صورة للغرب عن العرب كما هم

المؤلف يقارن ثورة 1920 في العراق بالثورة الأميركية عام 1776

العرب - تاريخ المؤلف: يوجين روغان الناشر: بنغوين بوكس لندن، 2009
TT

«لا خير في أن تكون عربيا هذه الأيام. فاعتلال النفس، من شعور البعض بالاضطهاد إلى كره الذات لدى البعض الآخر، هو القاسم المشترك الأعم في العالم العربي... ويبدو المشهد مظلما أيا تكن الزاوية التي ننظر منها إليه، ويزداد ظلاما بالمقارنة بمناطق أخرى من العالم...» (سمير قصير: «تأملات في شقاء العرب»).

من هذا «المشهد المظلم»، الذي رآه سمير قصير، الكاتب الصحفي الذي اغتيل في بيروت في يونيو (حزيران) 2005؛ بل من اغتيال رئيس الوزراء اللبناني رفيق الحريري في بيروت في فبراير (شباط) من ذلك العام، والانتفاضة - أو ثورة الأرز - التي أعقبت ذلك في 14 مارس (آذار) 2005، يبدأ الكاتب البريطاني يوجين روغان تسليط الضوء على الوضع الحالي في الدول العربية في مقدمة دراسته الحديثة عن «العرب».

والكاتب روغان، أستاذ مادة التاريخ الحديث في الشرق الأوسط في جامعة أكسفورد في بريطانيا وهو وثيق الاطلاع على ما يجري في العالم العربي، وخاصة أنه قضى طفولته في بيروت والقاهرة ثم عاد فعمّق اهتمامه بالشرق الأوسط من خلال دراسته الجامعية في أميركا، حيث درس العربية والتركية كي يتمكن من قراءة المصادر الأولية في التاريخ العربي.

بعد المقدمة، يبدأ الكاتب سرد تاريخ العرب الحديث منذ الفتح العثماني للقاهرة في 24 أغسطس (آب) 1516. فالنظر، بحسب قوله، إلى التاريخ العربي من خلال مشوار الأنظمة الحاكمة التي توالت منذ ذلك التاريخ، يكشف لنا أربعة عصور واضحة المعالم: حقبة الحكم العثماني، تليها حقبة الاستعمار الأوروبي، ثم حقبة الحرب الباردة، يليها العصر الحالي - عصر الهيمنة الأميركية والعولمة (Globalization). والسبيل الذي سلكه التاريخ العربي عبر هذه العصور مر بأدوار عرف فيها قمما ومنخفضات من حيث الاستقلالية والحكم الذاتي. ولئن قلنا إن العالم العربي خضع لأدوار مختلفة من الحكم الأجنبي فلا يعني هذا أن العرب كانوا مجرد رعايا سلبيين سائرين في خط انحداري واحد من التقهقر والتراجع. لا، بل إن التاريخ العربي في العصر الحديث كان على درجة عالية من الديناميكية، كما أن الشعوب العربية مسؤولة عن نجاحها وعن فشلها على حد سواء. (روغان: مقدمة الكتاب)

أسلوب روغان حيوي شائق، يتميز بسهولة السرد والوصف الغني للمَشاهد، فكأنما أنت ترى بأم عينيك، في الفصل الأول من الكتاب، الأشرف قانصوه الغوري يرتدي وشاحه الأزرق وعلى رأسه عمامة خفيفة، يتأهب لمعركة مرج دابق راكبا حصانه الأصيل. وتتوالى وقائع المعركة لتنجلي عن مذبحة قتل فيها الغوري وفاز فيها خصمه السلطان سليم العثماني، فبدأت بذلك حقبة الحكم العثماني في بلاد الشام ومصر. ولاة كثيرون دفعوا الجزية للعثمانيين، تتوالى أخبارهم بعد ذلك مع قصص الاستبداد العثماني حتى مطلع القرن العشرين حين اشتدت قبضة العثمانيين على المقاطعات العربية قبل انهزام تركيا في الحرب العالمية الأولى. ومع انهزام تركيا والوعود التي أغدقها البريطانيون وقتئذ، وكذلك خطابات الرئيس الأميركي وودرو ولسون الواعدة باحترام حق الشعب في تقرير حكومته، ظن الأوائل من القوميين العرب أن ساعتهم قد أتت. في مصر، التف الشعب حول سعد زغلول وحزب الوفد. في سورية والحجاز، برز الأمير فيصل وحلم الدولة العربية الكبرى. لكن خيبة هؤلاء كانت مريرة حين أقدم البريطانيون والفرنسيون على تقسيم البلاد العربية، التي وُضعت تحت انتدابهم في أعقاب الحرب، تقسيما سافرا يخدم أهواءهم ومصالحهم الاستعمارية.

