المتاحف الفرنسية تدخل عهد «التسويق» و«الاستثمار»

متحف «اللوفر» .. الأول في العالم للسنة الرابعة على التوالي

TT

للسنة الرابعة على التوالي، يؤكد متحف «اللوفر» مكانته كأول متحف في العالم. فقد زار هذا المتحف سنة 2009 أكثر من ثمانية ملايين زائر في فرنسا، إضافة إلى ثلاثة ملايين ونصف مليون آخرين قصدوا العروض التي ينظمها المتحف خارج حدود فرنسا، مما يرفع العدد إلى 12 مليون زائر سنويا. إنه نجاح استثنائي لمتحف فرنسي يكشف أسبابه هذا التقرير.

قصة النجاح التي يعرفها متحف «اللوفر» العريق مع جمهوره منذ سنوات، تعود من جهة لتميز مجموعاته الفنية الزاخرة التي تعتبر الأولى في العالم من حيث الأهمية والتنوع (35.000 قطعة)، إضافة إلى امتلاكه تحفا نادرة كرائعة «الموناليزا» لليوناردو دي فانشي، ونسخة من «شريعة حمورابي»، وتمثال «فينوس دو ميلو». وهناك المعارض المستضافة في المتحف، التي تعتبر قيمة ثابتة تجذب يوميا أكثر من 27 ألف زائر معظمهم من الأجانب، حيث كان الإقبال كبيرا هذه السنة على بعض المعارض المتميزة مثل «أبواب السماء» أو «لابورت دوسيال» الذي قدم من خلاله «اللوفر» 350 تحفة جديدة من زمن الحضارة الفرعونية تمتع بمشاهدتها أكثر من 250 ألف زائر، ومعرض لأعمال الثلاثي الأكثر شهرة من رسامي العصر الذهبي الإيطالي (تيزيانو وتنتوري وفيروناز)، الذي جلب للمتحف أكثر من 400 ألف زائر. النجاح نفسه عرفه معرض «بابيلون ومونتينيا» الذي جلب للمتحف زيارة أكثر من 630 ألف شخص سنة 2008.

لكن «اللوفر» ليس أول مؤسسة ثقافية في فرنسا فحسب، بل هو أيضا أول مؤسسة ثقافية تفوز برهان الاستقلالية المادية وتنجح في ابتكار استراتيجيات خاصة بها للتحرر من قيود الوصاية الحكومية. والمعروف أن المتاحف الفرنسية ظلت لفترة، تناهز الثلاثين سنة، معتمدة كلية في تسييرها على المال العام، إلى أن تم سن تشريعات جديدة تسمح لهذه المؤسسات الثقافية الحكومية بالاعتماد على الأموال الخاصة لتخفيف العبء الذي أصبح يثقل كاهل وزارة الثقافة. فأصبحت معظمها، ابتداء من التسعينات، تتمتع بوضع قانوني جديد يجعل منها شركات وطنية، لكنها مستقلة إداريا وماليا. وهو الوضع الأمثل لإبقاء عين الدولة على مثل هذه المؤسسات التي ارتبط اسمها بتاريخ ومجد البلاد، مع تمكينها في الوقت نفسه من البحث عن مصادر تمويل أخرى. معظم المتاحف الوطنية في فرنسا، التي يصل عددها إلى ثلاثة وأربعين، بقيت تعتمد بصفة شبه كلية على المساعدات الحكومية، إلا أن إدارة متحف «اللوفر» نجحت سنة 2009 في تخطي هذه الوضعية، بل وقلب الموازين حتى أصبحت المداخيل الخاصة بهذه المؤسسة تشكل نسبة 60 في المائة مقابل 40 في المائة توفرها المساعدات الحكومية، مثل هذا وضعية لم تكن في الحسبان منذ سنوات مضت حيث كانت مساهمة الحكومة سنة 2001 مثلا تشكل 70 في المائة من ميزانية المتحف مقابل 30 في المائة من مداخيله الخاصة.

رياح التغيير التي هبت على أعرق متحف في العالم كانت على يد هنري لورات، المدير الجديد للمتحف منذ 2001، الذي لقبه مهاجموه بـ«مستر لوفر» للتعبير عن توجهه الإنجلوسكسوني في إدارة المؤسسة الثقافية. حيث أعلن هذا الأخير فور وصوله أن المتحف مستعد لإعارة تحفه وبيع خبرته مقابل مكافآت مالية، كما ذهب إلى حد توقيع اتفاقية «حسن الأداء» مع الدولة، مقابل الحفاظ على بعض المساعدات. وهي سابقة أولى بالنسبة إلى المؤسسات الثقافية في فرنسا، التي لم تتعود العمل بمنطق تقييم الأداء وتحديد أهداف مسبقة.

