الفلسفة هي أن نفكر بأنفسنا

مشروطة بإمكانيات زمنها ولا يمكن أن توجد بشكل نهائي

TT

ما هي المشكلة الأساسية للعالم العربي بل والإسلامي كله اليوم؟ إنها تكمن في غلبة الفكر السلفي عليه، وضعف الفكر النقدي أو الفلسفي إن لم يكن انعدامه. لهذا السبب تزدهر التيارات اللاعقلانية والأصولية في بلادنا، وذلك على عكس الأمم المتحضرة، حيث تسود الفلسفة النقدية التي تغذي العقلية الديناميكية المرنة التي تقبل بالمراجعة والتصحيح المستمر، كما تقبل بالحوار الديمقراطي بين الأطراف المختلفة والأخذ والرد كبديل عن العنف. نقول ذلك ونحن نعلم أنه لا ديمقراطية ولا شفافية دون ثقافة فلسفية. لكن ما هي الفلسفة بالضبط؟ وماذا يعني الفكر العقلاني النقدي؟

على هذا السؤال حاول أن يجيب «أندريه كونت سبونفيل»، أستاذ الفلسفة في جامعة السوربون، الذي كتب يقول «إن الفلسفة تحديدا هي أن نفكر بأنفسنا، وبشكل ذاتي مستقل عن كل المسلمات المسبقة سواء أكانت ذات طبيعة لاهوتية غيبية أم تحزبية سياسية ضيقة. لكننا لا نستطيع التوصل إلى هذه المرحلة إلا إذا اعتمدنا على فكر الآخرين، وبخاصة كبار فلاسفة الماضي. فالفلسفة ليست فقط مغامرة في المجهول، وإنما هي أيضا جهد وعمل، وقراءات كثيرة وصبر». وأولى الخطوات كثيرا ما تكون مزعجة، منفِّرة، صعبة. وبالتالي فتثني عزيمة الكثيرين عن مواصلة هذه المغامرة الفريدة من نوعها إلى ما لا نهاياتها. وهكذا ينكصون على أعقابهم ولا يكملون الطريق. ولذلك فإن عدد الفلاسفة قليل في كل عصر أو جيل. فالذين يستطيعون تحمل وعثاء السفر ليسوا كثيرين».

ولكن إذا ما صبر المرء عليها، أي على مغامرة الفلسفة، فإنه يشعر بمتعة عظيمة ويصل إلى لب اللباب. وذلك لأن الفلسفة هي جوهر المعرفة وزبدتها. والواقع أن الفلسفة ليست علما، وليست حتى معرفة بالمعنى الحصري للكلمة. وإنما هي تأمل عميق بجميع العلوم والمعارف المتراكمة أو المتوافرة في عصر ما. إنها علم العلم أو علم يتعالى على كل العلوم. فديكارت مثلا هضم كل المعارف العلمية السائدة في زمنه قبل أن يتفلسف أو يكتب كلمة واحدة. وكذلك فعل سبينوزا في النصف الثاني من القرن السابع عشر، أو كانط في القرن الثامن عشر، أو هيغل في النصف الأول من القرن التاسع عشر، إلخ.. الفيلسوف هو المثقف الوحيد المطالب بأن يهضم كل المعارف المتوافرة في عصره قبل أن يكتب حرفا واحدا. فلا أحد يطلب ذلك من الشاعر مثلا، أو الروائي، أو أي كاتب آخر. الفيلسوف مسؤول عن هموم العالم كلها. الفيلسوف ينبغي أن يكون ذا ثقافة موسوعية. ولهذا السبب كان كانط يقول «لا يمكننا أن نتعلم الفلسفة، يمكننا فقط أن نتعلم كيف نتفلسف. ولكن كيف؟ عن طريق التفكير بشكل شخصي حر». أقصد التفكير حول أنفسنا، أو حول الآخرين، أو حول العالم والسياسة، أو حول المجتمع والدين، أو حول تجاربنا الشخصية، الخ.. وفي أثناء الطريق سوف نلتقي حتما بفكر هذا الفيلسوف المحترف أو ذاك، وسوف نتناقش معه، أقصد مع فكره. وسوف نقبل ونرفض. وقد يكون هذا الفيلسوف أرسطو أو أفلاطون أو الفارابي أو ابن سينا أو ابن رشد أو ديكارت أو كانط أو هيغل الخ.. وهذا ما سيجعل فكرنا أكثر قوة وعمقا. ولكن لا ينبغي أن نتخذ هذا الفيلسوف مهما عظم كنموذج نهائي: أي كنموذج نكتفي بتقليده فقط والخضوع له. وإنما ينبغي أن نتخذه كمادة للتفلسف وإطلاق الأحكام عليه، وربما ضده. فلا توجد فلسفة نهائية في التاريخ. وكل فلسفة مشروطة بإمكانيات زمنها. ولو أنه كانت توجد فلسفة نهائية لكنا اكتفينا بأرسطو أو أفلاطون إلخ. يضاف إلى ذلك أن «العلم لا يفكر» كما قال هيدغر في جملة مشهورة أثارت ضجة وفضيحة في وقتها. فعالم الفيزياء لا يفكر، وكذلك عالم البيولوجيا، أو الرياضيات، أو الكيمياء، إلخ.. نقصد بذلك أنه لا يقوم بتأمل فلسفي حول المسائل الوجودية التي تهم كل شخص منا. إنه لا يقول لنا كيف ينبغي أن نعيش، ولماذا نعيش.