«ثورة 1920 في العراق تحتل مكانة خاصة في الميثولوجيا القومية للدولة العراقية الحديثة وتصح مقارنتها بالثورة الأميركية عام 1776». يقول الكاتب: «فكل منهما لم تكن ثورة اشتراكية بقدر ما كانت انتفاضة شعبية ضد المحتلين الأجانب، وكانت كل منهما طليعة الحركات القومية الوطنية، كلٌ في البلد الذي نشبت فيه. وفيما لا يعرف أغلب الغربيين شيئا عن ثورة 1920 في العراق، تجد أن أجيالا من الطلاب العراقيين نشأوا على حفظ قصة هذه الثورة وكيف وقف أبطالها الوطنيون في وجه الجيوش الأجنبية والاستعمار في مدن منها الفلوجة وبعقوبة والنجف - مدن عراقية تماثلLexington) و(Concord في أميركا». (ص173)

أما الاتحاد النسائي العربي، فقد كان مزيجا غريبا من السياسة القومية الفلسطينية وثقافة الدرجة الراقية والوسطى من سيدات البيوت البريطانيات - كما يقول الكاتب (ص200). فسيدات الاتحاد كن يخاطبن بعضهن بأسماء وألقاب أزواجهن على النحو التالي: مدام كاظم باشا الحسيني، مدام عوني عبد الهادي... ثم إن اجتماعاتهن الرسمية كانت تتم حول فنجان شاي. وكما في مصر، كان لاشتراك المرأة في الحركة الوطنية قيمة رمزية كبيرة. والواقع أن مدام عوني عبد الهادي أنحت، في الخطاب الذي ألقته يوم المسيرة التي نظمها الاتحاد عام 1933، باللائمة على الجنرال أللنبي إذ قالت: إن النساء العربيات قد رأين إلى أي مدى أخل البريطانيون بوعودهم، وقسموا بلادهن، وفرضوا على الشعب خلال الخمسة عشر عاما الماضية سياسة لا بد أن تؤدي إلى إبادة العرب وإحلال اليهود مكانهم من خلال استقدام مهاجرين من شتى أنحاء العالم. (ص200).

استمرت الهجرة الصهيونية إلى فلسطين، ولم يسعف البريطانيون في منح الاستقلال للفلسطينيين العرب. لا، بل إن سيل المهاجرين اليهود في ظل الانتداب ازداد كثيرا في الثلاثينات من القرن الماضي مع وصول النازيين إلى الحكم في ألمانيا. فقد بلغت الهجرة اليهودية رقما قياسيا سنة 1935 حين دخل نحو 62000 يهودي إلى فلسطين، فازدادت بذلك نسبة السكان اليهود من 9% إلى نحو 27%. وشهدت سنة 1935 معركة قصيرة مسلحة هي معركة عز الدين القسّام قرب جنين، حيث استشهد القسام ورفاقه ممن نظموا الثورة التي باءت بالفشل.

ظل عهد الانتداب الفرنسي والبريطاني مستمرا حتى الخمسينات والستينات من القرن العشرين، وكانت هناك تحركات كثيرة وخيبات أخرى أبرزها هزيمة الجيوش العربية في فلسطين عام 1948. ومع بروز حركات الاستقلال ونجاح الشعوب في نيل استقلالها في كلّ من مصر ولبنان وتونس وغيرها، بدأ الحلم بإقامة الدولة العربية الكبرى يضمحل بالتدريج.

ونالت الجزائر استقلالها بعد نضال دامٍ مرير. وظهر جمال عبد الناصر قائدا بطلا في مصر، مناصرا للجزائر، وفارسا بارزا للقومية العربية على مدى الساحة. غير أن نيل الاستقلال كان نصرا زائفا في بعض الأقطار، لا سيما للمرأة الجزائرية مثلا، حيث جاء محمد خضر زعيم جبهة التحرير الوطنية يعلن، بعد ما قدمته النساء الجزائريات من بطولات وتضحيات أثناء النضال، أن على النساء أن «يعدن الآن إلى الكوسكس الذي هو شغلهن» (ص331). كذلك باءت محاولة الوحدة بين مصر وسورية بالفشل. وعرف اليمن - الذي كان قد نجح منذ 1918 في إرساء الحكم الذاتي في مملكة مستقلة - تدخلا سافرا من مصر عبد الناصر في شؤونه أدى إلى حرب داخلية شطرت اليمن إلى شطرين.

في ربيع عام 1967، تأزم الوضع كثيرا بين سورية وإسرائيل فاغتنم الاتحاد السوفياتي آنذاك الفرصة لتسريب خبر كاذب إلى المصريين مفاده أن هنالك حشودا إسرائيلية على الحدود بين البلدين. وكان السوفيات يوم ذلك مقهورين من السهولة التي أسقط فيها الإسرائيليون، بطائرات الميراج الفرنسية التي كانت لديهم، طائرات (ميغ - 21) السوفياتية الحديثة الصنع التي كانت لدى سلاح الجو السوري. ولعل السوفيات أملوا أن يتحرك المصريون - الذين كانت لديهم معاهدة دفاع مشترك مع سورية - لدى حصولهم على معلومات زائفة، وأن يتم بذلك احتواء الإسرائيليين خوفا من حرب على جبهتين (ص334). ومهما تكن الأسباب، فقد أمر ناصر الجيشَ بالتحرك نحو الحدود في سيناء وقام بإغلاق مضيق تيران في وجه الملاحة إلى مرفأ إيلات في 22 مايو (أيار) 1967.