وأقل ما يقال، هو أن الأمين السابق لمتحف «أورسي»، والخبير في الرسم التشكيلي، أصبح يسير المتحف، كما تسير أي شركة كبيرة تتمتع بشخصية معنوية واستقلالية إدارية وميزانية تصل إلى 230 مليون يورو، حتى أصبح «اللوفر» في عهده أقرب في تنظيمه إلى نموذج المتاحف الإنجلوسكسونية، وخاصة البريطانية منها.

وأول التغييرات التي أحدثها هنري لورات، هو تمكين إدارة «اللوفر» من تسيير شؤون عمالها بنفسها منذ سنة 2004، بينما تعتبر شؤون عمال المؤسسات الثقافية الفرنسية عادة من صلاحيات وزارة الثقافة والاتصال. المهمة ليست بالسهلة، فالقصر الملكي القديم المتربع على مساحة 60.000 متر مربع، يعد أكثر من 2300 موظف من مختلف القطاعات والتخصصات، من عمال نظافة وحراس إلى أمناء المتاحف وخبراء التحف الفنية والتقنيين، ينتشرون ليل نهار في قاعاته الـ600. وعلى الرغم من أن عدد هؤلاء عرف زيادة 40 في المائة في السنوات الثلاث الأخيرة، فإن مصاريف تسيير المتحف عرفت استقرارا نسبيا بسبب غياب الإضرابات واعتماد إدارة المتحف في التوظيف على عقود قصيرة المدى، إلى جانب إلغائها لحق الدخول المجاني الذي كان ممنوحا للأساتذة والفنانين، مقابل الإبقاء على الحق نفسه للشباب بين 16 و25 سنة.

إدارة المتحف أصبحت مسؤولة أيضا عن إدارة المطاعم وتأجير قاعات المحاضرات وقاعات الحفلات للشركات الكبرى ودور الأزياء الكبرى، وقد سجلت هذه القاعات نسبة امتلاء وصلت إلى 90 في المائة سنة 2009 مقابل 78 في المائة سنة 2000. وهذا على الرغم من ارتفاع الأسعار التي تتراوح بين 3000 يورو لقاعة تتسع لستين شخصا إلى 62.000 يورو بالنسبة إلى قاعة مثل «قاعة نابليون»، التي تتسع لأكثر من 3000 مدعو. كما كثف المتحف من نسبة النشاطات التي ترفع من مداخيله الخاصة، كتنظيم ورش عائلية لتعليم الرسم التشكيلي أو النحت. وهي نشاطات قد تكلف عائلة مكونة من طفلين، على الأقل، 26 يورو للساعة الواحدة. النشاطات تضم أيضا فسحات منظمة في حدائق «تويليري» أو زيارات خاصة لبعثات دبلوماسية وشخصيات مشهورة خارج أوقات الافتتاح الرسمية، وقد تصل تكلفة الواحدة منها إلى 8500 يورو كأول سعر.

استغلال ماركة المتحف لجني المزيد من الأرباح، كانت أيضا من أوليات الإدارة الجديدة، حيث لجأت، مثلا، إلى منع كاميرات التصوير داخل المتحف، بعد أن لوحظ انخفاض في نسبة مبيعات السلع المشتقة كالبطاقات والصور والكتالوغات، ولجأت إلى طبع كتيب صغير عن نشاطات المتحف، يباع للجمهور بـ12 يورو. وعلى مستوى أكبر بدأ المتحف، في السنوات الأخيرة، يتبع منهجا جديدا لتحسين مداخيله الخاصة، عن طريق إعارة اسمه وخبرته ومجموعاته الفنية، لأطراف أجنبية وتنظيم معارض خارج حدود البلاد، بعضها بصفة منتظمة بمقابل مادي، كما هو الحال مع اليابان والولايات المتحدة. وهي التظاهرات التي تعرف تزايدا ملحوظا، حيث نظم المتحف أكثر من 28 معرضا سنة 2008، وأكثر من 19 معرضا سنة 2009 في 29 دولة مختلفة من العالم، شاهدها أكثر من 2.5 مليون شخص: 58000 في اليابان، 80000 في الولايات المتحدة الأميركية، ولأول مرة 100000 شخص في الصين بمناسبة معرض «نابليون واللوفر»، الذي نظم داخل جدران المدينة الممنوعة. ولعل أهم المشاريع منفعة بالنسبة إلى «اللوفر» ذلك الذي وقعه مع «الهاي موزيوم أوف أرت أتلنتا»، الذي أعار بموجبه المتحف الفرنسي لنظيره الأميركي، 142 تحفة فنية لمدة ثلاث سنوات مقابل مكافأة مالية تقدر بـ14 مليون يورو.

