هل كان ابن خلدون مفكرا تنويريا؟

كتب جديدة بالفرنسية لتقييم فكره وإنتاجه وترسيخ أسطورته أو نقدها وتحجيمها

TT

مرت على وفاة المفكر العربي الكبير عبد الرحمن بن خلدون 6 قرون و4 سنوات بالضبط «1332 - 1406»، وقد صدرت عنه في الآونة الأخيرة كتب عدة باللغة الفرنسية، لتقييم فكره وإنتاجه، وترسيخ أسطورته أو نقدها وتحجيمها.

والواقع أن الاهتمام به في الغرب ما انفك يتزايد منذ قرنين من الزمن، وأكبر دليل على حالة الانحطاط والجمود التي نعاني منها - نحن العرب المسلمين - هو أن الأوروبيين هم الذين اكتشفوا أهميته في بداية القرن التاسع عشر، وليس نحن! فنحن أهملناه طيلة القرون المتتالية، بل لم نهتم به إلا بعد أن لاحظنا أن الآخرين يهتمون به، ويدرسونه، ويحققون كتبه ومخطوطاته، وهذا ما فعلناه مع ابن رشد أيضا، وبقية المفكرين الكبار، وهذا فضل للاستشراق العلمي الأكاديمي الذي ننساه عموما، أو حتى نجهله، فتحقيق المخطوطات التراثية القديمة على أسس المنهجية العلمية والتاريخية الدقيقة هم الذين علمونا إياه.

ومهما يكن من أمر، فإن باحثي الغرب لم يصدقوا أعينهم عندما قرأوا مقدمة ابن خلدون الشهيرة، وفلسفته العميقة للتاريخ والحضارة البشرية، وقد وصل الأمر بالمؤرخ الإنجليزي الكبير أرنولد توينبي إلى حد رفعه إلى أعلى المستويات، عندما قال إنه أكبر منظر لفلسفة التاريخ في كل الأزمنة، وكل البلاد.. فقد بلور نظرية متكاملة عن صعود الحضارات وانهيارها، وأسباب كل ذلك.

أما المؤرخ الفرنسي المعروف فيرنان بروديل، صاحب التنظيرات الشهيرة عن مجرى التاريخ البشري وحركته، فقال عنه، ابن خلدون يعتبر من قبل المفكرين المعاصرين بمثابة أحد مؤسسي علم الاجتماع السياسي، وكانت فلسفته للتاريخ تقول ما معناه: الإمبراطوريات، أو السلالات، كالبشر لها حياتها الخاصة، فهي تولد، وتكبر حتى تصل إلى الذروة، ثم تنحدر بعدئذ وتموت، لكي تحل محلها إمبراطوريات أخرى، وهكذا دواليك.. وكان يعتقد أن عمر السلالة الحاكمة لا يتجاوز عادة 120 سنة، وهذا ما استنتجه من خلال دراسته العيانية الدقيقة للسلالات الإسلامية التي حكمت الأندلس، والمغرب، والمشرق على حد سواء، ومعلوم أنه عاش في ظل عدد من هذه السلالات، بل كان وزيرا لدى بعضها، بل ودخل السجن أيضا، وكان ملاحقا ومهددا في بعض الفترات، وبالتالي، فهو يعرف عما يتحدث، لأنه درس نظام الحكم من الداخل، وشاهد بأم عينيه كل المناورات والمؤامرات السياسية التي تحاك في بلاطات الأمراء والملوك.

أما المستشرق فانسان مونتيل الذي اعتنق الإسلام بعد طول دراسة ومحبة، وأصبح اسمه فانسان منصور مونتيل، فقد ترجم «مقدمته»، وقال عنه: «لقد سبق ابن خلدون فلاسفة التاريخ الأوروبي، خاصة العالم المسيحي الشهير «بوسويه»، بـ3 قرون إلى فهم حركة التاريخ، وتفسير دلالته ومغزاه، ولكن ابن خلدون سبق أيضا أوغست كونت إلى تأسيس علم الاجتماع بـ5 قرون، لقد طبق ابن خلدون، للمرة الأولى، منهجية جديدة على دراسة المجتمع الإنساني والحضارة البشرية، وكفاه ذلك فخرا.

ثم يردف المستشرق المعروف قائلا، لقد درس ابن خلدون بشكل تجريبي محسوس طبيعة الحضارة وجوهرها، أي الحياة البدوية، والحياة الحضرية، ومفهوم العصبية الذي يؤدي إلى تشكل السلالات الحاكمة، وآليات الهيمنة والسيطرة، وكيفية تشكل السلطة، والسلالات والطبقات الاجتماعية، والمهن والحرف التي يكتسب بها الإنسان رزقه، والعلوم والفنون.

أما الباحث الفرنسي المعاصر كلود هوروت، فقد أصدر كتابا مهما بعنوان: «ابن خلدون: هل يمثل إسلام التنوير؟»، والحقيقة أن بعضهم يعتقد أن ابن خلدون يمكن أن يمثل نموذجا يحتذى بالنسبة للمثقفين العرب اليوم، ويمكن أن يقدم لنا بديلا عن الأصولية المتطرفة، والنزعة الحداثوية المستغربة في آن معا.