يروي الكاتب، بإسهاب، أحداث الحرب التي تلت والتي أوقعت هزيمة فادحة بالعرب وأدت أيضا إلى احتلال إسرائيل الضفة الغربية بعد هذا التحليل:

«لا بد أن الحرب مع إسرائيل كانت آخر ما كان يريده عبد الناصر في 1967، إلا أنه كان يومذاك أسير ما كان قد أحرزه من نجاح. فالشعب في مصر وسائر البلاد العربية كان قد استجاب لخطاباته ودعاياته ووثق به. وكانت لديهم الثقة بقيادته وكانوا على يقين من أنه سيفعل ما يقول. وكانت مصداقية عبد الناصر وزعمه أنه القائد الرئيس في العالم العربي على المحك...» (ص336).

القضايا التي شغلت العالم العربي في القرون الأخيرة هي القضايا نفسها، التي مرت بها سائر الدول الأخرى في العالم: القومية، الاستعمار، الثورة، الثورة الصناعية، الهجرة من الريف إلى المدينة، النضال من أجل حقوق المرأة - كل المواضيع البارزة في التاريخ الإنساني في العصر الحديث لعبت دورها في العالم العربي. وقد وصلت أحزاب وطنية وعلمانية إلى الحكم في بعض الأقطار العربية. إلا أن أساليب القمع والتنكيل التي انتهجتها هذه الأحزاب عادت فحدت بالناس إلى العودة السلفية إلى التدين وإلى عقد الآمال على الإخوان المسلمين ومن جاء بعدهم من الدعاة والجماعات الإسلامية. من هنا، ما يراه الكاتب من أنه لو جرت اليوم انتخابات حرة نزيهة في العالم العربي، فأغلب الظن أن الإسلاميين سيحققون فوزا كاسحا. وقد تتفق مع الكاتب في هذا الرأي، أو قد تخالفه فيه، لكن يبقى لديك أن كتابه شامل ممتع عميق الاطلاع غني بالعِبر.

سعى الكاتب من خلال هذا الكتاب الصادر بالإنجليزية إلى ابراز وجهة النظر العربية وتقديمها إلى القارئ الغربي من منظار المؤرخين والكتّاب العرب. فالكتّاب الغربيون الذين عُنوا بتأريخ الأحداث في المنطقة العربية ورأوها، أو قل نقلوها إلى القارئ الغربي من منظارهم، كثيرون. أما روغان فيسعى إلى أن يقدم للغرب صورة عن العرب كما هم وكما يكتبون ويرون أنفسهم ويصفون الأحداث. لذا نراه يعود إلى كتب التراث الأدبي كيوميات البُديري، الحلاق الذي عاش وكتب مذكراته في حلب في القرن الثامن عشر، والجبرتي الذي عاصر وصول الحملة النابليونية إلى مصر في أواخر القرن الثامن عشر (1789)، وكتب عنها بإعجاب يشوبه الانتقاد والسخرية في بعض الأحيان. فحكى مثلا عن التجارب العلمية التي قام بها العلماء، الذين استقدمهم نابليون ضمن الحملة أمام علماء الدين المصريين، آملين أن ينالوا إعجاب هؤلاء، ولكن ما كل ما جاء به الفرنسيون من النظريات كان ناجحا أو مرموقا! ويعود، أيضا، إلى كتابات رفاعة الطهطاوي الذي درس في باريس (1826-1831)، وإلى كتابات ميخائيل مشاقة عن حوادث جبل لبنان، ومذكرات هدى شعراوي التي قادت مظاهرات لتحرير المرأة في مصر، ثم كتابات سيد قطب، ومذكرات زينب الغزالي عن التنكيل بالإخوان المسلمين في عهد عبد الناصر.

وفضلا عن رجوعه إلى المؤرخين المعاصرين العرب، يعود روغان إلى كتابات عدد كبير من السياسيين والكتاب الصحافيين العرب. من كتاب يوسف الحكيم، الذي كان وزيرا في حكومة الملك فيصل الأول، يستقي وثائق حول الثورة العربية وذهاب الأمير فيصل إلى مؤتمر فرساي، وأيضا إلى عصبة الأمم. وتراه يعود إلى كتب حديثة الصدور كمذكرات الكاتب العراقي محمد حديد التي صدرت في 2006، وإلى مؤلفات مخطوطة كمذكرات عوده القسوس (الكرك 1877-1943)، التي لم تزل غير مطبوعة إلى الآن. ويعود إلى يوميات أكرم زعيتر، وكتابات ساطع الحصري، ومحمد حسنين هيكل، وإيلي خضوري، ومحمد مهدي كبة، وفرحات عباس، ونوال السعداوي، وبطرس غالي.. وغيرهم كثيرون وصولا إلى يومنا هذا: سعد الدين إبراهيم، نعيم قاسم (حزب الله)، محمد عبد الرحمن اليحي، وسمير قصير!