وهو ما مكن المتحف من تمويل عمليات ترميم قاعة الأثات الخاصة بالقرن الثامن عشر، إضافة إلى مشروع تبادل الخبرات مع اليابان الذي بدأ منذ 2006 والمسمى «موزيوم لاب»، ومشروع «لوفر أبوظبي» الذي سيجلب للمتحف الفرنسي ما يناهز المليار يورو على مدى 30 سنة. لكن أهم ما ميز عهد الإدارة الجديدة لمتحف «اللوفر»، هو انفتاحها الواسع على دعم الأموال الخاصة، بل وسعيها الحثيث إلى تطوير استراتجيات تعاون مع الشركات الكبيرة للفوز بعقود «نصرة»، أي «مساعدة».

وكان «اللوفر» السباق في إنشائه لقسم خاص مكون من عشرين موظفا على مستوى عال من الخبرة في تقنيات الاتصال والعلاقات العامة، شغلهم الشاغل هو البحث عن ممولين جدد لمشاريع المتحف وتظاهراته المختلفة بعد أن تبين عجز المصالح الحكومية عن تمويل نشاطات ومرافق هي في نمو متزايد. التقرير السنوي للمتحف أعلن عن مبلغ 25 مليون يورو، هي حصيلة ما جمع سنة 2009، بفضل هبات شركات وأطراف أجنبية مختلفة. وهو ما يجعله في مقدمة المتاحف العالمية الأكثر جلبا للأموال الخاصة، مثله مثل الأميركيين «كوغنهام» (27 مليون يورو) و«متروبولتان» (40 مليون يورو). مثل هذه المبالغ سمحت للمتحف بفتح فروع جديدة، كجناح الفنون الإسلامية، الذي أصبح ممكنا بفضل هبة الأمير وليد بن طلال وملك المغرب محمد السادس، التي وصلت إلى الآن إلى 30 مليون يورو.

التغيير الذي طرأ على العقليات التي أصبحت الآن أكثر تقبلا لدخول الأموال الخاصة تطلب وقتا طويلا. يتذكر هنري لورات، مدير «اللوفر»، أن عمليات النصرة الأولى، كانت غير محبذة بل وتطالها كثير من الشبهات وكأنها غسيل للأموال. اليوم لا أحد يتعجب من وجود اسم «كوكاكولا»، و«توتال» أو «أكسا»، إلى جانب معارض ينظمها المتحف. لكن الإدارة الجديدة ذهبت إلى أبعد من ذلك، فقد أعلنت لأول مرة في تاريخ المتاحف الفرنسية عن إنشائها لصندوق للهبات يقوم باستثمار مداخيل المتحف على طراز «الاندوفمتز» الأميركي، وهي الخطوة التي وصفها ديديي سيلز، المدير المنتدب للمتحف، بـ«الضرورية» لحماية رأس مال المتحف من الاندثار.

وعلى الرغم من أن 18 بنكا دخلوا سباق الحصول على عقد الاستثمار فإن إدارة المتحف تميل إلى اختيار بنك «أو بي إس أجي» الذي يتمتع بخبرة واسعة في هذا مجال. وقد تم بالفعل تزويد الصندوق برؤوس الأموال الأولى متمثلة في 400 مليون يورو هي حصيلة ما تلقاه المتحف من الإمارات العربية جراء تعاونه في مشروع «لوفر أبوظبي»، وينتظر أن يجلب هذا الصندوق أرباحا سنوية للمتحف، لا تقل عن 10 ملايين يورو. لكن التطور يطال شيئا فشيئا المتاحف الأخرى التي دخلت أيضا في سباق مع الساعة لتطوير هياكلها وعصرنتها وإنقاذ نفسها من خطر الاندثار. وهي المرحلة التي تحدث عنها الباحث جان ميشال توبيلام في كتابه «العهد الجديد للمتاحف»، والتي يرى أنها بدأت مع سنوات الألفية الثانية، وتتميز بانفتاح واسع للمتاحف على إشكاليات التسويق ومنطق تقييم الأداء الذي لم تكن تعرفه حين كانت تعيش في جلباب الحكومة.