«طرزان» الجزائري.. عاش مع النعام وشارك في الثورة العربية

«هدّارة» سيرة امتزجت فيها الحقيقة مع الخيال

TT

بعد أكثر من ستين سنة على رحيله وفق أرجح الروايات، استعادت مدينة تندوف (2000 كيلومتر جنوب غربي الجزائر العاصمة) ذكرى شخصية امتزجت فيها الحقيقة التاريخية بخيال الرواة. وهي شخصية «الهدّارة»، الرجل الذي تربى وعاش مع النعام، ويفترض أنه مدفون في قبر مجهول شمال شرقي تلك المدينة البعيدة في الصحراء الكبرى.

نظمت مدينة تندوف الجنوبية الجزائرية، مؤخرا، أيامها الأدبية الثانية تحت عنوان «الموروث الشعبي في المتن الأدبي الجزائري»، وكان من بين المشاركين في تلك الأيام المؤرخ أحمد تواقين، ابن المدينة، بمداخلة عنوانها «شخصية هدّارة بين الحقيقة والخيال». وكانت تلك فرصة للتعرف على هذه الشخصية الغريبة التي تشبه إلى حد كبير شخصية «طرزان» الذي عاش في الغابة مع الحيوانات، وشخصية كاسبور هاوزر الألمانية والطفلة الهندية مانديرا التي عاشت مع الغزلان.

وتؤكد الكثير من الشواهد التاريخية أن الصحراء الجزائرية كانت مليئة بقطعان النعام الذي كاد ينقرض منذ نحو 50 سنة، ولم يعد له وجود إلا في الحدائق العامة وبعض المحميات الطبيعية، ورغم هروبه من البشر فإن بعض المرويات الشعبية تؤكد أنه احتضن طفلا في الشهر التاسع من عمره، والذي سيعرف فيما بعد بـ«هدّارة». واستطاعت كاتبة سويدية اسمها مونيكا زاك، سبق لها أن زارت المنطقة، أن تحول حكاية «هدارة» الممزوجة بالخيال المجنح إلى راوية عنوانها «الطفل الذي عاش مع النعام».

وبخصوص تلك الشخصية يؤكد المؤرخ الجزائري أحمد تواقين أنها حقيقية، لكن الحكواتيين حوروا فيها كثيرا حتى أصبح البعض لا يكاد يصدقها، وينطلق من شهادته الشخصية ويعود في تصريح لـ«الشرق الأوسط» إلى الأربعينات من القرن العشرين بين سنتي 1947 و1948 ويقول: «في ذلك الوقت كنا أطفالا صغارا، وجاء إلى تندوف بشكل مفاجئ رجل غريب الأطوار سيعرفه الناس باسم (هدّارة). وفي المكان الذي يسمى (أودي العقاية) كنا نحن الأطفال الصغار نخرج من الكتاب حيث كنا نقرأ القرآن، ونستغرب من ذلك الشخص الذي كان يجلس كنعامة، وكنا في شقاوة الأطفال نرميه بالحجارة، فينتفض قافزا كما النعام، وهو يمر بنباتات سامة ويلتهمها أمامنا ولا يحدث له أي مكروه، وكان يمص إبهامه وكأنه يشرب منه شيئا. وبعد أشهر قليلة من ظهوره اختفى بشكل مفاجئ كما ظهر لأول مرة ولم يعد له أثر».

وربما تلك الذكرى الطفولية البعيدة هي التي جعلت المؤرخ أحمد تواقين يبحث في تلك الشخصية التي اشتهرت كثيرا على المستوى المحلي.

وحكاية «هدّارة» يرويها شيخ من منطقة توات بالجنوب الغربي الجزائري اسمه محمد سالم، الذي التقى هدّارة وروى له كيف هبت العاصمة الرملية على أهله وتاه ذلك الطفل الذي كان في الشهر التاسع من عمره، وساعتها احتضنته نعامة وعاش مع النعام السنوات الأولى من عمره. وروى هدارة أن «شخصا غير عادي» ختنه، ولم يشعر بألم، وعلمه أجزاء من القرآن الكريم وبعض كتب الفقه الإسلامي على مذهب الإمام مالك بن أنس المعروف بالمنطقة. وقال له هذا الشخص «إذا شعرت بالجوع مص إبهامك الأيسر، وكان يفعل ويشرب من ذلك الإصبع الحليب. وبقي مع النعام لغاية العاشرة من عمره تقريبا قبل أن يكتشفه شخص ويعيده إلى قومه، وعندما أعاده إلى أهله كان لا يتكلم، وظنوا أنه أبكم ولما علموا أنه يحفظ أجزاء من القرآن الكريم، وكانوا أميين لا يقرأون ولا يكتبون، أصبح له شأن كبير، وذهب في رحلتين إلى الحج. وكانت الرحلة الأخيرة في العشرية الثانية من القرن العشرين، عندما شارك في الثورة العربية ضد جيوش الأتراك العثمانيين، وفي كل مرة يشعر بالحنين إلى بني قومه من النعام، كان يعود إليهم، وتأرجحت حياته بين العيش مع النعام والعيش مع البشر إلى أن توفي نحو سنة 1958، وقد عاش نحو 145 سنة».

كانت حكاية هدّارة من الغرابة بحيث كتب عنه الكثير من الباحثين والمؤلفين، إضافة إلى الصحافية السويدية مونيكا زاك المتخصصة في الأساطير والتي سبق لها أن أجرت تحقيقا ميدانيا في الأماكن التي يفترض أن ذلك الكائن الأسطوري عاش فيها، وكتبت عنه روايتها «الطفل الذي عاش مع النعام»، وترجمت إلى الكثير من اللغات العالمية ومنها العربية. وصدرت النسخة المعربة في الجزائر سنة 2007. كما كتب عن هدارة باحث سوسيولوجي من دولة مالي في مجلة «الإنسان والمجتمع» لعالم الاجتماع الفرنسي لوسيان غولدمان، وغيرهم كثير.

وعندما نسأل المؤرخ أحمد تواقين الذي بحث في شخصية هدارة، أين تنتهي الحقيقة ويبدأ الخيال؟ يؤكد تواقين أنه ينقل بأمانة علمية المرويات كما سمعها من أصحابها. ويقول إن الكاتبة السويدية مونيكا زاك في روايتها اعتمدت كثيرا على الخيال المجنح في ملء نقاط الظل الكثيرة التي اكتنفت الحكاية المروية، دون أن ينقص ذلك من قيمة حكاية «طرزان الجزائري» الذي ينتظر من يحول شخصيته إلى فيلم سينمائي بمقاييس عالمية كما حدث لأبطال أسطوريين بمستوى قامته.