ولكن البعض الآخر يقول إن ابن خلدون الذي كان نافذ البصر، فيما يخص علم الاجتماع البشري، لم يكن من أنصار الفلسفة إلى الحد الذي نتصوره، بل كان فقيها لاهوتيا أكثر مما كان فيلسوفا، وهكذا جمع بين النقيضين في آن معا، ولكن، لماذا لا نقول إنه جمع بين العلم والإيمان، أو بين العقل والدين، أليس هذا ما نحتاجه اليوم في العالم العربي والإسلامي ككل؟ للأسف، فهذا ليس رأي الفيلسوف الفرنسي بوميان الذي كرس لابن خلدون أيضا كتابا مهما أصدرته دار نشر «غاليمار» الشهيرة تحت عنوان: «ابن خلدون في مرآة الغرب»، فهو يعتقد أن ابن خلدون رفض الفلسفة بالمعنى الإسلامي للكلمة، وربما فعل ذلك، لأنه خشي من أن تؤدي إلى الخروج عن الدين، ولكنه كان مخطئا في ذلك، فالفلسفة التي تعني دراسة العالم الطبيعي بشكل منطقي وعقلاني قد تكون طريقا نحو الله أيضا، فالكثير من علماء الذرة المعاصرين مؤمنون لا ملاحدة.

والواقع أنه من خلال دراسة الظواهر الفيزيائية أو الطبيعية قد نتوصل إلى اللاهوت والميتافيزيقا، ونرتفع إلى مستوى الإيمان، وبالتالي، فالفلسفة لا تؤدي أوتوماتيكيا إلى الكفر، على عكس ما يظن الأصوليون، بل ربما أدت إلى عكس ذلك، وعندئذ، يصبح إيماننا مستنيرا وعقلانيا، لا انغلاقيا، ولا طائفيا، والواقع أنه يوجد تناقض عجيب في شخصية ابن خلدون، فهو من جهة كان عالم اجتماع حاذق المشاهدة والمعاينة للواقع، وهو من جهة ثانية كان لاهوتيا منغلقا من الناحية الدينية، كبقية الفقهاء في عصره، ومن هذه الناحية، كان أقل انفتاحا بكثير من الفارابي أو ابن رشد مثلا على الثقافات الأجنبية، وبالتالي، فلا ينبغي أن نبالغ في قيمته أو أهميته، فقد كان أصوليا من الناحية العقائدية، ولا يمكن أن يكون نموذجا لنا من هذه الناحية، ولا نقول ذلك من أجل تحطيم أسطورته، وإنما احتراما للحقيقة.

ولكن، أليس هذا الكلام يعني أننا نطلب من ابن خلدون أكثر مما يستطيع تقديمه لنا؟ وهل كان بإمكانه أن يفعل أكثر مما فعل؟ ينبغي ألا نسقط عليه مقولات العصور اللاحقة وإنجازاتها، فهو لا ينتمي إلى القرن الثامن عشر الأوروبي؛ أي عصر التنوير الكبير، وإنما إلى القرن الرابع عشر الإسلامي، حيث كان الانحطاط من حوله عاما وشاملا.

وبالتالي، فكفاه فخرا ما قدمه في ساحة علم الاجتماع السياسي، ودراسة القوانين التي تتحكم في نشوء الحضارات، ونضجها، فموتها، فابن خلدون على الرغم من عظمته، ليس فولتير، ولا مونتسكيو، ولا جان جاك روسو، ناهيك عن أن يكون دور كهايم، أو كارل ماركس.. ولكنه سبق كل هؤلاء إلى الدراسة العلمية للمجتمعات البشرية، صحيح أن علم الاجتماع حقق بعده قفزات هائلة في أوروبا، ولكن يكفيه أنه كان له شرف الريادة والسبق.

وفي الواقع، إن موقفنا من الحضارة الغربية الحديثة ينطبق عليه كلام ابن خلدون الذي ينص حرفيا على أن «المغلوب مولع بالاقتداء بالغالب في شعاره وزيه ونحلته وسائر أحواله وعوائده»، وهذا قانون سوسيولوجي ينطبق على كل المجتمعات والعصور، بل ينطبق على الغرب نفسه، عندما كان متخلفا وكنا نحن المتقدمين، فقد كانوا يترجمون للفارابي وابن سينا وابن رشد، وينبهرون بهم مثلما نترجم نحن الآن لكانط أو هيغل أو نيتشه أو هيدغر، وننبهر بهم أيضا، فدائما المتأخر ينبهر بالمتقدم، والفقير ينبهر بالغني.

وأخيرا، فلا بد من الإشارة إلى أن ابن خلدون كان سباقا إلى فن السيرة الذاتية في الأدب العربي، فقد تحدث عن حياته الشخصية قبل أن ينتقل إلى الحديث عن التاريخ والاجتماع البشري، وكم كان مؤثرا أن يقول لنا إن زوجته وأولاده ماتوا غرقا في البحر قبل أن يصلوا من تونس إلى شواطئ الإسكندرية، لكي يلتحقوا به، وينعموا بطيب العيش في مصر معا! نعم، لقد دفع ابن خلدون ثمن علمه باهظا، وهذا ما يزيد من إنسانيته، ولولا إيمانه، كمسلم، بقضاء الله وقدره لفقد أعصابه كليا بسبب هذا الحدث المفجع، أو لجن جنونه، فمن يستطيع أن يتحمل فقدان كل أسرته دفعة واحدة؟