لذة التيه بين الفطري والثقافي

خامس مواسم الفنان زمان محمد

TT

بمجرد أن تدخل مفردات الحياة الطبيعية في نظام العمل الفني، تنسلخ من هيئتها المتعارف عليها، لتتحول إلى علامات ثقافية، موّلدة بدورها لمخلوقات جمالية جديدة، حيث لاحظ غاستون باشلار أن مارسيل بروست تعامل مع الزهور في روايته «البحث عن الزمن الضائع» بمثابة وحدات فنية، فصارت بالتالي «فصيلة جديدة أغنى بها الرسام عائلة الزهور وكأنه عالم بستنة ماهر». وبهذا المعنى يمكن مقاربة خامس مواسم الفنان زمان محمد جاسم، أي كمحاولة شخصية لاستكمال دراما الفصول، وإعادة بعث علاقة التلازم البنيوي ما بين التصوير من جانب، باعتباره علامة ثقافية، وبين الطبيعة من ناحية كونها مرجعية قابلة للتشكيل الفني، عبر متوالية الأعمال المتسامية فوق ضرورات المحاكاة، والمنحازة عن دقة قياساتها البصرية، إذ تبدو وكأنها مؤسسة على اشتغال ذهني أشبه ما يكون بالتأليف المحقون بنزعة ثقافوية، لا تذهب بالفن إلى حافة الفلسفة، ولا ترضى بكونه مجرد بداهة، مع تصعيد واضح للحرفية الأدائية العالية.

الثيمة المركزية للعمل تقوم على أربعة أشكال تمثالية شبه مخروطية مفتوحة من الأعلى، تحاذي بعضها. قد تحيل إلى مصفوفة من السيقان الشجرية، أو ربما توحي بأسطوانات حجرية غير منتظمة لبقايا معبد متهاوٍ، أو قد تشي بملامح لفافات من الورق المقوى، فيما يبدو لوهلة أنها لوحات ملفوفة أو صحائف قابلة للطي، وهكذا يصعّد الفنان زمان محمد جاسم فعل تعميّة مضامينه، وتجريد بصرياته، لتستفز تلك الكتل اللاعضوية البصر بوابل من التكهنات والتأويلات الشكلية، حيث لا تبدو مقدودة من الطبيعة، ولا مشتقة من مألوفات الواقع، مهما تشابهت مع مرجعيات المرئي والملموس. والأرجح، أنها أعمدة حكمته، المصممّة بمزاجه الخاص. والمتأتية من سلطة ثقافية، تنهض على التذهين، والاحتكام إلى الخيال، حيث أدت كل تلك الاعتمالات الفنية والفكرية في مختبره الشخصي إلى تشكيل ذلك القالب الموّلد بدوره لمتوالية من الوحدات التكرارية المتشابهة كحوامل مادية، والمتغايرة كسطوح تصويرية، كما يشي بذلك الافتراق حركية الوحدات الداخلية، فالمواسم حالة كونية لها ملامح الدورة، وتحمل بالضرورة طابع النظام والتكرار والاستقطاب والتشاكل، إلا أنها في هذا المقام الجمالي المختلق تبدو خاضعة بالضرورة لمنطق وسياق العمل الفني، وفاقدة لخصائصها الفلكية.

إذن، ترمز تلك الماكيتات بلا مواربة إلى إيقاع الدورات الكونية للفصول الأربعة، إلا أن أشكالها المتماثلة، لا تنم عن التتالي المسطري بين المواسم، ولا تتقصد كمركّبات فنية تجسيد سيرة التعاقب الفلكي، فهي مفرّغة بقصد من الزمنية، ومن سطوة الإيقاع الكوني، وحتى من العلامات الطقسية، بالقدر الذي تتعبأ فيه بخصائص الفكرنة، كما يتأكد هذا المنزع الثقافي المتعارض مع حس النسخ الآلي للطبيعة عند تجاوز النظام السطحي لتلك الحوامل المتجاورة بشكل عمودي، وتأمل محتوياتها، حيث يتعزز هذا الاعتقاد بملاحظة خامس مواسمه، أو عمود حكمته الفنية الضائعة، الذي يصطف على مسافة من الأعمدة الأربعة، بما هو مقترحه الجمالي الذي يعكس صيرورة ذاته المبدعة مقابل الوجود، والذي ينتصب كأطلس جامع لمجمل الوحدات والمفردات المبعثرة في كل الأعمال، سواء في العوارض المجوّفة والمتراصّة فوق بعضها بشكل أفقي، أو في التنويع الإيحائي على الصفائح المحدودبة، أو حتى في التقاسيم الحرّة المدعوكة بحرفية وحساسية لافتة على سطوح اللوحات المنبسطة.

