دفاع عن الاستشراق!

لمحة عن بعض أعلام الاستشراق الفرنسي الذين أسهموا في التعريف بأدبنا في الغرب

غلاف الكتاب
TT

شهد القرن العشرون ظهور شخصيات استشراقية كبيرة في فرنسا من أمثال: لويس ماسينيون، أو ريجيس بلاشير، أو روجيه أرنالديز، أو مكسيم رودنسون، أو كلود كاهين، أو جاك بيرك، أو شارل بيلا، أو هنري لاوست، أو لويس غارديه، أو هنري كوربان، إلخ. ولم يبقَ منهم حيا حتى الآن إلا تلميذهم الذي يجيء بعدهم من حيث الجيل: أندريه ميكل. نقول ذلك باعتبار أن ماسينيون هو أكبرهم وأستاذهم جميعا بشكل مباشر أو غير مباشر.

وقد قدم هؤلاء إسهامات لا يُستهان بها من أجل دراسة التراث العربي الإسلامي أو دراسة المجتمعات العربية ذاتها. ومعظمهم عاش لفترة قد تطول أو تقصر في هذا البلد العربي أو ذاك، بل إن بعضهم وُلد هناك من أمثال شارل بيلا أو جاك بيرك. فالأول وُلد في المغرب والثاني في الجزائر. وعذرا لأني نسيت، فانسان مونتيل الذي اعتنق الإسلام من شدة حبه لتراثه الروحي والفكري فأصبح اسمه فانسان منصور مونتيل. وقد توُفّي قبل أعوام قلائل عن عمر يناهز التسعين.

أهم شيء قدمه الاستشراق الفرنسي والأوروبي عموما هو تطبيق المنهج التاريخي على التراث العربي الإسلامي لأول مرة في التاريخ. ففي السابق كان التراث يدرس بطريقة تبجيلية أو تقليدية غيبية فقط. أما الآن فقد أصبح يدرس بطريقة تاريخية، سوسيولوجية، أي من خلال موضعته ضمن الظروف التاريخية والاجتماعية التي شهدت نشأته وتطوره وتحولاته عبر التاريخ. وهنا تكمن الفائدة الكبرى للمنهجية الاستشراقية الرصينة. وللعلم فإن هذه المنهجية كانت قد طُبقت أولا على التراث المسيحي الأوروبي قبل أن تطبق على التراث الإسلامي العريق. وقد أثارت عندئذ موجة من الاحتجاجات العاصفة وردود الفعل العنيفة في أوساط المسيحيين المحافظين تماما كما أثار الاستشراق حفيظة التقليديين في الجهة الإسلامية فراحوا يهاجمونه ويظنون به الظنون. أقول ذلك وأنا أتحدث عن الاستشراق الأكاديمي العالي المستوى بالطبع لا الاستشراق السطحي السريع المسيَّس المشبوه.

لا أحد يستطيع أن ينكر أهمية البحوث التاريخية التي قدمها عميد الاستشراق الفرنسي ماسينيون (1883 - 1962) عن التصوف الإسلامي مثلا. ربما كان الزمن قد تجاوزها بعد مرور أكثر من نصف قرن عليها وظهور أبحاث أخرى جديدة عن الموضوع كأبحاث إريك يونس جوفروا. ولكنها لا تزال هامة وتستحق القراءة والنقاش. والدليل على ذلك أن كتابه الضخم الذي صدر عن الحلاج في أربعة أجزاء تُرجم من قِبل جامعة برنستون إلى اللغة الإنجليزية. وقد اشتهر ماسينيون ليس فقط بعمق تفكيره وإنما بجمال أسلوبه أيضا. وقد تخرجت على يديه أجيال ليس فقط من المستشرقين وإنما أيضا من المفكرين العرب كعبد الرحمن بدوي والشيخ عبد الحليم محمود الذي أصبح في ما بعد شيخ الأزهر، والمستشرق الكبير ذي الأصل اللبناني جورج مقدسي.

