أسئلة يجدر بالفنان الإجابة عنها قبل الإمساك بالريشة

الرسم إبهار أم همّ شخصي ووطني؟

TT

«لماذا لا ترسم وردة أو امرأة عارية مثلا بدلا من اللوحات السياسية؟»، سأل المحقق الإسرائيلي الفنان الفلسطيني سليمان منصور إثر إغلاق الشرطة الإسرائيلية أول معرض له بعد ست ساعات من افتتاحه في رام الله عام 1980. ومنذ ذلك الحين لم يرسم سليمان منصور لوحة لامرأة عارية أو وردة بالمفهوم التزييني. سؤال المحقق الإسرائيلي لفت نظره إلى «أهمية وجود فكرة للعمل الفني تهمه كفنان وكفرد من المجتمع».

«العلاقة بين الفكر والفن التشكيلي» كانت محور النقاش في ندوة دعت إليها مؤخرا صالة «رفيا» للفنون التشكيلية في دمشق، على هامش معرض للفلسطينيين سليمان منصور وتيسير بركات، وإلى جانبهما شارك في الندوة يوسف عبدلكي وغياث الأخرس، وأدارها الصحافي أنور بدر، في حضور نخبة من الفنانين.

بدا عنوان الندوة عريضا، وتشعب الحوار ليشمل أكثر من تساؤل أساسي عن هوية الفن المعاصر، والتأثر بالغرب والحرية. سليمان منصور الذي ركزت لوحاته على معاناة فلسطينيي الداخل تحت الاحتلال تحدث عن غياب سوق للفن في العالم العربي.

يوسف عبدلكي عقب بأن «حرية الفنان الفلسطيني رغم الضائقة المادية هي أهم من أي مكسب مادي»، واعتبر أن أسباب غياب «السوق» هي أن «الفنانين في الستينات والسبعينات عملوا في ظرف شهد نهاية البرجوازيات العربية التي هرّبت أموالها إلى الخارج، ما أجهض فكرة السوق، وأصبح الفنانون رغم سوء أحوالهم أحرارا من أي ضغط».

تيسير بركات اعتبر أن الفنانين العرب، كانوا متحررين من الضغط المادي والعقَدي ومؤمنين بالفن، أنفقوا عليه من جيوبهم وعاشوا حياة صعبة. وعاد تيسير بركات ليؤكد أن «المحفز الأساسي لمسيرة الفن في الشرق كان عقَديا، ولهذا السبب ما رُسم في الشرق ليس ما تراه العين بل ما نفهمه عن الأشياء. أما في أوروبا فإن الفنانين خلال فترة الإمبراطورية الرومانية وعصر النهضة كانوا يقلدون الطبيعة، أي ما تراه العين. وفي أواخر القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين عندما بدأت تظهر حركة فنية عربية، كان جزء من الفنانين العرب المسهمين فيها قد درسوا في أوروبا، وأخذوا بنقل التجارب نفسها التي شاهدوها. واستندت غالبية التجارب إلى منطق وإحساس ليس لهما علاقة بمنطقتنا. وفيما كان لدى الغرب متاحف ومقتنون للأعمال الفنية لم يكن هذا متعارفا عليه في بلداننا».

الفنان غسان سباعي رأى أن السؤال هو عن نوعية التأثر، «وهل هو سلبي أو إيجابي؟»، قال السباعي: «بالنسبة إلى فن التصوير أو النحت فإن لدى العرب فنونا قديمة فرعونية، مسيحية، إسلامية، وغيرها. لكن حصل انقطاع طويل عن التطور العالمي، وعندما حصل تواصل في التاريخ الحديث برز التأثر، وأدى إلى نهوض ثقافي عالٍ من سورية إلى مصر، وهذا لم يمنع وجود فن وأدب عربي أصيلين». ومن هنا «العيب ليس بالتأثر بل كيف نتأثر وبمَ نتأثر».

غياث الأخرس لفت إلى أن الفنانين الفلسطينيين تمكنوا رغم الصعوبات من «اختراق العصر بشكل فني أكثر من بقية العرب»، كما أن «كبر القضية رافقه تطور في وسيلة التعبير عنها».

