دور الفرد في بيئة متخلفة

حازم صاغية في «هذه ليست سيرة»

هذه ليست سيرة المؤلف: حازم صاغية الناشر: دار الساقي، بيروت
TT

كتاب «هذه ليست سيرة» إطلالة جديدة وخاصة لحازم صاغية، تختلف نسبيا عن إطلالاته النقدية الأخيرة والمهمة والجميلة، منذ «ثقافات الخمينية» و«الهوى دون أهله» و«أول العروبة» إلى «العرب بين الحجر والذرة» و«وداع العروبة».

وإن كان هذا النص الجديد والصريح عودة إلى الذات وتجربتها الطويلة والغنية والمريرة، والبحث فيها وفي تطوراتها ومخاضاتها، فهو أيضا لا ينفصل في جوهره عن هموم النصوص الأخرى وقضاياها، ويشكل امتدادا لها بشكل أو بآخر، وانعكاسا آخر من انعكاساتها. وهو أيضا تكملة لبحث حازم الصريح والمجدي الحاصل الذي لا يكل حول أوضاع العالم، وأوضاعنا كعرب، وأوضاع دولنا وطوائفنا وجماعاتنا وأمراضنا السياسية والاجتماعية ووعينا السياسي. أضف إلى ذلك أن نصوص صاغية، ومنها السيرة المبكرة الأخيرة، تركز عادة على دور الفرد في بيئتنا المتخلفة، وكذلك دور الدولة والمؤسسات وأهميتها، وكل ما يقف حجر عثرة فعلا أمام تقدمنا وتطورنا وخروجنا من عزلتنا واندماجنا في العالم على تعقيداته. ولأن وعينا وتراثنا السياسي والاجتماعي يحمل قسطا كبيرا من العنف بكل أنواعه، فقد أولى الكاتب اهتماما كبيرا بهذه الظاهرة في معظم ما كتبه حتى الآن. وقد حاول تفكيك مبررات هذا العنف الأعمى وعدم جدواه وتسليط الضوء على الكثير من أسبابه، التي يعود بعضها، على الأرجح، إلى غياب السياسة بمعناها الحقيقي وفقر دم التفكير السياسي العام.

الكتاب على صغر حجمه وهمومه الفكرية الكبيرة، من الكتب النادرة في مكتبتنا العربية، وخصوصا الكتب المعنية بالذات وعلاقاتها مع العالم. فهو يفتح الذهن على عوالم شتى من دون أن يلغي القلق الإنساني الطبيعي الذي يساورنا تجاه قضايانا.

نحن أمام كتابة تحليلية حديثة ومتنورة تستقي من مشارب كثيرة. وعلى الرغم من أن الكثير من هذه المشارب أوروبية وتراثية، فإنها تمنح قيمة عالية للغة العربية التي تستخدمها وترتقي بها وتتجلى معها خلال محاولات العثور على ملامح شبكة الأفكار والروابط العربية وأبعادها الخرافية، وهي، بهذا المعنى، جزء من سيرة الكثير منا في النهاية. وكما رأى الكاتب نفسه في مقدمته، جاء «هذه ليست سيرة» ليجمع رغبات عدة، ترتبط بالسيرة السياسية وندرتها والعلاقة الحميمية مع القارئ والشوق إلى الكتابة.

ولأننا كشعوب «نسيء استخدام أي شيء»، يتعرض كاتبنا، وبشكل عام، للتجريح والتساؤلات المشوبة بالتشكيك، وكأنه جاء من كوكب آخر، يعرض علينا بضائع ليست «حلالا»، وربما كانت تحمل «ختما صهيونيا»، كما كان السذج من الناس في الماضي يقولون، لأنها لا تلبي رغباتهم اللغوية والفكرية والسياسية والفلسفية التي تغوص في بركة الاجترار. ولا نتحدث بالطبع هنا عن التخوين الذي لا يتوقف عندنا، لتفسير كل شيء وإحالته إلى أصليه الأبيض والأسود اللذين لا يفصل بينهما غير عالم الموت هذه الأيام. هذا الكتاب الجريء قفزة نقدية ونوعية أيضا، إذ إن العودة إلى الذات والتجربة الذاتية ومحاولة كشف تعقيداتها الإنسانية والسياسية والاجتماعية والتاريخية، شهادة ضد التسطيح والعجز الفكري وما يصفه الكاتب بالتصالح الثقافي بين الثوريين والرجعيين حيث «نلتحم في أيديولوجية شعبية وشعبوية جامعة تهبط بنا كلنا، جثة سمينة، بطيئة ومترهلة، في وادٍ نروح فيه نتهيأ، ونحن نضمد جروحنا للسقوط في وادٍ جليل آخر». وكانت تجربة لبنان وبيروت بشكل خاص مثالا على هذا الخراب والفوضى وغياب الوعي والحد الأدنى من التحضر والتمدن والغي في الجاهلية والإمعان في العبث والجهل.

