الذاكرة السورية ملك يديك على الإنترنت

أرشيف على 500 موقع فيه متحف افتراضي وكتاب لكل يوم

TT

منذ العاشر من شهر فبراير (شباط) الماضي، يتلقى عدد كبير من مستخدمي الإنترنت السوريين والعرب رسالة إلكترونية مقتضبة، تتضمن دعوة بسيطة كل صباح تقول: «كل يوم كتاب جديد».. ادخل وحمّل مجانا من موقع وزارة الثقافة - الهيئة العامة السورية للكتاب. هذا المشروع هو غيض من فيض المشاريع الإلكترونية، التي ستجعل الذاكرة السورية على الشبكة خلال السنوات القليلة المقبلة، حيث سيكون في مقدور الزائر المرور بالمتاحف، والتعرف على الشخصيات الثقافية وقراءة الكتب، وإجراء الأبحاث حول كل ما يتعلق بالثقافة في سورية. مشروعات طموحة، لكن ماذا عن الواقع والتنفيذ؟ تحقيق يلقي الضوء.

مشروع «كل يوم كتاب جديد»، الذي أطلقته الهيئة العام للكتاب، التابعة لوزارة الثقافة السورية، يشكل خطوة لافتة على صعيد تشجيع القراءة. وبحماس كبير، تحدث وزير الثقافة السوري، رياض نعسان آغا، لـ«الشرق الأوسط»، عما تحققه وزارته، وقال إنها «تقوم بجهد أكبر بكثير من طاقة ميزانيتها». وحول مشروع النشر الإلكتروني، أوضح أن المرحلة الأولى تهدف إلى نشر الكتب الجديدة الصادرة عن الوزارة، والمرحلة الثانية تستهدف وضع أمهات الكتب، غير المتوافرة، على الشبكة. وإذا كان بعضها موجودا في موقع معين، يمكن التنسيق وإنشاء اتصال عبر موقع الوزارة، وبذلك تتسع «الطرق إلى المعلومة»، مؤكدا أن الغاية من المشروع وضع ما لدى الوزارة على الشبكة، وإتاحته مجانا للمستخدمين، موضحا وجود «خطة موازية لاصطفاء المهم فالأهم من منشورات وزارة الثقافة منذ إنشائها، لإعادة نشره إلكترونيا». وقال الوزير: «كما هو معروف، فإن وزارة الثقافة منذ الستينات وحتى نهاية القرن العشرين قدمت كتبا ذات شأن، ومعظمها نفد وبشكل خاص المترجم منها، مثل (سلسلة الآداب الأوروبية)». مشيرا إلى أن تعاونا يجرى مع وزارة الاتصالات السورية، لتوسيع نطاق الخدمة على الشبكة. ويرى الوزير رياض نعسان آغا أن وزارة الثقافة هي «الضامن للارتقاء بمستوى المحتوى الرقمي في سورية»، موضحا أنه جرى حتى الآن «إنجاز 8 آلاف توصيف أثري لعشرات الآلاف من القطع الأثرية، حيث يجري العمل على بناء قاعدة بيانات حولها لتوضع على الشبكة. وعلى سبيل المثال، إذا احتاج الباحث معلومات عن تمثال لعشتار أو أفردويت، فسيجد معلومات كاملة عنه من قبيل: كم تمثال أثري مماثل له، وما أوصافه، وأين يوجد، كما تتطلع الوزارة إلى توسيع مساحة المتحف الافتراضي القائم، وجعله يمكن المستخدم من تصفح المعروضات من الجوانب كافة».

غالبية المشاريع التي تحدث عنها وزير الثقافة هي من حيث الأفكار مهمة جدا، لكن لا يمكن الحكم عليها، كون بعضها ما زال في طور بدء التنفيذ، وبعضها الآخر قيد التخطيط، لكن مؤشرات مشروع الكتاب الإلكتروني، الذي انطلقت مرحلته التجريبية، تبدو واعدة. ولم يبالغ الأديب والصحافي، حسن م. يوسف، حين وصف المشروع في مقالته الأسبوعية بأنه «يشكل خطوة نوعية فريدة، لا في أداء الهيئة فحسب، بل في حياة قراء العربية في مختلف أنحاء العالم»، من حيث إن «نقطة ضعف الكتاب السوري الجاد كانت تكمن في صعوبة توزيعه». ورأى الكاتب أن الشيء المميز في هذه التجربة يكمن في «خطة نشر متوازنة، تحاول إشباع رغبات مختلف القراء، عن طريق نشر كتب عربية أو مترجمة، تغطي مختلف ميادين الثقافة، بدءا بالشعر، ومرورا بالرواية والقصة والمسرحية والبحث النقدي والتاريخي».