لكن تيسير بركات وجد خطورة في الاعتماد على قوة الموضوع، وقال: «هناك فنانون فلسطينيون وعرب اعتمدوا على درامية موضوع القضية الفلسطينية لتسويق نتاجهم، وهو ما يعد نوعا من الابتزاز».

يوسف عبدلكي أشار إلى أن فنانين فلسطينيين استطاعوا بموهبة كبيرة وفهم عميق لضرورات المرحلة تقديم لغة تشكيلية تقف على رجليها بقوتها الذاتية، وليس بقوة القضية. ويتفق عبدلكي مع الرأي القائل إن القضية وضعت الثقافة الفلسطينية في خانة النضال والكفاح، وإن ذلك يضع المثقفين الفلسطينيين في ظرف لا يُحسدون عليه، متذكرا في هذا السياق حوارا جرى بينه وبين الشاعر الفلسطيني محمود درويش منذ ثماني سنوات حيث شكا درويش أنه «لا يُنظر إليه كشاعر أولا وشاعر فلسطيني ثانيا». ويظن عبدلكي أن هذا ينعكس على كل المجالات الثقافية، وبالتالي فإنه شي صعب جدا على الروائي والفنان والمصور والنحات الفلسطيني أن «يصنع من قوة هذه القضية الضميرية العالية لغة عالمية بقوة أدواتها ولغتها».

غسان السباعي وصف معرض منصور وبركات بأنه «مفاجئ» وقال: «للأسف خلال سنوات مضت اعتمد بعض الفنانين الفلسطينيين للتعبير عن قضيتهم على فهم تراثي سطحي، ومعالجة شكلية سيئة»، وأكد السباعي على أن قضية وطنية كبرى مثل قضية فلسطين يجب أن يقابلها فن متطورا.

وأخذ يوسف عبدلكي على كثير من الفنانين الذين «يعتبرون أن الفن التشكيلي هو مهارات»، وقال: «آخر شيء يقوم به الفنان هو الإمساك بقلمه أو ريشته ووضعها على القماش، بينما هناك عشرات الأسئلة التي يفترض أن يجيب عنها قبل القيام بذلك».

سليمان منصور ليس ضد التأثر بالتقنيات المعاصرة لكنه يطالب بـ«فن صادق نابع منهم فعلي وليس فقط بقصد الإبهار والتزيين»، ونبه على أن «غالبية الفنانين الشباب يسلكون التوجه المعاصر، لا في التقنيات فحسب وإنما في المضامين، للحصول على اعتراف الغرب». ويجد سليمان منصور في ذلك ضررا إذ يجري تلبس قضايا يدفع الغرب باتجاهها مثل قضية المرأة، ويقول إنها ليست أكثر أهمية من القضايا الأخرى التي يواجهها الإنسان العربي، لا سيما تحت الاحتلال. وبما يشبه التحذير قال منصور: «هناك مؤسسات غربية داعمة لمؤسسات فنية في فلسطين تدفع باتجاه هذه الموضوعات، بهدف تجاهل قضية الاحتلال. وفي هذا السياق نجد عددا من الفنانات الفلسطينيات أصبح هاجسهن الأساسي جسدهن وكيفية التعبير عنه». وأورد منصور مثلا على ذلك تكريس فنانة فلسطينية نحو خمسة معارض لها لموضوع «أعضائها التناسلية»! وتساءل إن كانت مثل هذه الموضوعات تحتمل أن تعالج في أكثر من عمل أو عملين أو حتى معرض، وقال: «لا أفهم كيف يتحول هذا الموضوع إلى هاجس، بينما يتم تجاهل الموضوعات الأخرى الهامة في مجتمع إسلامي محافظ!».

أحد الحضور اعترض وقال إن الفن «تعبير ذاتي»، وسأل: «لماذا يجب على الفن أن يعبّر عن الآخرين؟ وإذا لاقى قبولا فهذا يعني أنه سيعيش».

سليمان منصور لم يقبل بأن فنانا يعيش في الأرض المحتلة ويعاني يوميا من ممارسات الاحتلال، يستطيع أن يفكر مثل أي فنان يعيش في بلد آمن مثل أستراليا مثلا، وقال: «يجدر بهذا الفنان التفكير بطريقة تتلاءم مع الظروف التي يعيشها، وتختلف كثيرا عن غيره».