وأما ريجيس بلاشير (1900 - 1973) فقد كان ضليعا في اللغة والآداب العربية من جهة وفي الدراسات القرآنية والإسلامية من جهة أخرى. وقد تخرجت على يديه أيضا كوكبة من الباحثين المسلمين والأجانب ليس أقلهم أندريه ميكل ومحمد أركون. ومعلوم أنه ترجم القرآن الكريم إلى اللغة الفرنسية وقدم عنه عدة دراسات تاريخية مهمة. ويقال إنه نقل نظرية المستشرقين الألمان إلى اللغة الفرنسية ولكنه أضاف من عنده بعض الأشياء حتما. نقول ذلك على الرغم من أن الاستشراق الألماني لا يشق له غبار في ما يخص الدراسات القرآنية وكيفية تطبيق المنهجية الفللوجية التاريخية عليها. فله فضل السبق والريادة، والألمان إذا فعلوا شيئا أتقنوه. ولا ينبغي أن ننسى كتابه الضخم في ثلاثة أجزاء عن تاريخ الأدب العربي وأعتقد أنه تُرجم إلى اللغة العربية.

وأما مكسيم رودنسون فليس بحاجة إلى تعريف لأن علاقاته بالمثقفين العرب كانت قوية ولأن معظم كتبه تُرجمت إلى لغتنا العربية. نذكر من بينها «الإسلام والرأسمالية»، و«الماركسية والعالم الإسلامي»، و«جاذبية الإسلام»، و«إسرائيل والرفض العربي»، و«شعب يهودي أم مشكلة يهودية»، و«الإسلام: السياسة والاعتقاد»، و«العلاقة بين الإسلام والغرب»، إلخ. ويتميز رودنسون عن غيره بتطبيق المنهجية السوسيولوجية على تاريخ الإسلام والمجتمعات الإسلامية. فهو لا يكتفي بالمنهجية التاريخية الفللوجية أو اللغوية كما يفعل الاستشراق الكلاسيكي منذ القرن التاسع عشر، وإنما يضيف إليها منهجيات علم الاجتماع وتاريخ الأديان المقارن بل وحتى التحليل النفسي. وعلاوة على ذلك فإن منظوره تقدمي ماركسي خال من أي نزعة استعلائية أو عنصرية تجاه العرب على عكس التيار اليميني المحافظ في الاستشراق. وقد كان ماركسيا في البداية، بل وشيوعيا، ثم انفصل عن الحزب الشيوعي وأصبح ماركسيا حرا أو مستقلا ثم طلق الماركسية كليا في نهاية حياته دون أن يتخلى عن المبادئ السوسيولوجية الأساسية التي اكتشفها ماركس في أثناء دراسته للمجتمعات البشرية. وهي في رأيه مبادئ أو قوانين كونية تنطبق على المجتمعات كافة شرقية كانت أو غربية. وقد نشر بهذا الصدد مقالة مهمة غير معروفة كثيرا من قِبل المثقفين العرب هي «الفرق بين السوسيولوجيا الماركسية والآيديولوجيا الماركسية». وبالتالي فقد رفض الماركسية كآيديولوجيا دوغمائية عقيمة ولكنه لم يرفض القوانين الاجتماعية التي اكتشفها كارل ماركس. وللأسف فإن معظم المثقفين العرب أخذوا من الماركسية أسوأ ما فيها، أي الآيديولوجيا، وتركوا أفضل ما فيها، أي السوسيولوجيا أو علم الاجتماع، فكانت النتيجة كارثة.

وأما كلود كاهين (1909 - 1991) فقد كان ماركسيا ويهوديا أيضا ولكن مضادا للصهيونية مثل رودنسون وإن لم يكن منخرطا في العمل السياسي كزميله. فقد كان باحثا أكاديميا متقشفا بالدرجة الأولى ولا يتدخل في السياسة أو القضايا الراهنة على عكس رودنسون. وقد أمضى عمره المديد في كتابة البحوث التخصصية الدقيقة عن تاريخ المجتمعات الإسلامية في القرون الوسطى. وهو مشهور بأسلوبه الجاف الوعر، أي أسلوب الأكاديميين الكبار المتبحرين في العلم والذين يفضلون دقة الفكرة على جمال العبارة. من أشهر كتبه نذكر: «الإسلام منذ أصوله الأولى وحتى بداية الإمبراطورية العثمانية». ثم «الشرق والغرب في زمن الحروب الصليبية».