ونحن نسمع ونقرأ كلاما كهذا عن مشروع الكتاب الإلكتروني، فلا بد أن نفاجأ حين نعلم أن الكادر القائم على تنفيذه لا يتجاوز عدد أفراده أصابع اليد الواحدة، من ضمنهم رئيس هيئة الكتاب، محمود عبد الواحد، الذي قال لـ«الشرق الأوسط»: «إن فكرة المشروع ولدت خلال حديث إلى وزير الثقافة، الذي تابع شخصيا تنفيذه» وعن معايير النشر إلكتروني، قال عبد الواحد: «إنها الكتب ذاتها التي تنشرها الهيئة ورقيا، شرط موافقة المؤلف على نشرها إلكترونيا، حيث تم ولأول مرة إضافة بند جديد إلى عقد النشر الخاص بالهيئة يخص النشر إلكتروني، وينال عليها المؤلف 30% من قيمة المكافأة المالية التي تمنح لطباعة النسخة الورقية. علما بأن العقد الخاص بالنشر الورقي يشترط التنازل عن حقوق النشر لمدة 5 سنوات، بينما النشر الإلكتروني يحفظ حق المؤلف بنشر كتابه ورقيا في أي مكان». وكشف رئيس الهيئة أن النشر الإلكتروني لن يقتصر على إصدارات الهيئة، بل سيشمل إصدارات أخرى بعد شراء الحقوق من المؤلف، مثلا تم الاتفاق على نشر كتاب «يا مال الشام» الشهير بأجزائه الثلاثة، للأديبة الدمشقية سهام ترجمان.

أهمية هذا المشروع تكمن في كونه جزءا من مشروع أكبر، يهدف إلى تأسيس قاعدة معلومات شاملة. وبحسب ما أفاد به لـ«الشرق الأوسط»، مدير المكتب الصحافي في الوزارة ورئيس تحرير مجلة «شرفات»، نجم الدين السمان، تسعى الوزارة إلى استثمار شبكة مواقعها الإلكترونية، التي يقارب عددها 350 موقعا، وجمعها ضمن «سيرفر» واحد، يتسع لنحو 500 موقع، والعمل على توفير أرشيف مقروء ومرئي ومسموع للأنشطة الثقافية كافة في مختلف الميادين، من موسيقى، ومسرح، وسينما، وأدب، وتشكيل، ودراسات، وندوات، ومحاضرات، وصحف ومجلات.. بالإضافة إلى أرشيف للشخصيات الثقافية، يتضمن صورا مع معلومات عنها، وقال السمان: «هناك ندرة في صور المثقفين السوريين على الشبكة، وإن وجدت فتكون ذات مستوى فني منخفض، لا يستفاد منها في الطباعة». ويختزل السمان الهدف العام للمشروع، الذي يتوقع إنجازه خلال عام، في أنه «حفظ الذاكرة الثقافية والفنية السورية، والترويج لها، وتعميمها».

التفاؤل الكبير، الذي نضح من تصريحات وزير الثقافة، ورئيس هيئة الكتاب، ورئيس تحرير مجلة «شرفات»، يأتي على الضد من انتقادات وزارة الثقافة، والاتهامات المزمنة الموجهة إليها بالتقصير بالمقارنة بدورها في العقود الماضية. وهو ما رد عليه الوزير بالتأكيد أنه لا يسمع نقدا لأداء الوزارة، بقدر ما يسمع إشادة من كل ذي شأن ورأي، من دون أن ينفي وجود انتقادات مبنية على المشاعر لا على العقل، وهي انتقادات يضع بعضها في إطار النقد الرومانسي، والحنين إلى الماضي. وقال الوزير آغا: «النقد الرومانسي مغفور رومانسيا»، وذلك بعد تأكيده أن «الثقافة السورية في هذه المرحلة تعيش حراكا غير مسبوق.. فهناك 3 مسارح في دار الأوبرا لا تتوقف نشاطاتها ليلا ونهارا، و«مكتبة الأسد» تعجّ بالقراء، والعروض المسرحية وصلت العام الماضي إلى قرابة 500 عرض، في دمشق والمحافظات. وتم تأسيس 7 مسارح قومية، و6 معاهد موسيقية في المحافظات، وبلغ عدد المراكز الثقافية نحو 443 مركزا، كما لم يسبق أن كان للفرقة السيمفونية هذا العدد الكبير من الحفلات في العام الواحد، ناهيك عن إعلان 5 محافظات سورية خالية من الأمية. وعلى صعيد المهرجانات الثقافية استعيد (مهرجان الهواة المسرحي)، وتشارك فيه نحو 20 فرقة مسرحية. كما أقيم مهرجان سنوي للفنون الشعبية. بالإضافة إلى ذلك، يأتي نشاط البعثات الأثرية الوطنية، وهناك أكثر من 140 بعثة أثرية، وكل يوم هناك اكتشاف جديد».

