الازدواجية في اللغة العربية

بين العامية والفصحى في زمن العولمة

TT

ما زالت مسألة الازدواجية في اللغة العربية بين العامية والفصحى في زمن العولمة والإعلام الفضائي، موضع انتباه المهتمين باللغة العربية أينما وجدوا. عن هذا الموضوع، صدر مؤخرا كتاب «بين العامية والفصحى - مسألة الازدواجية في اللغة العربية في زمن العولمة والإعلام الفضائي»، من تأليف الإعلامية إيمان ريمان والدكتور علي درويش، وإصدار شركة «رايتسكوب» المحدودة في 298 صفحة من القطع الكبير.

في مقدمته للكتاب يثمن أنور ضو، مدير عام تعاونية الدولة اللبنانية، مبادرة مؤلفي الكتاب إلى تسليطهما الضوء على الانحدار المتمادي من الفصحى إلى العامية، بل العاميات، في الحياة اليومية العادية، وفي الحياة الثقافية، وفي الإعلام، وغير ذلك من أوجه الحياة عند العرب، مما يوهن لغتنا ويجعلها فريسة سهلة، في عصر العولمة، للغة الإنجليزية التي تجتاح اللغات المحلية، وتضرب الخصائص والهويات. وعلى صعيد آخر يشيد بطرح المؤلفين حلا يبدو للوهلة الأولى مستحيلا، وهو التحول التدريجي من العامية إلى الفصحى لمعالجة المشكلة الكبرى المتمثلة في ظاهرة الازدواجية في اللغة العربية، ويرى أن الآليات المطروحة في الكتاب ترسم خريطة الطريق، التي يأتي في طليعتها اللجوء إلى اللغة المبسطة السهلة كحل وسط بين الاثنتين. ويعيد إلى الأذهان أن الأديب والناقد اللبناني الكبير مارون عبود كان واحدا ممن دعوا إلى مثل هذا الحل ومارسوه حين اشتد الصراع بين العامية والفصحى في أواسط القرن المنصرم.

ولكنه يرى أن هذا التحول ينبغي أن تواكبه حركة ذات شقين، أولهما شق رسمي، تتولاه الحكومات العربية بتطبيق هذا التحول في المدارس والجامعات والحياة الثقافية، وفي الإعلام الفضائي بشكل خاص، يعيد إلى الفصحى قيمتها ودورها بعيدا عن أي تعقيد قاموسي أو أي ابتذال سوقي.

أما الشق الثاني فهو، كما يرى، ينصب على تولي اللغويين ومجامعهم جعل اللغة العربية منفتحة لمواكبة مناحي التطور العلمي والتكنولوجي والحضاري، ويرى أنها قادرة على ذلك، وأن القصور ليس فيها بل في القائمين عليها، وأننا إذا لم نفعل ذلك تتخلف لغتنا، وتتحول بعد حين إلى لغة ميتة، شأنها شأن الكثير من اللغات التي لاقت هذا المصير الأسود نتيجة تحنطها، بل وتحنط القيمين عليها، وحجزهم لها في متاحف الماضي الجامد، بدل الانطلاق بها في معارج التقدم، حيث الحرية والنور والهواء. يضم الكتاب، بالإضافة إلى التقديم والتمهيد، 8 فصول، يتناول أولها اللغة العربية في زمن العولمة، وبعد أن يعرض لأهمية اللغة العربية ومكانتها، يستعرض محاولات تبسيطها وتسهيلها، وينظر في مسألة انهيار المشروع القومي كسبب رئيسي من أسباب الانتقال من الفصحى إلى العامية والانصراف عن كليهما إلى اللغات الأجنبية. ويقدم تعريفا لبعض المفاهيم المتعلقة بظاهرة الازدواجية في اللغة العربية واللهجات وغيرها.

ويعرض الفصل الثاني من الكتاب ظاهرة العولمة وآثارها وتبعاتها ونتائجها والمواقف المتباينة منها، ويضعها في سياق اللغة العربية والازدواجية، كما يتطرق إلى دور اللغة الإنجليزية في العولمة. أما الفصل الثالث «بين العامية والفصحى» فيعرض لمسألة العامية والفصحى في اللغة العربية، والفرق بين المقامين، ومشكلة المصطلح الحديث في هذه الظاهرة. ويأتي بعد ذلك الفصل الرابع ليتناول «نشأة الازدواجية» والمواقف المخلفة منها، ويستعرض الدعوات إلى العامية وموقف مجامع اللغة العربية من الفصحى والعامية. أما الفصل الخامس «الدعوة إلى العامية والصراع من أجل الفصحى»، فيبحث في معضلة التنازع بين العامية والفصحى، ويعرض لهذه المشكلة في زمن العولمة والإعلام الفضائي وتحول تلك الوسائل في بعض الأقطار العربية إلى استخدام العامية في بعض البرامج.

وبعد أن يبحث المؤلفان في الفصل السادس «الفصحى بين الواقع والخيال» إمكان التحول من العامية إلى الفصحى، يناقشان في الفصل السابع «مشروع التحول إلى الفصحى»، ويعرضان لمسألة الانتقال والتخطيط اللغويين، ويقدمان خطوات عملية لتمكين هذا المشروع من الخروج إلى حيز التنفيذ بشكل واقعي، ويوضحان أنه من الضروري لمشروع التحول هذا أن يكون ذا اتجاهين متقابلين: الأول هو الرقي بالعامية إلى مستوى يعكس المحتوى المعرفي الحديث، بحيث يخرجها من التقعر والتقوقع اللفظي، والثاني هو تحسين مستوى الفصحى عند المتعلم العربي في القراءة والكتابة والمحادثة. وفي الفصل الأخير «نحو وسيلة موحدة للتواصل» يقدم المؤلفان ملخصا لمشكلة الازدواجية، ويطرحان استنتاجات واقتراحات تهدف إلى تعزيز اللغة العربية الفصيحة وتضييق الهوة بين المقامين العامي والفصيح. ويدعو المؤلفان هنا إلى تهذيب العاميات المختلفة والارتفاع بها إلى مستوى حضاري يتمكن معه المتكلم والكاتب من استعمال الأسلوب والتعابير نفسها في الموقفين، مع التأكيد على أن ذلك يتم طبعا مع الأجيال الصاعدة تباعا، ويتم التركيز خلال سنواتهم المدرسية على حذق واستعمال فصحى مبسطة في كل المواقف، لتسهل عندهم بالنتيجة عملية الكتابة لأنها مطابقة لما يتحدثون به. وبعد أن يؤكدا على ضرورة أن يعاد تأهيل كل المعلمين لتطبيق ذلك، باعتبار أن الجهد لا يقتصر على معلمي اللغة وحسب، بل يشمل كذلك معلمي المواد الأخرى، يريان أن يشمل ذلك وسائل الإعلام جميعها من مقروءة ومسموعة ومرئية على امتداد الوطن العربي من مشرقه إلى مغربه.