صحيح أنه يقدم للبشرية اكتشافات مهمة جدا، لكنه يظل منغلقا داخل دائرة اختصاصه. أما الفيلسوف فيخرج من كل الاختصاصات والعلوم دفعة واحدة لكي يتأمل فيها من فوق أو عن مسافة ويطل عليها من عل بنظرة بانورامية شاملة. وحده الفيلسوف قادر على ذلك. من هنا تأتي عظمة الفلسفة والفلاسفة. ومن هنا تأتي ندرة الفلاسفة الكبار في التاريخ.

وينطبق الأمر ذاته على العلوم الإنسانية كما على العلوم الدقيقة أو الطبيعية.. فقد يقدم لنا عالم الاجتماع أو الأنثروبولوجيا أو التاريخ معلومات غزيرة وتفصيلية عن المجتمع. لكن وحده الفيلسوف يستطيع أن يعتصرها لكي يخرج بنظرة شمولية عميقة عن هذا المجتمع.

لذلك فإن الفلاسفة الكبار لا يتفلسفون اليوم إلا بعد الاطلاع على نتائج العلوم الإنسانية. انظر في هذا الصدد مثلا للفيلسوف الألماني هابرماس، أو الفيلسوف الفرنسي بول ريكور، أو سواهما. فكل منهم مطلع على علم الاجتماع، وعلم النفس، وعلم التاريخ، وعلم الألسن إلخ.. والفلسفة لم تزدهر إلا في الغرب بعد أن توقفت في كل هذه الحضارات المذكورة بسبب هيمنة التحجر الفكري وعصور الانحطاط عليها. ولهذا السبب فإن الغرب تفوق على غيره من النطاقات الحضارية. وسبب تفوقه يعود إلى العلم والفلسفة. لقد سمح لنفسه بأن يفكر بحرية، في حين أن الآخرين انغلقوا على أنفسهم داخل تراثاتهم المتكلسة أو المتحنطة. إن الحياة الفلسفية تعني أن نعيش مع العقل أو طبقا لمبادئ العقل. ولكن الفلسفة تعني أيضا طرح أسئلة جذرية على الواقع، أو المجتمع، أو الدين، أو السياسة، أو التاريخ. وهي أسئلة ممنوعة إلا في الغرب، على الأقل حتى الآن.

نعم إن الفلسفة تبحث عن الحقيقة الكلية أو النهائية، وذلك على عكس العلوم الاختصاصية التي تبحث عن الحقائق الجزئية في مجال ما (كعالم الفيزياء، أو الكيمياء، أو الاجتماع، أو النفس، إلخ..). كما أن الفلسفة تؤدي إلى خلق (أو بلورة) مفاهيم جديدة. فكل فيلسوف كبير يضطر حتما إلى نحت مصطلحات خاصة به دون غيره. كانط له مصطلحاته، وكذلك هيغل، ونيتشه، وهيدغر، إلخ. ووحدهم الفلاسفة الكبار يستطيعون التوصل إلى مرحلة اشتقاق مصطلحات جديدة وبلورة نظريات مبتكرة خاصة بهم دون غيرهم.