وأما جاك بيرك (1910 - 1995) فهو أشهر من نار على علم في العالم العربي. وربما كان أقرب المستشرقين إلى روح العرب. وكان صديقا لمعظم شخصياتهم الفكرية والسياسية من طه حسين إلى جمال عبد الناصر وآخرين عديدين. ومن أشهر كتبه: «العرب بين الأمس واليوم»، و«الخطابات العربية المعاصرة»، و«مذكرات الضفتين» أي الضفة العربية والضفة الأوروبية، و«أندلسيات»: حيث كان يحلم بعصر أندلسي جديد يجمع بشكل متناغم بين العرب والغرب كما حصل في الأندلس السابقة، هذا بالإضافة إلى ترجمته للقرآن الكريم التي اختتم بها حياته العلمية قبل أن يموت. وربما كان آخر نص كتبه هو: «أي إسلام نريد؟»، وفيه يحذر العرب من الغلوّ والإكراه في الدين ويدعو إلى إسلام التنوير والتقدم والحداثة دون الانقطاع عن الجذور الأولى وأفضل ما أعطته الحضارة العربية الإسلامية في عصورها الزاهرة. وبالتالي فقد كان من دعاة التوفيق الذكي والناجح بين الأصالة والمعاصرة.

هذه لمحة مختصرة جدا عن بعض أعلام الاستشراق الفرنسي الذين أسهموا في التعريف بأدبنا وثقافتنا في الغرب. بل وترجموا الكثير من نصوصنا وحققوا العديد من مخطوطاتنا القديمة بطريقة علمية تاريخية موثقة. هل نعلم أن الفضل في اكتشاف مخطوطات ابن رشد وابن خلدون وسواهما من كبار الإعلام يعود إلى الاستشراق بالدرجة الأولى؟ بعدئذ اهتم المثقفون العرب بهما ولكن ليس قبل ذلك، فنحن كنا قد نسينا تراثنا الإبداعي طوال عصر الانحطاط. وأول أطروحة جامعية عن ابن رشد كتبها رينان في القرن التاسع عشر، وقس على ذلك. وبالتالي فالاستشراق ليس شرا كله كما حاول أن يوهمنا تيار دوغمائي أو ديماغوجي مؤدلج. ورفضنا للعلم الاستشراقي بالمعنى العالي للكلمة يضرنا نحن قبل أي شخص آخر ويؤخر من انطلاقتنا أو نهضتنا المقبلة. ولو كنت مسؤولا عن أحد مراكز الترجمة والبحوث العربية لأمرت بفتح قسم كامل لترجمة أهم ما ينتجه الاستشراق الألماني والأنغلو ساكسوني والفرنسي وسواه إلى اللغة العربية. فهناك فتوحات معرفية حققها الاستشراق ولم نسمع بها حتى الآن، وهي تشكل إضاءات ساطعة على تراثنا ونحن في أمسّ الحاجة إليها الآن لتحرير أنفسنا من العقلية الدوغمائية المتحجرة والتيارات السلفية المنغلقة على ذاتها.

ولا أفهم كيف يمكن أن نظل بمنأى عن حركة البحث العلمي الخاصة بالتراث أو كيف نرفض التعرف على ما يكتب عنا وينشر في اللغات العالمية الأساسية. أضرب على ذلك مثلا الموسوعة الإسلامية في طبعتها الثانية أو الموسوعة القرآنية التي صدرت في لايدن بهولندا أو الكتاب الضخم للمستشرق الألماني جوزيف فان آيس عن اللاهوت والمجتمع في القرون الهجرية الثلاثة الأولى. وهو كتاب من الأهمية بمكان لأنه يكشف عن كيفية تشكل الفرق الإسلامية المختلفة بشكل علمي، تاريخي، سوسيولوجي، موضوعي. ولو أننا ترجمناه لساعدنا على التحرر من العقلية الطائفية والمذهبية التي تسيطر علينا اليوم بل وتكاد تدخلنا في حروب أهلية مدمرة. فلا يمكن التحرر من الرواسب السلبية التي تقسم المجتمع وتمزقه إلا إذا كشفنا عن جذورها التاريخية العميقة. وهذه هي المهمة الأساسية المطروحة على الفكر العربي حاليا. ولكنه لن يستطيع أن يواجهها بإمكانياته الذاتية وحدها وإنما ينبغي أن يلجأ إلى العلماء الأجانب أو إلى الباحثين العرب الكبار الذين يشتغلون في الجامعات الأجنبية من أجل تشخيصها وحلها.