ومن القضايا المهمة جدا، اللافتة للنظر في الكتاب أيضا، هي قضية الفرد في مجتمعاتنا ودور هذا الفرد في المجتمع وعلاقته بنفسه وبالعالم الخارجي. وهي قضايا لا يمكن القفز فوقها وتجاهلها، فغياب الفرد في مجتمعاتنا جزء لا يتجزأ من تخلفنا المخجل. وعلى الرغم من العولمة التي من شأنها وحدها، على الأقل هذه الأيام، مساعدة هذا الفرد على الخروج من كنف القبيلة والجماعة إلى التحرر والبحث والتشكيك والهدم والبناء، وبالتالي التعبير والتصريح والإبداع، فإنه لا يزال، بشكل عام، مشلولا عاجزا عن التفتح والتطور والنقد والمراجعة، حبيس الجماعة وأطرها الاجتماعية البالية، رغم كل المظاهر اللغوية والمادية الحديثة.

يتعرض الكتاب للكثير من الظواهر والعوالم السياسية والاجتماعية التي عاشتها لبنان منذ الستينات إلى نهاية الثمانينات (أي ما سبق الحرب الأهلية وخلالها وبعدها). وكيف كان الفرد عرضة لجميع التيارات والأهواء والاتجاهات السياسية والاجتماعية التي كانت تعصف بلبنان والعالم ولا تزال، وكذلك شتى الخرافات الشعبية والرسمية التي بنيت حولها. من قضايا العالم الثالث وأفريقيا وأميركا اللاتينية إلى عبد الناصر والناصرية والعلاقة مع الاستعمار الأجنبي وفرنسا والجزائر وأميركا وفيتنام وفلسطين والفلسطينيين وإسرائيل واليهود والعلاقة التعويضية بين المسيحيين والمسلمين في لبنان والتجارب القومية والشيوعية والخمينية وغيرها.

وتحتل بيروت خلال الحرب الأهلية، التي كانت مسرحا رئيسيا لها، حيزا كبيرا من الكتاب، فيروي لنا الكاتب علاقة الفرد بالمدينة وعلاقة الناس مع بعضهم البعض وبالسياسة والعالم، وعلاقة الطوائف مع بعضها والفرق بين المناطق. فيدخل في شرايين المدينة، وعوالمها، ومحطاتها ليكشف لنا من خلالها بعدنا عن الحضارة والعمران.

ففي الفصل المخصص للأشرفية، مثلا، التي كانت تعتبر قلب الجزء المسيحي من العاصمة بيروت أثناء الحرب الأهلية، ينقل، من خلال فترة وجوده البسيطة هناك، نماذج كاريكاتورية كثيرة عن الواقع الذهني والسياسي ورؤى السكان هناك للعالم الخارجي، ومنها آنذاك عبد الناصر والجزائر وغيرهما. فيقول، في مجال الحديث عن مسيو إميل، كان «عينة معبرة. فبقبعته الفرنسية الصغيرة البرية وبابيونه وجريدة (لوريون) التي يتأبطها، مارس التسامح معي لا بصفتي أحمل عاطفة مغايرة لعاطفته، مساوية لها في آن واحد، بل بصفتي مرشحا لإشفاقه كصاحب عاطفة أدنى. فكان مثلا يبادرني بالسؤال عن (الجزائريين) قاصدا أولئك الذين بلغوا من الجنون ما جعلهم يرفضون أن يصيروا فرنسيين. وبغض النظر عما كنت أجيبه به، كان ينهي حديثه بواحدة أخرى من بسمات الأشرفيين، فينصحني بالكف عن عبث طفولي كهذا. ولئن استفاد إميل من فرق السن وما يمليه علي من احترام، بقي أن حديثه عن الجزائريين كان يوقعه في مأزق تعبيري. ذاك أنه يتعفف عن التلفظ بالكلمات التي يعنيها فيروح، مثل (الماما)، يستعيض عنها بإشارات في الوجه والأنف واليدين توحي بالهدر واللاجدوى».

صاغية لا يكتب تجريحا، بل يكتب حزنا وألما على ما يحصل وعلى ما هو كائن وممكن. وفي هذا دعوة من الدعوات القليلة إلى الحياة في عز سوق الموت المزدهرة. فكل ما يحزن في طيات الكلام، رغبة ودعوة إلى الحياة والتقدم والتخلي عن الخوف والتردد وبالتالي الاندماج في الواقع والعالم والعيش، تدفعه رغبة عارمة لفتح العيون على هذا العالم الكبير والهائل والمثخن بالمآسي والحياة والجمال.