عنصرية جدا ترفض اللون الآخر والدين الآخر والثقافة الأخرى».

يضيف ويستلاكن: «المشكلة الآن تواجه الحجاب. البعض يقول لا للحجاب لأنه اضطهاد للنساء وقمع لهن. وفي نفس الوقت يصطدم هذا الرأي مع الرأي الليبرالي الذي يرى أن الحجاب حرية شخصية. وهي مسألة معقدة، أن يكون ارتداء الحجاب -إذا كنت مقتنعة به- أمرا ليبراليا، ولكنه إذا جاء بفرض من الأم أو الأب أو الإمام فهذه قصة مختلفة، لأن الكثير جدا من النساء هنا يرتدين الحجاب كنوع من التميز الثقافي».

هل توقع فان غوغ قتله؟ يجيب ويستلاكن: «الجميع حذروه أن رد الفعل لن يكون هينا أو سهلا، بل سيكون خطيرا. ولكن فان غوغ كغربي لم يقدّر الوضع أو يتفهمه بصورة كاملة أو بمعرفة نتائج أمر مثل هذا. في الغرب كل شيء مسموح وممكن، ولهذا صعب فهم الأمر عليه». أما ماتيا فتجيب: «أعتقد أنه كان يعرف، ولكنه تجاهل الأمر، فهذا طبعه في الحياة لم يكن يخاف أو يعبأ بشيء».

ألا ترون أن مقتله جاء رد فعل من فرد واحد فقط؟ فبقية المجتمع المسلم يعيش في مسالمة مع المحيط الهولندي؟ تجيب ماتيا «أبدا، لا نراه رد فعل شخص واحد، هي مجموعة أصولية متطرفة موجودة في كل مكان ولها أئمة يوجهونها، وهم موجودون أيضا في البلاد العربية ونحن هنا مهددون بالفعل».

ويستلاكن يقول: «المسلمون هنا لم يقولوا للشعب الهولندي نأسف أو نُدين هذا القاتل، لأنهم هم أنفسهم كانوا خائفين، ولم يعرفوا ماذا عليهم أن يقولوا. وأخيرا جاء أحدهم ليقول بصورة عمومية: (الإسلام لا يقرّ هذا الفعل). ذلك لأنه لا توجد بابوية عند المسلمين كما في المسيحية. ليس هناك متحدث رسمي يتكلم نيابة عن بقية المسلمين، لأن هناك الكثير من المدارس المذهبية الإسلامية. وأذكر أننا أنشأنا محطة تلفزيونية للمسلمين أسوة بمحطة لليهود والهندوس والكاثوليك والبوذيين، ولكن حدثت مشكلات وفوضى كبيرة، فللمغاربة إمام وللأتراك إمام، وهذا لا يريد لهذا أن يتحدث لمجموعته بمذهب معين، إلخ!».

يشعر أحباء وأصدقاء فان غوغ أنهم في ورطة، وأن مقتله لم يكن سوى محطة في علاقة صعبة مع المسلمين يحاولون فك ألغازها كل يوم.