والفلسفة تحررنا من أهوائنا وعصبياتنا. وكل فلسفة هي عبارة عن معركة نضالية. ولكن ما هو سلاحها؟ إنه العقل. ومن هم أعداؤها؟ البلاهة، أو التعصب الأعمى، أو الظلامية.. ومن هم حلفاؤها؟ العلوم بكل أنواعها من دقيقة وإنسانية. وما هو موضوعها؟ كل شيء، والإنسان في المركز. وما هو هدفها؟ الحكمة، والسعادة ولكن من خلال الحقيقة. كان كانط قد حدد موضوع الفلسفة بأربعة أسئلة: ما الذي أستطيع أن أعرفه؟ ما الذي ينبغي أن أفعله في هذه الحياة؟ ما الذي يتاح لي أن آمله وأرجوه؟

من هو الإنسان في نهاية المطاف؟ ولكن هذه الأسئلة الأربعة تؤدي إلى سؤال خامس أهم وأجل شأنا ألا وهو: كيف ينبغي أن نعيش؟ وما إن نحاول أن نجيب بذكاء عن هذا السؤال حتى نكون قد دخلنا في مجال الفلسفة، وحتى نكون قد ابتدأنا نتفلسف.

نعم، ينبغي أن نتفلسف لكي نعيش حياة أكثر إنسانية، وأكثر عقلانية، وأكثر سعادة، وأكثر حرية، وأكثر أداء للواجب.. وهذا ما ندعوه عموما بالحكمة التي تمثل سعادة بدون أوهام أو أكاذيب. هل يمكننا أن نتوصل إلى هذه الحكمة؟ إلى حد ما، ولكن ليس بشكل كامل أبدا. ولكن إذا كنا لا نستطيع التوصل إليها كلية، فإن هذا لا ينبغي أن يمنعنا من السير نحوها، من الاقتراب منها. ولكن ما هي الأخلاق؟ وهل للفلسفة نفع بلا أخلاق؟ إن الأخلاق هي مجمل المبادئ التي يلتزم بها شخص ما ليس من أجل زيادة سعادته أولا، لأن ذلك سيكون نوعا من الأنانية، وإنما من أجل الاهتمام بمصالح الآخرين وحقوقهم، من أجل ألا يكون نذلا أو وغدا. بمعنى آخر فإنه يلتزم بهذه المبادئ لكي يبقى مخلصا للصورة التي يشكلها عن البشرية، وعن نفسه.

إن الأخلاق تجيب عن هذا السؤال: ما الذي ينبغي أن أفعله؟ كيف ينبغي أن أتصرف في الحياة بشكل أخلاقي؟ وهل يلزمني أنا قبل أن يلزم غيري؟ فمن السهل أن أقول لغيري: كن كريما، كن شجاعا، كن صادقا، كن أمينا، إلخ.

ولكن من أصعب الصعب أن أطبق كل هذه الفضائل في الحياة اليومية. في الواقع إن اتباع الفضائل الأخلاقية لا يخصني أنا كفرد فقط، وإنما يخص المجتمع ككل. فإذا امتنعت عن السرقة، أو القتل، أو الاغتصاب، فإني أدافع عن المجتمع ككل، وليس فقط عن نفسي.

فمصير المجتمع يتوقف على تصرفات أفراده ككل. وإذا كانوا أخلاقيين في مجملهم (وليس في كلهم، فهذا مستحيل) فإن المجتمع يصلح وتستقيم أموره. فلو أن جميع الناس يكذبون لما عاد أحد يصدق أحدا، ولفسدت الأمور واختل المجتمع.

في الواقع إن المبدأ الأخلاقي الأساسي هو ذلك الذي نص عليه كبار الفلاسفة من أمثال كانط وجان جاك روسو. يقول هذا الأخير ما معناه «عامل الآخر كما تحب أن يعاملك. إن الأخلاق تعني أن تحترم الكرامة الإنسانية في أي شخص بشري كان، وألا تنظر إلى الآخر كمجرد وسيلة أو رجل كرسي أو مطية، وإنما كغاية بحد ذاتها.. ولكن اتباع السلوك الأخلاقي ليس أمرا سهلا، وإنما يحتاج إلى جهد ونضال ضد الذات وميولها الغرائزية، والشهوانية، والأنانية. ولا يمكن أن تكون أخلاقيا إلا إذا انتصرت على نفسك وتجاوزت نواقصك. والعمل الأخلاقي ينبغي أن يكون مجانيا، أي لا ترجو من ورائه أي منفعة شخصية».