كتاب إسرائيلي ضد الأصولية اليهودية

شلومو ساند يقول إنه ليس هناك منفى يهودي.. وأفضل ما يمكن أن تفعله إسرائيل هو الاعتراف بأنها أمة مُخترَعة

الكتاب: «اختلاق الشعب اليهودي»، المؤلف: شلومو ساند، الناشر: «فيرسو»، لندن، 2010
TT

البروفسور شلومو ساند، هو أستاذ في جامعة تل أبيب، ومؤلف هذا الكتاب «اختلاق الشعب اليهودي»، الذي هز الإيمان التاريخي فيما يتعلق بالصلة بين اليهودية وإسرائيل. يصور المؤلف كيف أن أغلب اليهود هم من المتحولين دينيا، ممن لم تطأ أقدامهم الأرض المقدسة. يقول ساند: «هناك نوعان من اليهودية: اليهودية المسيحية، وصنف من اليهودية ابتدأ في الانكماش على نفسه بسبب نجاح المسيحية... وإن الرؤيا التي نمتلكها اليوم عن اليهودية جاءت من هذا الانكماش، وذلك بسبب الخوف والظروف المفروضة على اليهودية التي أرادت الاستمرار تحت غطاء المسيحية».

أشارت أغلب تعليقات النقاد إلى أن الكتاب جاء مثل مفاجأة للكثيرين من اليهود وكتحد كبير للصهيونية التي هي الأيديولوجية القومية لإسرائيل، ذلك أن الدولة الإسرائيلية الحديثة قامت على الاعتقاد في «الشعب اليهودي»، الذي تأسس في الأزمنة التوراتية وتبعثر عند روما ثم دفع إلى المنفى لنحو ألفين عام، وبعد ذلك عاد إلى «أرض الميعاد». ولكن وفقا لساند، لم يكن هناك منفى. وكما يبرهن من خلال تحليلات آثارية وتاريخية مكثفة، فإنه من العبث التحدث اليوم عن «شعب إسرائيلي»، على الأقل «ليس بمعنى اليهود». إنه من الصعب تصور تحد أصولي أكبر من فكرة الدولة اليهودية الحديثة المقامة على أساس اليهودية القديمة.

حظي الكتاب بانتشار واسع، أولا في إسرائيل ثم في فرنسا حيث حاز على جائزة أدبية، لكن ردود فعل اليهود إزاءه كانت معادية، واعتبرها الكاتب «هستيرية»، فعلق قائلا: «بعد سنوات وسنوات من استخدام تعابير مثل (الشعب اليهودي) و(القومية اليهودية) لأكثر من أربعة آلاف سنة، فليس من السهل تقبل كتاب مثل كتابي». منتقدو ساند يصورون الكتاب على أنه هجوم أو انقضاض على الهوية اليهودية وشرعية دولة إسرائيل، لكنه يراه - على العكس - محاولة لإنقاذ الهوية اليهودية من الهاوية الفكرية واستعادة المجتمع الإسرائيلي بجرعة صحية من المنطق المدني السليم، حيث يقول: «قمت بتأليف الكتاب لغرضين مزدوجين: أولا كإسرائيلي، من أجل دمقرطة الدولة وجعلها جمهورية حقيقية، وثانيا للوقوف ضد الأصولية اليهودية».

تلك هي - يشرح ساند - انعطافة في اليهودية الحديثة التي تجعل العنصرية أساس الإيمان «وهذا هو خطر يغذي النزعة اللاسامية. إنني أحاول تطبيع الوجود اليهودي في التاريخ وفي الحياة المعاصرة». في تحليل ساند، أن اليهودية القديمة قد مهدت الطريق أمام شكل التحول الديني. ولكي تنتشر بالسرعة التي انتشرت بها اليهودية، كان على المسيحية أن تستثمر التوسع اليهودي القديم. فيما بعد، حدث تحول ديني كبير في مملكة خزر البحر الأسود عند نهاية القرن الثامن. اكتسبت نخب الخزر الديانة اليهودية كشكل من أشكال الحيادية الدبلوماسية في خضم الصدامات بين المسيحية والإسلام. جرف ذلك التحول شيئا فشيئا الناس من ذوي الأصول العرقية السوداء المختلطة، الذين - كما يعتقد ساند - يشكلون الأسلاف الرئيسيين ليهود أوروبا الشرقية. لم يكن تحول الخزر مفاجأة. لقد شكل الأساس لكتاب آرثر كوستلر «القبيلة الثالثة عشر» عام 1976، الذي شتم وأدين من قبل الصهيونية. لكن اليهود الخزر اعترف بهم من قبل المؤرخين الصهيونيين القدامى، ولو بأعداد لا تذكر. ثم تم استبعادهم من الموضوع في الستينات وخاصة بعد حرب الأيام الستة.