من جانبه، وبعد الإشارة إلى الجهد الكبير الذي تقوم به الوزارة، سخر نجم الدين السمان من النقد الذي يوجه إلى الوزارة، بقوله: «ينتقدون وزارة الثقافة لأن حيطها واطئ، فهي ليست وزارة الداخلية»، إلا أنه بعيدا عن الانتقاد، وبالنظر إلى الواقع، يبدو مشروع الأرشفة الإلكترونية وتوفير أرشيف مقروء ومرئي ومسموع على الإنترنت أكبر بكثير من الإمكانات التقنية المتاحة في بلد لا تزال فيه البنية التحتية للإنترنت متخلفة جدا، فعدا انقطاع الاتصال، فإن تحميل الملفات يستهلك وقتا طويلا، حتى أن السوريين يسمون الإنترنت (أنطر نت)، أي (انتظر النت). نجم الدين سمان لا ينكر وجود مشكلات تقنية، «تجعل سير العمل أبطأ بكثير»، وقال إنه بالنسبة إلى استخدام كادر الوزارة للإنترنت فإنه سهل إلى حد ما، إذ يتوافر خط اتصال «دي إس إل»، إلا أنهم يلحظون صعوبة التحميل لدى مستخدمي «ديل آب».

رئيس هيئة الكتاب، محمود عبد الواحد، الذي يقوم بنفسه بتنزيل الكتب على موقع «سيريا بوك»، أوضح أنه يراعي مستخدمي اتصال «ديل آب»، من خلال توفير نسختين من الكتاب، نسخة «بي دي إف» تتضمن الصور والملحقات، ونسخة «وورد» تتضمن النص فقط. وقال عبد الواحد إنه يستفيد من ملاحظات زوار الموقع، لجعل الخدمة أفضل. وحين طلب البعض تغيير نسخة برنامج «بي دي إف»، لأن البرامج القديمة لا تتعامل معها، تمت تلبية ذلك، كما أنه يحرص على أن لا يتجاوز حجم ملف «الوورد» 1 ميغا، وملف «بي دي إف» 8 ميغا، مراعاة للإمكانات التقنية المتاحة للمستخدمين في سورية.

وفيما يخص تخلف البنية التحتية للإنترنت، لفت نجم الدين السمان إلى التأثير السلبي للحظر الأميركي المفروض على سورية، في إعاقة وصول التقنيات الحديثة، حتى أنهم في مجلة «شرفات» احتاجوا إلى جهاز كومبيوتر «ماكينتوش»، الذي يعد الأفضل للإخراج الصحافي الاحترافي، ولم يكن من السهل الحصول عليه، لحظر استيراد التقنيات الحديثة. وكان لا بد من سلوك طريق طويل لشرائه من دولة عربية. لافتا إلى أنه في منطقة البحصة، حيث تقع سوق الكومبيوترات في دمشق، التي يسميها السمان بـ«وادي السيليكون السوري»، يتم تجميع أجهزة الكومبيوتر كل قطعة من بلد، لكنها أجهزة غير احترافية، وأعطالها كثيرة. وهذه معاناة إضافية، إذ يتم الحصول على التقنية بطرق التفافية، وتجعل طريق تنفيذ المشاريع أطول.

لا يمكن إلا الاعتراف بأن أفكار المشاريع الثقافية التي تطرحها وزارة الثقافة، على صعيد الارتقاء بالمحتوى الرقمي السوري، هي أفكار خلاقة، ونالت استحسانا كبيرا، بحسب ما لمسه رئيس هيئة الكتاب، الذي يقوم بنفسه كل يوم صباحا بإرسال رابط الكتاب الجديد إلى قائمته البريدية الإلكترونية. ويروي كيف أنه عندما أرسل إليه شخص طلبا بحذف عنوانه من القائمة البريدية، لأنها تسبب له إحراجا في مؤسسته، تنبه إلى ضرورة تدارك ذلك ببدء الرسالة اليومية بعبارة: «سيدي الكريم، هذه الرسالة مجرد تحية. إذا كانت تسبب لكم أي إرباك، فيرجى إعلامنا كي نوقفها فورا». ويعبر رئيس الهيئة عن سعادته باستغراب القراء لهذه المقدمة، وتأكيدهم أن الرسالة التي تحمل كتابا مجانيا «ليست تحية، وإنما هدية لا ترد».

موقع تحميل الكتب لوزارة الثقافة السورية هو:

www.syrbook.gov.sy