النقد الثقافي في السعودية: مشهد ضبابي بين الناقد والمنقود

كتّاب: نخشى على أعمالنا من أدعياء النقد > نقاد: استطعنا بناء شراكة مع الوسط الإبداعي

علاقة ملتبسة بين النقاد والمبدعين في المشهد الثقافي السعودي
TT

كيف يقف النقد الثقافي السعودي من واقع المشهد الثقافي في السعودية، وما إسهاماته إلى الأعمال الإبداعية التي ينتجها المثقفون السعوديون؟ وهل يواكب هذا النقد حالة المشهد الثقافي في السعودية، أم أنه مجرد (بعبع) يخشاه المبدعون من تطاوله على نصوصهم واستلابها، كما يرى البعض؟

وما الأسئلة التي تواجه الناقد الثقافي السعودي؟ وإلى أين وصل مشروعهم النقدي؟ وهل ثمة وجود حقيقي لهذا المشروع؟

أسئلة تتجدد مع كل تظاهرة ثقافية تشهد ولادة أعمال إبداعية جديدة، وهي محل سجال محموم بين المنافحين عن هذا النقد وبين المهاجمين له، الذين يرون أن النقد الثقافي السعودي لم يتجاوز دور تدبيج المديح لأعمال لا تستحق الظهور. واستلاب أعمال أخرى وكتابة نهايتها. «الشرق الأوسط» تحدثت إلى مجموعة من النقاد السعوديين وكتّاب النصوص. واستطلعت آراءهم حول واقع المشهد النقدي في السعودية.

* د. الغذامي: النقد الثقافي نظرية جديدة

* يعرّف الدكتور عبد الله الغذامي، الناقد السعودي المعروف، النقد الثقافي بأنه نظرية حديثة في مجال النقد تهتم بالجانب المعرفي من حيث إنها تقرأ الثقافة بأنساقها الثقافية المختلفة في محاولة للكشف عن عيوبها، وهو الأمر الذي جربه الغذامي من خلالها محاولا كشف عيوب الثقافة العربية بمختلف أبعادها.

ويعتقد الغذامي، أنه منذ أن تشكل ما يسمى بالثقافة العربية وإلى الوقت الراهن لا يخرج عن كونه أنساقا مغمورة تتحكم في الخطاب، وبالتالي تتحكم في الأشخاص، ويقول: «إن الثقافة تبرمج تفكيرنا ورؤيتنا حول أنفسنا وحول العالم، فنتخلص من أجزاء منها ونطوّر أجزاء أخرى ونلغي ما عدا ذلك، بينما هناك أجزاء تستعصي على عملية الإلغاء، فقط تختفي أحيانا غير أنها تعود أحيانا أخرى، لأن حضورها قوي ومؤثر جدا».

ويشرح الغذامي دور النقد الثقافي في تفسير الصراعات، التي قد تنشب فجأة بين طائفتين أو قبيلتين أو مدينتين، تعيشان في ظل ظروف هادئة، حينها يكون للنقد الثقافي دوره في إجابة عن أسباب هذه الصراعات، التي تنشأ فجأة من دون توقع سابق كمثال على الدور الذي يؤديه هذا النقد.

ويرى الغذامي أن ثمة أسئلة تواجه النقد الثقافي، في سياق تأكيده أهمية هذا النقد، حيث يبحث في الأنساق المختبئة والمغمورة، وفي لحظة من اللحظات تتكشف وتدير عقول الناس. وهنا يتساءل الغذامي: ما النسق الذي كان مختبئا ثم صحا؟ وما الذي أيقظه من وهدته وحفزه على فعل ذلك؟

ويشير الغذامي إلى أن أهم المشكلات، التي يتعرض لها النقد الثقافي حين يتشابه المنتوج الثقافي مع منتوج سابق، فيحاكيه، فيبدو المقلّد العظيم كأنه مبدع عظيم.

ويعتقد الغذامي أن أهمية النقد الثقافي، تكمن في كونه يبحث عن النسق (المتشعرن) في الثقافة العربية، الذي برأيه جرّ على الأمة العربية أشكالا مختلفة من الطغاة والدكتاتوريين السياسيين والاجتماعيين وغيرهم، مثلما أفرز من قبل جيل (الأنا الفحولية) عند الشاعر، التي يرى أنا ظللنا ننظر إليها نظرة مجازية على أن من حق الشاعر أن يقول ما يشاء، وما يقوله إنما هو مجرد خيال ومجاز.