ورغم الارتباط الصريح لفكرة الأعمال بالنطاق الأيكولوجي، الذي يحتمل كمنحى فني محاورة الوجود الطبيعي بالمجسات الثقافية، فإن زمان محمد جاسم لا يبدو مهجوسا تماما بهذه الرؤية، أو واقعا تحت تأثيرها، بقدر ما هو أقرب إلى استعادة الدلالات السحرية للوحة، وإعادة تأوين أبجديات التعبير البصري، أي التخفيف من غلواء النزعة الحداثية بمعناها الفكروي، وتقليل سطوة التراكم الثقافي الذي اعترى الكثير من الأعمال الفنية وأدخلها في مأزق تعبيري، وعليه يمكن من واقع ما تقوله هذه التجربة، التقاط ملمح للتمرد الحذر على الأدائيات الفارطة في الحداثة، حيث تبدو لوحته فضاء صريحا للتأمل الروحي، المعاند برومانسية واضحة لفكرة كون اللوحة محلا للتثاقف، أو هذه هي طريقة رده على اغتراب الفنان عن لوحته، وفكرة إعادة تأسيس العالم على أسس من الذاتية المطلقة، فالمبالغة في الفهم المجرد على حساب نداء الحواس، يحيل اللوحة إلى بؤرة احتدام طافحة بالفكري، وضد الجمالي. ذلك هو ضمير لوحته، كما يعبر عنه بخصائص ثقافية معقلنة، فلوحته حافلة بالخطوط المائلة والمتعامدة والمتشابكة التي تعرف مستقرها، والتي تدلّل عليها ضربات الريشة الواعية. كما هي غنية بلجة لونية تتمازج أحيانا، وتتقابل بشكل مرآتي حينا آخر، وكأنها انعكاس تلقائي لانثيال ذاكرت البصرية، أو هي شهادة حداثته اليومية بالمعنى الجمالي، كما تتعضّد هذه القناعة عند ملاحظة هارمونية الحروف والبقع والأوشام والختوم والتهشيرات والتعاويذ السابحة بحرية في فضاء اللوحة، التي تحد من اعتباطية الحامل، وتحرث بياض السطح التصويري، كما تعمل بمثابة وحدات متشابكة وضابطة لنظام علاقاتها الداخلي، بما هي الشكل الجوهري لتفكيره، التي تهيئ مهاد اللوحة النفسي، أو الروحي بمعنى أشمل، وتشير في الآن نفسه إلى الصيرورة العميقة، أو الماورائية، التي يتم بموجبها تكوين الأبعاد الوجدانية والعاطفية لها، واستجلاب الإيقاع الكوني إلى مسالكها، وإخضاعه لمنطقها الداخلي، بما يعنيه إدراكه الواضح لذلك الإيقاع من قدرة على توليد الإحساس وتأوينه.

ثمة تناغم بصري بهيج بين محتوى تلك الكتل المشغولة بالألوان والخطوط وبين أشكالها المحوّرة. وفي المقابل تحمل شيئا من التعارض السطحي، حيث الأشكال المشبّعة بالإشارات والمعاني، التي ينبجس عنها شعور تلقائي بالطبيعة المضادة للمكّون الطبيعي، فذلك التكوين لا يكتمل تماما في مدار حسّي، بل يبتعد شيئا فشيئا عن المتعارف عليه من اللغة التشكيلية باتجاه يوحي بالموسيقى، خصوصا فيما يتصل بمسألة الإيقاع، لدرجة أن الأعمال تقترب من اللاشيئية، وكأن الفنان زمان محمد جاسم قد اهتدى لفكرة موضوعه، لكنه لم يقبض على الموضوع ذاته، وعليه لم يجد ذلك الشكل الذي يمكن أن يلبسه خياله، أو ربما أراد أن يموضع الشكل في حالة من التفلّت الدائم ضمن التكوين العام، وهنا مكمن اللذة والمفارقة أيضا في اكتمال الشكل ودلالات انفراطه، أو عدم اكتماله بالمعنى الفني، لدرجة أنه كاد في بعض المواضع، وبموجب تلك الانزياحات - الواعية أو اللاواعية - أن يُفقد التصوير بعض سجاياه التخييلية، وينجرف بالأعمال ناحية التزييني والديكوراتي.

الممارسة التشكيلية هي الامتداد الطبيعي للحواس، وبالتالي هي مظهر من مظاهر الكينونة، الأمر الذي يؤكد أن هيئة الأعمال الفنية في خامس المواسم، صادرة بالضرورة عن ذات زمان محمد جاسم المبدعة، وتحمل فيما تحمله حقيقة تصوره الكوني، بما تختزنه كمنجز من طقوس وآفاق وسياقات، فهذا المزيج الخطي اللوني المعبأ في كتل وأشكال غير ناجزة، هو جوهر إحساسه الآني بالوجود، أو حاصل تجربته الفكرية والأدائية، المتأتية على ما يبدو من ارتداد عمودي داخل ذاكرته الفنية، فيما يشبه المراجعة الروحية لتاريخ لوحته، والمساءلة الارتيابية لأسلوب أدائه، حيث يمكن تلمّس انفصامه الخلاق بين استواءين، وفهم حيرته المعلنة لابتكار موسم جمالي لا فلكي، هو بمثابة مقترح فني على حافة ما يسميه بودلير بجماليات اللامكتمل، أو اللانهائي، حيث يستجلي في هذه المتوالية حقيقة اتصاله النفسي بالأشياء. بعين ناظرة ومجبولة على المثاقفة في آن. وبذات مفتونة بالتجريد الحسي والشكلي والموضوعي، لكنها لا تريد التخفّف تماما من التشبيهي. أو تلك هي صيرورة لوحته، التي أحالها إلى لافتة مراوغة لعرض تيهه، واستجلاء تناقضاته، وتجريب استطاعته على إدارة التوتر الناشئ ما بين الفطري والثقافي.

[email protected]