يلاحظ ساند أن غياب موضوع المتحولين دينيا من كتب التاريخ الإسرائيلية يتزامن مع ازدياد احتلال الأراضي العربية. الصهيونية - يقول ساند - هي ممارسة حديثة لبناء قومي نموذجي. لقد اتبعت النموذج الذي من خلاله زيفت الهويات القومية الأوروبية في القرن التاسع عشر والقرن العشرين. النخب المثقفة روجت الأساطير التي تتفق مع «الحاجة الأيديولوجية العميقة لثقافتها ومجتمعها. وفي الحالة الإسرائيلية كانت أسطورة الأصول الإثنية أو العنصرية في مملكة توراتية ارتكزت على ما يدور حول القدس. لكن ساند يقول منتقدا: «إذا كانت جميع الهويات القومية أساطير، فلماذا إذن يتضايق اليهود؟! فقط هناك حفنة من الأصوليين يعتقدون أن الله وعد إسرائيل لموسى. أثناء ذلك شعر الملايين من اليهود بارتباطهم الثقافي والديني بصهيون (إنه قربانهم المقدس وإحساسهم الذاتي. إنه ليس خيالا)«.

تلقى البروفسور ساند الكثير من الاتهامات القاسية التي وجهها اليهود إليه من أماكن أخرى خارج إسرائيل، حيث يرون أن الكتاب هو ضد إسرائيل ويتهمونه بالتحريض والفتنة، وحتى إن البعض منهم يقول إن مقولاته تغذي المواقف اللاسامية. المانحون فيما وراء البحار لجامعة تل أبيب يطالبون بصرفه من الخدمة. صهاينة الشتات يمكن أن يغذوا الأسطورة اليهودية للأمة التوراتية كجنسيتين مزدوجتين مع جوازات سفرهم من الدول الآمنة. فحينما يشيرون إلى «إسرائيل» و«القدس» في صلواتهم «فليس عليهم أن يفرقوا بين المجاز التوراتي والواقع السياسي. إنه امتياز يعتمد عليه وجود إسرائيل».

»الكثير من المناصرين للصهيونية في لندن ونيويورك لا يفهمون في الواقع ما الذي كان يشعر به أجدادهم حول صهيون، يقول ساند: «إنه المكان الأهم في العالم حسب تصورهم، كأرض دينية مقدسة وليس مكانا للهجرة». ومن هنا، فإن «إسرائيل» تلك، كانت المحطة الميتافيزيقية التي ينبغي الوصول إليها في نهاية المطاف. إن الدولة الإسرائيلية الحديثة «هي مشروع سياسي تم تخيله في أواخر القرن التاسع عشر، فأصبحت واقعا من خلال الهولوكوست، ثم أسست عام 1948». إنه بلد جديد، وكثير من اليهود يرون ذلك كضعف. فكلما شعروا بعدم الأمان، كان التماسك أشد إلى أسطورة العصبة القديمة. لكن أفضل ما يمكن أن تفعله إسرائيل - يقول ساند - هو الاعتراف بأن أمتها هي أمة مخترعة، حتى إنها أصبحت أكثر حداثة. يجب عليها - يجادل ساند - أن تصلح نفسها لأن الدولة تنتمي إلى كل مواطنيها، سواء كانوا يهودا أم عربا.

المؤلف يعترف أن كل هذا قد يكون ضربا من الخيال في خضم هذه الظروف. لكن البديل يعني أن إسرائيل تقامر بمستقبلها على إدماج أسطورة «الشعب» «في أرض الأسلاف، إذ إن الكثير من مثل هذه المشاريع انتهت إلى تراجيديا».