ويستطرد الغذامي في هذا الأمر قائلا: «فلو توقفت المسألة عند حدود الشعر لقلنا نعم.. غير أنها انتقلت من المطبخ الشعري إلى المائدة الاجتماعية، فأصبحت مستهلكا اجتماعيا يعاد إنتاجها، وبالتالي فإنه عندما ننظر إلى الإنسان السياسي والاجتماعي والاقتصادي وغيره، دائما نجد هناك الأب المسيطر الذي يجوز له ما لا يجوز لغيره، وأن كلمته نهائية ومطلقة.. إلخ. ومن هنا، تخرج الصيغة الشعرية من القصيدة ومن ديوان الشعر إلى المحفل الاجتماعي، فكانت هذه خلاصة النسق المتشعرن، ثم دخلت إلى نسق التفحيل ونسق التأنيث ونسق القبائلية والهويات الجذرية».

* د. القرشي: النقد الثقافي السعودي مواكب لحركة التطور

* وبالنسبة إلى الناقد السعودي الدكتور عالي القرشي، فإن مسألة تقييم النقد الثقافي تحديدا هي من الصعوبة بمكان بحيث يمكن إيجازها في جمل محدودة، مشيرا إلى وجود النقد كحالة أو ظاهرة ثقافية في كثير من الكتابات والأعمال، التي تبناها الدكتور عبد الله الغذامي، موضحا أن الأخير بلور هذا الجانب من خلال طرحه أسسه ونظرياته، التي بنى عليها مشروعه النقدي.

ويذكر القرشي في الوقت نفسه أن النقد الثقافي يمارس أيضا من قبل نقاد آخرين كثير، مثل الدكتور معجب الزهراني، والدكتور معجب العدواني، والدكتور سعد البازعي، حيث تطرقوا إلى هذا الجانب من خلال طروحات ورسائل ماجستير وأطروحات دكتوراه أكاديمية، بجانب الملتقيات والمحافل الثقافية الأخرى.

وفي ما يتعلق بما يتردد في الأوساط الثقافية بعدم مواكبة النقد الثقافي للتطورات الثقافية في الساحة السعودية، يرى القرشي أنه ليس من المعقول أن تكون كل النصوص مستجيبة للنقد الثقافي في لحظة معينة أو ظرف معين، معتبرا أن النقد الثقافي - بطبيعة الحال - استطاع تبني عدد من المعطيات الثقافية التي أسهمت في بناء علاقة مع الوسط الثقافي وواكبته في شراكة ثقافية.

ويقول القرشي، إن كل مشروع نقدي يظل مرهونا بالنصوص التي تستجيب للعملية النقدية، وتجيب عن الأسئلة والأطروحات التي تتشابك فيها العلاقات الثقافية، مؤكدا في الوقت نفسه أن النقد الثقافي السعودي لا ينتظر منه بأن يأتي بتقييم جمالي وفني للنص، باعتبار أن هذا التقييم من مقتضيات المسارات التي تثيرها البنى الجمالية والفنية في النص، مبينا أن هذه البنى، ليست من مسارات النقد الثقافي في كل حين.

وينفي القرشي أن يكون النقاد السعوديون قد أصبحوا عالة على النصوص التي يكتبها الشباب بالسعودية، موضحا أن معطيات النقد الثقافي السعودي، عادة تستجيب لما تثيره النصوص من إشكالات ورؤى مختلفة، وعلاقات مرتبكة مع المسار الثقافي، باعتبارها مسارات فنية تبرز في رؤى صاحب مشروع النقد الثقافي، حيث يجد فيه بغيته الثقافية، مؤكدا أنه ليس من الضرورة أن تحتكر أو تحصر رؤى النقد الثقافي في نصوص الشباب، باعتبار أن هناك الكثير من المجالات، التي توجد فيها مسارات لنصوص جديدة مستحقة.

ومع ذلك، يرى القرشي في تقييمه لواقع النقد الثقافي السعودي، أنه استطاع أن يجيب عن تساؤلات عديدة، من أهمها، علاقة النص الحداثي بنسق الثقافة، مشيرا إلى أن هذا ما أثاره الدكتور سعد البازعي عن تلقي النقد وطروحات النقد الحديث في السعودية خاصة وفي العالم العربي عامة، مضيفا إلى ذلك ما أثاره البازعي عن المكون اليهودي في الثقافة العالمية ككل، بجانب ما طرحه الغذامي.

أما في ما يتعلق بإخفاقات النقد الثقافي السعودي، فحصره القرشي في إغفال النظرة الثقافية إلى البنيات الجمالية والفنية في النصوص، أضاف إليها أن النقد الثقافي رفع من شأن نصوص متواضعة، ليست صاحبة رؤى جمالية، ولا تتمتع بأبعاد اختلافية.

