حرفية روائية وفضاء صوفي للتأمل

«ليلة واحدة في دبي» لهاني النقشبندي

غلاف الرواية
TT

عندما قرأت رواية الزميل هاني نقشبندي الأولى «اختلاس» لم أحسب أن هذا الروائي سيخرج عن مطابقته للنمط الروائي السعودي المتنامي في العقد الأخير، وهو نمط لم يخرج عن حدود ثلاث قضايا محورية هي: الجنس، والحرية، والدين، خصوصا أن رواية الكاتب الأولى طرحت مشكلة علاقة الرجل العربي بالمرأة بشكل عام، لكن روايته الثانية «سلام» شكلت انعطافة في مساره الروائي وضعته خارج هذا الثالوث، بل في قلب التاريخ، وتحديدا تاريخ العرب في الأندلس، ولكن من منظور مختلف. وجاءت روايته الثالثة «ليلة واحدة في دبي»، لتأكد مساره بعيدا عن ذلك النمط.

بحرفية روائية، ينهل النقشبندي في هذه الرواية من مناخات الصوفية وعناصرها، ويقدم صورة نقدية قاسية للواقع، ولأنماط العيش والعلاقة الصدامية في الخارج، طارحا أسئلة الذات والمكان ووحدة الإنسان. وقد أتاح له مجتمع دبي، المدينة التي لا تختلف عن المدن التي ندمنها، مدن أصبحت فضاء للعمل لا للحياة، أن يصوغ أحداث روايته، جامعا بين أناس لا تربطهم ذاكرة ولا عادات مشتركة، وهم يتسابقون في يقظتهم ونومهم. إنها «مدن سريعة لا تنتظر أحدا».

يفتح الكاتب في «ليلة واحدة في دبي»، الصادرة عن دار «الساقي» في بيروت، أبواب البحث في النفس الإنسانية، البحث في الذات والمكان وفي الحب والسعادة والروح الحائرة، يبني كل واحدة منها على سؤال فلسفي يتيح لنا إعادة اكتشاف علاقتنا بذواتنا.

تسير الرواية وفق جدل تناصفي بين ياسمين، المرأة التي قدِمت إلى دبي محملة بالخيبات العاطفية، والحارس الهندي أفتاب أو «الشمس»، كما يعني اسمه بالعربية. ياسمين تبحث عن اسمها الذي فقدته في غمرة البحث عن الفرص، وعن نفسها بعد أن تحولت إلى «أنثى رقمية في سوق سريعة الإيقاع»، لكنها تفتقد إلى بوصلة توجهها نحو السعادة، من دون أن تدرك أننا نحن من نصنع سعادتنا ونرعاها لتستمر. تتجنب ياسمين خوض التجربة خوفا من سؤال يلح عليها «وماذا بعد؟» فتلقى إجابة جاهزة من الحكيم الهندي تحثها على الإيمان بأن «الخيبات الكبرى تخفي وراءها فرصا عظيمة»، مؤكدا لها أنه «ما من قلب حي يبقى خاويا».

لقد تطلب السجال الثنائي بين امرأة متوترة ورجل يعبر بهدوء مستفيدا من مساحات التفكير والتأمل، تنازلا موضوعيا من قبلها، وسموا وصفاء من قبله. ولعل الإبحار في عوالم ياسمين الداخلية يكشف عن عوالمنا المربكة والمحجوبة، أو لعل يقظة ياسمين المفاجئة منذ أن رأت ما لم تكن تريد رؤيته وسط انشغالها بالصفقات والعقارات، هي حاجة لنومنا نحن، النوم بمعنى التوقف والاستسلام لتلك القوة التي تشدّنا إلى الحنين والحلم، التوقف عن اللهاث وعن خوض المعارك الكبرى التي لا تزيدنا إلا خسرانا وإنهاكا. ولعل الكاتب أيضا أراد أن يدلنا على عناصر الثقل والضعف في عوالمنا الخاصة، ويحثنا بلغة الحارس الصادقة على صياغة علاقة مختلفة بالأشياء من حولنا، ورسم دوائر، شبيهة بالتي خطتها ياسمين في جلسة إعادة الحساب مع الذات، تكون بمثابة خريطة لطرق تفكيرنا كبشر يتشابهون في أعماقهم إلى أبعد الحدود.

وإن كان لنا أن نستذكر ونحن نقرأ «ليلة دبي» المسكونة بالضجيج وألم النفس حِكم باولو كويلهو على لسان الحارس الهندي «الفرص تتكرر في الحياة وتولّد من ذاتها فرصا» أو «لتحصلي على سمكة ألقي بصنارتك في البحر أولا»، أو روحانية أمين معلوف في «حدائق النور»، فإنها مع كل ذلك رواية واقعية بامتياز، رغم كل العناصر المفترضة التي تبدأ من البناية الخضراء الضخمة التي انبعثت فجأة ونمت وتضخمت بين ليلة وضحاها، إلى الصوت الداخلي الذي أوحى به الحارس الحكيم، وصولا إلى عامود النور. إنها رواية تنطوي على قلق إنساني فطري، قلق تحول إلى لغة في حد ذاته، إنه قلق الإنسان المعاصر عموما وسط طاحونة الحياة، ومواجهته تتطلب اللجوء إلى النفس في ساعة الغروب والتواصل الأعمق مع ذواتنا.

يمشي الروائي وئيدا كمن يتهجى عقل المرأة خصوصا، يغوص في رغباتها ومشاعرها، مكتسبا من الروايتين السابقتين خبرة مكينة على المستوى الفني للسرد، الذي جاء في روايته هذه مكثفا خاليا من استطرادات تشتت القارئ وتدفعه نحو التململ. لقد أصبح أسلوب الكاتب الشخصي أكثر دقة في تحديد اللحظات الأكثر إدهاشا والأقوى وقعا على القارئ، كما نلاحظ أيضا سعيه نحو سبل التجديد والتنويع، وقدرته على الانتقال بين الموضوعات التي يختارها، ناجحا للمرة الثالثة ربما في أن يبقينا طويلا ضمن عوالم أبطاله وقصصه.