* الروائي الشمري: المنتوج الثقافي.. بخير

* أما الكاتب والروائي السعودي عبد الحفيظ الشمري، فيهاجم واقع النقد الثقافي السعودي، حيث يرى أن واقع النقد من منطلق كتابة السرد الإبداعي لا وجود له، قائلا: «ليعذرني البعض ممن أتوسم فيهم بذور النقد الأدبي، وهم قلة للأسف، فإن واقع النقد من منطلق كتابة السرد الإبداعي لا وجود له، وحينما أقول لا وجود له فإنني على يقين بأن توصيفي المشهد النقدي لدينا يتمثل في كونه مجرد عبث وتصفية حسابات، ومديح لا مبرر له لبعض الأعمال المتواضعة. أما النقد الثقافي لدينا، فلا أثر له البتة رغم محاولات البعض محاكاة ما يقال عنه نقد ثقافي يمارسه بعض أساتذة الجامعات العربية من دون أن يكون له أي أثر في المنجز الأدبي».

وعلى الرغم من اعتقاد الشمري أن نقد المنتوج الثقافي والإبداع الأدبي السعودي في حالة مطمئنة ويسير بخطوات طموحة ومتميزة رغم تداخل التجارب وصراعات الأجيال التي يرى أنها واردة، فإنه يؤكد أنه ليس للنقد الثقافي السعودي «المزعوم» لدينا أي علاقة بتميز الطرح المعرفي والأدبي، بل يرى الشمري على العكس من ذلك أن كتّاب القصة والرواية يخشون على هذا الإبداع الجميل من عبث من سماهم بالموتورين من الأدعياء والدعيات من النقاد، الذين لا شأن لهم بتطور المشروع الإبداعي في السعودية لا من قريب ولا من بعيد على حد قوله.

ومع ذلك، يعتقد الشمري، أنه لا يوجد أي قرائن أو أدلة تشير إلى أن هناك نقدا ثقافيا يمكن الركون إليه كمرتهن خطابي تأصيلي لفعل النقد أو المكاشفة، بل إن ما يشاهده القارئ هو مجرد مهاترات لفظية لا أساس لها في السند التذوقي أو الإيحائي حول أي نص أدبي أو رسالة معرفية. ويؤكد المقولة التي ترى أن الناقد العربي إن وجد، فهو مشروع أدبي فاشل.

ويقر الشمري بتلمسه بعض الرؤى، التي تحمل صفات النقد والتي يجدها لدى كتابات جابر عصفور، حيث يرى أنها تتسم بمناجزة العمل الأدبي من قبيل الاستدارك عليه، وليس من نافلة الثقة بما يكتبه المبدع في العالم العربي، وكذلك الدكتور محمد الشنطي، والدكتور سعيد يقطين، والدكتور سلطان القحطاني.

ويبين الشمري أن أصدقاء النص هم القراء وليس النقاد، الذين يصف عملهم بالتطبيل والتزمير، حيث يقول: «فلو تأملت أي كاتب رواية تعلق بالنقد وتملق النقاد فستجد أن نهايته محسومة، وتجربته مستلبة لأن تجربته جاءت عن طريق هذا التطبيل والتزمير، الذي يزعم أنه نقد أدبي، فالنقد كما هو معروف قد يأتي ليبين مواطن الضعف والقوة لا أن يهرطق بالمديح وتدبيج المقولات المجانية، التي يراد فيها أولا وأخيرا تقديم صورة ملفقة لأي تجربة تلج إلى المشهد الثقافي أو الأدبي».

وحول رده عن الاتهام القاضي بأن النقد الثقافي السعودي غير مواكب للمشهد الثقافي السعودي، يقول الشمري: «أعطني نقدا حقيقيا وفاعلا ومن ثم أقف أنا وأنت في موازاة هذا السؤال الذي أخاله الآن افتراضيا، فقد أسلفت أن لا نقد لدينا، وما يشاهده القارئ من ممارسات تدعي النقد هو مجرد عبث ومجانية ولأهداف معدة سلفا، بل إنها لا ترقى إلى مستوى الاهتمام، بكل أسف».

وفي ما يتعلق بما يشاع عن اتهام بأن النقاد السعوديين أصبحوا عالة على نصوص الشباب، يعتقد الشمري، أن المشكلة أن الكثير من نصوص الشباب شعرا وقصة هي التي تريد دائما أن تتوكأ على هذا العكاز الصدأ، أو الصقيل، مشيرا إلى أن أي مبدع حقيقي لا يمكن أن يركن إلى هذه الحيل والألاعيب، التي يقال عنها خطلا «نقد أدبي».

ويقول الشمري: «نرى أن بعض الأعمال الأدبية التي لمعت وانطفأت لم تكن لتخمد لو أنها هربت من غواية أدعياء النقد، الذين لا همّ لهم هذه الأيام إلا تدبيج النصائح للصغار والتعالم على بعضهم البعض والعبث بمسيرة العطاء الأدبي من خلال ممارساتهم السطحية لبعض الأعمال ليس بقصد التفاعل معها إنما بوازع الخيبة التي يشعرون بها».